يبحث العلماء والخبراء في السبيل الى نجاح دولة ما في إدارة شؤون شعبها بما يحقق لها العيش الكريم وايجاد العلاقة السليمة والبناءة بينها وبين مؤسسات الدولة من حكومة وقضاء ومجلس نواب منتخب، وقد أكد العديد من هؤلاء على خيار الأخلاق كقاعدة للانطلاق في التعامل مع مختلف القضايا في المجتمع، مستشهدين بذلك بتجربة الرسول الأكرم، ومنهجه الرائد في تحكيم الأخلاق في جميع نواحي حياته التي عاشها بين المجتمع المكّي في بداية دعوته للإسلام، وبين المجتمع المدني بعد تأسيسه لأول مجتمع اسلامي.
وقد أثرى المؤرخون والكتاب في هذا الجانب ببحوث ومؤلفات لا تُعد، عن جمال الخلق النبوي مع افراد المجتمع، وكيف انه، صلى الله عليه وآله، تعامل مع الصغير والكبير والسيد والعبد، والمؤمن والمنافق، بالأخلاق الفاضلة وتمكن من كسب الجميع، ومن خلالهم تشكيل الامة الواحدة التي عبّر عنها القرآن الكريم بـ {خير أمة}، وعلى نفس الخُطى، سار أمير المؤمنين، ومن بعده الأئمة الاثني عشر، عليهم السلام، والأولياء الصالحين والعلماء الربانيين.
هذا في جانب النبي الاكرم، او في جانب القيادة التي تتبنى هذا المنهج، فماذا عن الجانب الآخر؛ وهم الناس و افراد المجتمع، وما موقفهم من هذا المنهج؟ هل هو التفاعل والاستجابة والايمان، أم الاكتفاء بالاستحسان والتناغم عاطفياً؟
تنمية الروح الايجابية
بما أن الاخلاق الحسنة، تمثل قاعدة للسلوك والتفكير، فانها تبني منظومتها على أرضية نفسية في داخل الانسان، تجعل منه انساناً صادقاً وأميناً ومتواضعاً وغيرها من الصفات الحميدة، من خلال الوازع النفسي المشبّع بهذه القيم الاخلاقية، لذا نجد علائم الاخلاق في حياة الانسان؛ ضميره ووجدانه.
هذه القيم لن تجد لها حياة سوى في الروح الايجابية في نفس الانسان، من كان موغلاً في اليأس والتشكيك والشعور المتواصل بالهزيمة والفشل، لن يجد فائدة من التحلّي بتلك الصفات الحميدة التي هي بحد ذاتها بحاجة الى تنمية ورعاية لتتجسد في الواقع الخارجي، بل ان البعض يرى في نفس هذه الصفات – مع اعترافه بجمالها وأهميتها- نوعاً من التجسير في المجتمع لتحقيق غايات معينة، فلا وجود للانسان الخَلوق بشكل حقيقي!
وهناك عوامل خارجية تساعد على إذكاء الروح السلبية تقف ورائها جهات عدّة لها اهداف مختلفة تسعى لنشر التشاؤم واليأس في بين الناس، وهو ما يجد اذاناً صاغية عند البعض لانه لا يكلف جهداً، مثل التفاؤل الذي يدعو الى المبادرة والتفاعل مع المحيط الخارجي والتنافس لتقديم الافضل.
وما يعضد أقوال تلكم الجهات، أنهم ينقلون "الواقع"، بينما هم يجانبون الحقيقة فيما يعملون، فالواقع الذي يعشه الانسان في كل مكان خليط من النجاح والفشل، ومن الصعود والنزول، وهذه هي الحقيقة التي لا يماري فيها أحد، فاذا كان هنالك فشل، لابد من وجود نجاح في مكان ما.
وهنا تحديداً تكون الحاجة للبحث عن مكامن النجاح في الحياة، وما هي السبل للوصول اليها؟ وقد كتب علماء النفس وبحثوا بعمق في تنمية الروح الايجابية وانتشالها من مستنقع السلبية، ومما ذهبوا اليه؛ معرفة وإدراك الطاقات الايجابية الكامنة في نفس كل انسان، وانه قادر على تغيير واقعه الى الافضل، بل والتأثير ايجابياً على المحيط الخارجي ومساعدة المجتمع على التغيير الاكبر في المجالات كافة.
