كيف يمكن ان نبرر احكامنا الاخلاقية؟ لنأخذ مثالا حيا نجد فيه معظم الناس الفقراء والاقليات الاثنية في العالم الغربي هم اقل تعليما من الناس البيض والأثرياء. قد يكون الحكم هنا وصفيا مرتبطا بعدم كفاءة النظام التعليمي، ولكن يمكن الحكم ايضا بوجود لامساواة في التعليم وهذا لايصح اخلاقيا. ولكن ما الذي يجعلنا نعتقد باننا صائبين في مثل هذا الحكم؟ عندما يُوجّه مثل هذا السؤال للناس فهم عادة يستخدمون نوعا من الاستراتيجية.
فمن جهة، ربما نرى من المعيب ان تقع هذه الحالات خاصة عندما يكون البلد حافل بتاريخ من التمييز العنصري كالولايات المتحدة. ومن جهة اخرى، ربما نعتقد من حيث المبدأ اننا مسؤولون عن ازدهار الانسان وان التعليم هو عنصر اساسي في هذا الازدهار. اللجوء اما الى الاخلاق او الى المبادئ يبدو ستراتيجية شائعة استخدمها الفلاسفة وغير الفلاسفة في محاولة تبرير أحكامهم الاخلاقية. بعد ان ندرس كل اتجاه على انفراد سوف نثبت بان الاستراتيجية المثلى هي فقط الاستراتيجية المزدوجة التي تستخدم كل من المشاعر والمبادئ في تبرير أحكامنا الاخلاقية.
البداهة intuitions
لكي نركز نقاشنا، سنتوقف عند التقليد الاخلاقي البارز الذي انبثق من اعمال الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (1711-76). طبقا لهيوم، نحن نوع من الكائنات لدينا مستوى فطري من المشاعر في الموافقة او الرفض عند النظر الى مواقف معينة. عندما نرى التجاهل في تعليم الاطفال، مثلا، فنحن نميل للشعور بالكراهية والخجل. او، حينما نرى طفلا يمرح فسنشعر بالمتعة والرضا. هيوم اطلق على هذه الأحاسيس بالمشاعر sentiments.
هذه المشاعر هي هامة جدا في نقاشنا الحالي لأننا نبدو نجسدها بنوع من المباشرة العفوية والفورية. كذلك، قد تبدو لمشاعر معينة جاذبية اخلاقية داخلية. لننظر في الغضب والمتعة: الأخيرة هي شعور يجب تعزيزه، بينما لا يجب ان نعزز مشاعر الغضب. فكرة هيوم هي اننا نستطيع تبرير أحكامنا الاخلاقية حول الموقف من خلال المشاعر المسؤولة اخلاقيا التي نشعر بها عند الاستجابة لذلك الموقف (صديقه آدم سميث كتب مقالة شهيرة في نفس الموضوع اسماها نظرية المشاعر الاخلاقية).
احدى المخاوف التي تبرز من هذا التفكير هو ان الناس ليس لديهم دائما ما نعتقد من المشاعر الملائمة في مواقف معينة. هناك اناس يشعرون بالمتعة تجاه آلام الآخرين، مع ذلك نحن لا نريد القول ان هذه المشاعر يجب ان تبرر أحكامهم الاخلاقية. هيوم يتوقع هذا الخوف، ويطمئننا بان التعاطف مع الآخرين في العموم هو جزء من طبيعتنا الانسانية. لكن هذا التعاطف ليس مجرد واحد من بين المشاعر الاخرى بل هو قابلية او نزعة للشعور بمشاعر فرد آخر. اعتقد هيوم ان هذا كان نتيجة لإحساس خاص، اما سمث اعتقد انه تم بفعل عملية انعكاس سايكولوجية: (مثلا) عند تصور آلام شخص آخر، نحن نشعر بجزء من ذلك الألم بأنفسنا ولذلك نحن من الطبيعي نسعى الى تخفيفه.
لكن هذا الجواب ملائم فقط الى حد معين. انظر مرة اخرى بمثال اللامساواة في التعليم. قبل خمسين سنة مضت، لاحظنا كيف فشل التعاطف في انتاج مشاعر سلبية لدى الامريكيين البيض في الاستجابة لعدالة فصل المدارس الرديئة الخاصة بأطفال الامريكيين السود، والأسباب لا يصعب تحديدها. الفصل ذاته ربما منع الامريكيين البيض من الاحساس بتعاسة اولئك الذين تأثروا بالتعليم غير العادل، تاركا للتعاطف فرصة ضئيلة في تصحيح مشاعرهم غير الملائمة. والاكثر اشكالية، هو ان اللامساواة ذاتها تبيّن ان العديد من الناس لديهم مشاعر غير ملائمة. لهذه الاسباب تبدو المشاعر بذاتها غير كافية في تبرير الأحكام الاخلاقية.
