يتضمن الجزء الثالث من وصف الأمراض الاجتماعية التي وردت في نهج البلاغة للإمام علي(ع)، تلك المشاعر الخيالية التي تتركز على: الأماني والمنى والآمال. وهي مشاعر نفسية، متداخلة، تظهر في أعماق الإنسان، تحركه، للبحث عن تطلعاته وغاياته وطموحاته، تدفعه وتبعث في نفسه الرغبة في الوصول لهذه الأهداف.
وتكتسب هذه المشاعر، أهمية خاصة، لسببين:
الأول يكمن، في الطبيعة التكوينية للغايات والأهداف، من ناحية صدقيتها وواقعيتها وإمكانية تحققها.
والثاني، يتمحور في الوسائل المجدية التي يجدر بالإنسان أن يعتمد عليها في تحقيق مطالبه ورغباته. لكن الخطورة في هذا المجال، هي أن تتحول الأهداف والغايات إلى صور خيالية، ومطالب مستحيلة، غير واقعية، أوهام في عالم الأحلام. أما الوسائل تصبح مجرد تمنيات، إذ يقضي الإنسان حياته غارقا ً في استعراض أمانيه الكبيرة، يخيل إليه أنه سيصل إلى مراميه يوما ً ما، فيخلد إلى الكسل والوهن، دون عمل وعزم وتصميم. لأن الإنسان إذا عَظُمت رغبته في حصول أمر ٍ ما، يُكثر من تصوره إياه، فربما يخيل إليه أنه سيحصل عليه.
وقبل أن نبين هذه الجوانب، لابد من المرور على معاني هذه المشاعر في اللغة العربية.
معنى الأمل والمنى والأماني في اللغة العربية
الأمل، جمعه آمال، هو رجاء وتوقع، عكسه يأس. وأمَلَ الشيء يعني رجاه وترقب الحصول عليه. ومؤمل، متوقع. إذن الأمل هو رجاء أو اعتقاد بحصول الشيء. فهو فُرصة وفُسحة يبحث عنها الإنسان، ويتوقع أنها ستحقق مراده وما يصبو إليه.
أما المُنى والأماني، فهما متقاربان جدا ً في المعنى. فالمُنى جمع مُنْيَة، وهي البغية والمراد، وما يرغبه الإنسان ويشتهيه ويحب أن يصير إليه ويحلم به، ويعلل نفسه باحتمال الوصول إليه. والأماني هي جمع أمْنِيَة، ويقال في جمعها أمان ٍ، وتعني أيضا ً البغية والمراد، وما يتمناه الإنسان. وتمني الشيء: طلب حصوله. والتمني وجمعه تمنيات هو تعلق النفس بالآمال والأحلام. إذن المنى والأماني، يمثل كل منهما تطلعات الإنسان ورغباته وطموحاته التي يريدها ويطلبها. لكن الأمر المثير، هنا، بعد عرض المعاني الجميلة لهذه المفاهيم، هو الإساءة المقصودة أو غير المقصودة، عند قسم من الناس، في استعمال الآمال والمنى والأماني، إذ أبعدوها عن مسارها الصحيح الإيجابي، وحوّلوها إلى الجانب السلبي، وهو عبارة عن أوهام باطلة وصور خيالية لا أثر لها من واقع دون السعي الجاد لتحقيقها.
الجوانب السلبية للأمل
إن للأمل جوانب سلبية، من المؤسف، أنها طغت على جوانبه الإيجابية، إذ من المفروض أن يكون الأمل قوة ومعين للإنسان، ويبعث فيه الرغبة في العمل، ويدفعه إلى العمل النافع الصالح. أضف إلى ذلك ينبغي أن يكون هذا الأمل صادقا ً، وهو الذي يجب أن يتعلق به الإنسان، ويجعله هدفا ً وغاية له.
لهذا جاءت تحذيرات شديدة، للإمام علي، من الجوانب السيئة للأمل، متمثلة في الاعتماد على الأمل دون أن يرافقه عمل، والثقة العالية بطول الأمل، وكيف أن الأمل يُسهي الإنسان ويجعله غافلا ً عن تغير الأحوال، أضف إلى ذلك توالد الآمال وتجددها دون نهاية عند قسم من الناس، واستعمال الأمل في كثير من الأحيان، فيما يُستبعد حصوله، وتفكير الإنسان بآماله وليس بعقله.