واذا عادت الروح الايجابية حينئذ يمكننا الحديث عن الصفات الاخلاقية بين افراد المجتمع، وامكانية تجسيد الصفات في الافراد و المجتمع، ومن ثم؛ تكون لغة الخطاب والتواصل بينها وبين مؤسسات الدولة والحكومة التي تحتاج دائماً للوازع الذاتي يساعدها على تحكيم النظام والقانون.
بل ان علماء الاخلاق يرون أن الحالة الايجابية، ليس فقط تساعد على نشر الفضيلة في المجتمع، بل وتساعد على ما هو أعمق، بأن تكون دعامة لعملية "تزكية النفس"، وهو ما ذهب اليه المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي في كتابه: "الاخلاق عنوان الايمان ومنطلق التقدم"، بأن "أهم في النفس الصالحة، الحالة الايجابية التي يصطلح عليها علماء الاخلاق باسم الشكر، والرضا، والتوكل، والصبر، وما الى ذلك من مصطلحات تشترك جميعها في أن الروح التي تقف وراء هذه الخلقيات الفاضلة، هي الروح الايجابية".
الشُكر يطرد الحالة السلبية
صحيح أن مفهوم الشكر ينبعث من الروح الايجابية، بيد انه يمثل لوحده منطلقاً للإيجابية وتبديد كل الافكار السلبية، واذا بحثنا في الظروف التي عاشتها الشعوب المتقدمة من دول العالم الثالث، نجد الشكر متجسداً بأشكال غير التي نفهمها وفق الرؤية الدينية، فهنالك القبول بالأمر الواقع، كما هنالك العرفان للجميل، وايضاً احتساب القوة الفعلية مع الطموح وامكانية تحقيق الاهداف والغايات.
وفي الرؤية الدينية فان الشكر يمثل قيمة حضارية عالية، تدعو الى الرفاهية والتقدم، لنأخذ مثالاً واحداً على قيمة الشكر من سيرة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، عندما جاءه جبرائيل وقال له؛ أن العليّ الأعلى يخيره بين أن يكون ملكاً له جبال من الذهب والاحجار الكريمة، او ان يكون نبياً، من حيث الظاهر، كأي واحد من الناس، فسأله جبرائيل عن السبب، فأجاب: - مضمون الرواية- آكل ثم أشكر.
وقد ورد الحثّ على الشكر في آيات عديدة بالقرآن الكريم على أنها من صلات الوصل بين العطاء والرحمة الإلهية وبين الانسان، ونقيض الشكر؛ الكفر والنكران، مما يدفعنا لأن نتخذ من هذه الفضيلة باباً للخروج من الحالة السلبية والضيق النفسي الى رحاب المبادرة والمنافسة، لنقرأ هذه الآية الكريمة ونرى كيف أن الشكر يدفع الى التفوق والنجاح: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}، (سورة الانعام،53)، والافتتان الذي تتحدث عنه الآية الكريمة، هو ميدان العمل في الحياة المفتوح للجميع، فمن يشكر ويحمل الروح الايجابية المنفتحة، هو الذي يتفوق وينجح، وأن الله –تعالى- يكون المؤيّد والمسدّد.
وما أحوج شعوبنا الاسلامية، وبالذات الشعب العراقي الذي يحظى بين عديد الشعوب والبلاد الاسلامية بفرص كبيرة وعظيمة للنمو والتطور، مثل الحرية والنظام الديمقراطي – نسبياً- والقدرات والثروات وغيرها كثير، لإعادة الحياة الى الروح الايجابية وطيّ صفحات الماضي والتجارب السيئة الباعثة على الشؤم والاشئمزاز، لتكون صاحبة أرضية صالحة لمن يريد تحكيم القيم الاخلاقية في مؤسسات الدولة، والأهم من ذلك؛ تكون الحجة البالغة على من يتحدث عن نواياه في الإصلاح والتغيير وانه يبحث عمن يعاضده وينصره في مسعاه.
اضف تعليق