المبادئ principles
بما ان اتجاه هيوم في البداهة حفل بهذه المشاكل، لننظر الى الاستراتيجية الثانية في تبرير الاحكام الاخلاقية وهي اللجوء الى المبادئ: مرة اخرى، لكي نركز النقاش، سنلقي الضوء على التقليد البارز في الاخلاق، المرتبط هذه المرة بالفيلسوف الالماني عمانوئيل كانط (1724-1804). طبقا لكانط، العقل يزودنا باختبار لتحديد المبادئ الاخلاقية الجيدة. الخطوة الاولى في هذا الاختبار هي تمييز ما يكون عليه فعلنا في ظروف معينة. فمثلا، انظر في الموقف عندما تصبح منزعجا من وظيفتك وتبحث عن وظيفة جديدة. انت بالنهاية تحصل على مقابلة ولكن لسوء الحظ انها ستحدث اثناء ساعات العمل. لكي تحضر المقابلة انت تحتاج لتغيب يوم واحد عن عملك الحالي، لكنك تدرك ان صاحب العمل سوف لن يسمح لك بالغياب لو اخبرته بالسبب الحقيقي لترك العمل في ذلك اليوم. ربما من الاسهل لك ولصاحب العمل ان تكذب بمجرد القول انك مريض ولا تستطيع العمل في ذلك اليوم.
التقييم الصادق لعملك هذا هو انك تنوي الكذب على صاحب العمل. حالما انت تحدد هذه الخطة فان الادّعاء الكانطي يشير الى ان العقل يزودنا بمعيار نستطيع بواسطته الحكم على السمة الاخلاقية للخطة. لكي نبني هذا المعيار، نحتاج فقط لسؤال واحد بسيط: "ماذا لو تصرّف كل شخص طبقا للخطة السابقة في العمل؟" اذا كان الموقف الذي تصفه في الجواب لهذا السؤال منسجما، عندئذ انت تستطيع الاعتقاد بان الفعل الذي تخطط له مسموح به اخلاقيا. اما الخيار الآخر يمكنك الاستنتاج بان عملك غير مسموح به ولذلك سيكون من الخطأ القيام به. وبالعودة الى مثالنا، بعد تحديد خطتك في الكذب، انت يجب ان تسأل نفسك "ماذا لو كذب كل شخص؟" سوف لن نحتاج جهدا لندرك ان الهدف من الكذب هو الخداع، ولكن لو كذب كل شخص فسوف لن يُخدع اي شخص آخر لأن كل واحد سيتوقع الكذب من اي شخص آخر. طبقا لكانط، هذا النوع من اللاانسجام بين هدف الكذب ونتائجه العالمية يوفر تبريرا للحكم الاخلاقي بان الكذب امر خاطئ.
غير ان هذا يشكل فقط نصف القصة. حتى لو ان اختبار كانط شخّص مبادئ الاخلاق الجيدة، نحن يجب ايضا ان نسأل من هم اولئك الذين تُطبّق عليهم تلك المبادئ. بالنسبة لكانط، هذه المبادئ تنطبق على جميع الافراد الاخلاقيين، لذا يجب على كل فرد اخلاقي قول الحقيقة لكل فرد اخلاقي آخر. غير ان هذا الجواب يعتمد على الاعتراف بان الافراد الاخلاقيين هم افراد اخلاقيين. لو عدنا الى اللامساواة في التعليم سنرى بان هذا الامر يخلق صعوبات. وهكذا بالرغم من ان معظم الاثرياء البيض هذه الايام يعترفون بان الفقراء او غير البيض هم افراد اخلاقيين تامين، فان هذا ليس هو الحالة دائما. قبل وقت ليس ببعيد كانت الحاجة في الغرب لتبرير العبودية والاضطهاد العرقي دفعت البيض للاعتقاد بان السود ليسوا عقلانيين تماما. لذا بالرغم من ان العنصريين يعترفون بان الفرد يتعرض للاذى حين لا يتلقى تعليما جيدا وان ايذاء الفرد هو عمل خاطئ، لكنهم لا يعترفون بان السود الذين هم ضحايا اللامساواة في التعليم هم افراد تامين ويستحقون الاحترام الاخلاقي. بدلا من ذلك، هم يرون هؤلاء الضحايا مجرد حيوانات لا انسانية، وعلى هذا الاساس يبرر العديد من البيض احكامهم الاخلاقية غير الملائمة لأنفسهم ولزملائهم.
عملية التوازن
من هنا سنكون قادرين على تشخيص المشكلة في كل من استراتيجية هيوم وكانط عند التعامل معهما انفراديا: كل واحدة من الاستراتيجيتين تتركنا مع نظام ثابت مثير للجدل في تبرير الاحكام الاخلاقية. المشكلة هي انه حالما تصبح بعض الاحكام الاخلاقية مقبولة بشكل واسع في المجتمع، فان اي من الاستراتيجيتين لن يقدم آلية لنقد تلك الاحكام. في استراتيجية كانط يحصل هذا بسبب ان الظروف الاجتماعية تمنع الناس من الاعتراف بالافراد الاخرين كافراد اخلاقيين تامين، بينما في استراتيجية هيوم، ذلك بسبب ان الظروف الاجتماعية ربما تعزل الناس عن الصورة الاكبر وبالتالي تشوّه مشاعرهم. الاقتراح الملائم هو ان نتعامل مع هذه القضايا بطريقة كافية لتبرير أحكامنا الاخلاقية باستعمال كل واحدة من الاستراتيجيتين لدعم الاخرى.
الفكرة الاساسية وراء هذه الاستراتيجية المشتركة هو اننا يجب ان نبدأ حيثما نجد انفسنا، ولكن يجب ان لا نبقى من حيث بدأنا. لذا اذا وجدنا انفسنا بمشاعر قوية من التعاطف فيجب ان نؤمن بها كحقيقة، لكن يجب ان نسأل انفسنا بسرعة وفق الاسلوب الكانطي ماذا نعتقد لو كانت لدينا هذه المشاعر تجاه اي فرد. في حالة اللامساواة في التعليم، الناس الذين يشعرون بمشاعر محايدة او ايجابية عند النظر للفقراء من الطلاب الذين يتلقون تعليما سيئا هم من غير المحتمل ان يشعروا بالراحة حول نفس المشاعر المتصلة بالناس البيض الاثرياء كما لو انهم ذاتهم يتلقون تعليما سيئا. هذا اللاانسجام في المشاعر يشير الى ان مشاعرهم الاصلية كانت مضللة وانه من المحتمل جدا ان يكون هناك مبدأ اخلاقي هم لا يثمنونه. لذا، يمكن للناس بهذه الآلية الارتفاع من المشاعر الاخلاقية الى المبادئ الاخلاقية، مضيفين عنصرا ديناميكيا تصحيحيا على ستراتيجية هيوم.
والحل الآخر، حين نجد انفسنا ندعم بقوة مبادئ اخلاقية معينة، فنحن يجب ان نأخذ بها كحقيقة عند البدء بها، ولكن من هناك يجب ان نبدأ بتصوّر انواع المشاعر التعاطفية التي تثيرها تلك المبادئ في تطبيقاتها الواسعة. فمثلا، اذا كان مبدئنا هو ان صنف معين من الناس كالرجال البيض او الاثرياء هم فقط لهم الحق في تعليم جيد، فنحن سوف لن نشعر عموما بأي مشاعر مزدوجة عندما نتصور كل الاشياء الجامدة او الحيوانات اللاانسانية التي لا نقوم بتعليمها.
لكن تصوّر النوعية المتدنية للحياة التي يعيشها الطلاب الفقراء بسبب نقص التعليم يجب ان يخلق مشاعر مزدوجة حتى لو كانت لدى شخص ما تصورات عنصرية او طبقية مسبقة. عبر الاعتراف بهذه المشاعر المختلطة يستطيع الناس تطوير مبادئهم الاخلاقية والاعتراف بشكل افضل بالمكانة الاخلاقية للناس الذين كانوا يتجاهلونهم. بهذه الطريقة، يمكن استكمال ستراتيجية كانط في عولمة المبادئ لكي يستطيع الناس النزول من المبادئ الاخلاقية الى المشاعر الاخلاقية من اجل تحديد المجال الملائم لمبادئهم.
عبر دمج هاتين الآليتين التصحيحيتين الى بعضهما نكون قد قمنا بعملية اطلق عليها الفيلسوف الامريكي جون رولس بـ "التوازن الانعكاسي" رغم ان البعض يفضل تسمية "حكم الفطرة السليمة".
اعتمادا على الموقف في البداية نحن اما نفكر عقلانيا بمشاعرنا او نفكر عاطفيا في مبادئنا ونجري تغييرات عند الحاجة. من هناك سوف نجد أنفسنا بموقف اخلاقي جديد، ومسؤوليتنا هي ان نستمر عقلانيا وعاطفيا في التفكير. عندئذ نحن نعمل كل ما نستطيع لتبرير احكامنا الاخلاقية، وحينذاك فقط نستطيع الاستمرار بالنمو ككائنات اخلاقية.
اضف تعليق