طـول الأمــل
أكثر ما نهى عنه الإمام، في هذا المجال، هو "إطالة الأمل"، في البقاء بالدنيا، والاطمئنان لها، وذلك أن يعيش الإنسان طويلا ً، واستبعاده فكرة الموت، وترك الاستعداد له. ويُعرّف محمد عبده، شارح نهج البلاغة، طول الأمل بقوله: هو استفساح الأجل والتسويف بالعمل طلبا ً للراحة العاجلة وتسلية للنفس بإمكان التدارك في الأوقات المقبلة، وهذا من أقبح الصفات. فالغاية، إذن، من طول الأمل هو التكالب على الدنيا وكثرة السعي في طلبها.
وكان الإمام يخشى على الناس من سلوكين مذمومين، أحدهما هو موضوعنا " طول الأمل"، والآخر "اتباع الهوى". لأن طول الأمل ينسي الآخرة، فيجعل الإنسان أقرب إلى ارتكاب الذنوب. أما الهوى فيصد عن الحق لهذا يقول الإمام: " أيها الناس! إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتباع الهوى، وطول الأمل. فأما الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة ". وقد بين الإمام علي أن سلبيات إطالة الأمل في حياة الإنسان، هو سوء تصرفه، وقبح عمله، والتسويف بأعمال الخير: " مَن أطال الأمل أساء العمل". وينهى الإمام عن تأخير توبة الإنسان، لطول أمله بالبقاء: "لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل، ويرجي التوبة بطول الأمل". ويوضح الإمام، أن النتيجة الحتمية للإنسان، بطول أمله بالدنيا هي الموت والهلاك، كما حصل في الأمم السابقة: "وإنما هلك مَن كان قبلكم بطول آمالهم وتغيُّب آجالهم".
ويمضي الإمام بالتأكيد على أخذ العبرة مما أصاب السابقين لاعتمادهم على طول الأمل، وما حل ّ بهم وكيف أن الإنسان لا يخاف مفاجآت الحياة ونكبات الدهر، فيقول: " فقد رأيت مَن كان قبلك من جمع المال، وحذر الإقلال، وأمن العواقب، طول أمل ٍ، واستبعاد أجل ٍ، كيف نزل به الموت".
ويتقارب مع "طول الأمل"، مفهوم "الذين يأملون بعيدا ً"، ويمعنون فيه ويتجاوزون الحد، وهؤلاء أيضا ً نهايتهم الموت وينبغي أخذ العبرة من سيرتهم، وقد وصفهم الإمام علي بقوله: "أما رأيت الذين يأملون بعيدا ً، ويبنون مشيدا ً، ويجمعون كثيرا ً، كيف أصبحت بيوتهم قبورا ً، وما جمعوا بورا ً". البور (من الناس): الهالك لا خير فيه. وبعكس طول الأمل، يؤكد الإمام، أن الذين يُقصرون أملهم في الدنيا، هم الزهّاد، إذ يعملون للآخرة، بخلاف الراغبين فيها: "أيها الناس! الزهّادة قِصر الأمل، والشكر عند النعم، والورع عند المحارم". أي أنهم يستعدون للموت بالعمل الصالح، وليس انتظار الموت بالبطالة.
العلاقة بين الدنيا والأمل
وتتضح سلبيات أمل البقاء في الحياة، ومساوئه، في موقف الإمام من الدنيا، فهو ليس ممن ينخدع بها، ويستهويه باطلها. فأملها صغير، لا قيمة له عنده: " يا دنيا إليك عنّي.... فعيشك قصير، وخطرُك يسير، وأمَلُك حقير". كما أن هذه الدنيا تخدع الذي يأمل لها بالبقاء، والاطمئنان لها، لذا جاء تحذير الإمام للمؤملين بالدنيا: "أيها الناس! إن الدنيا تغر المؤمل لها، والمخلد إليها". وبين الإمام للناس، إن من أولع بحب الدنيا وثابر في طلبها، فقد التصق قلبه بثلاث آفات، منها الأمل، الذي سوف لا يبلغه، ولا يناله، من شدة حبه للدنيا وطمعه ورغبته بالمزيد، فكلما حصل على شيء، أراد غيره وهكذا: "ومن لهج قلبه بحب الدنيا التاط قلبه منها بثلاث: هم لا يغبه، وحرص لا يتركه، وأمل ٍ لا يدركه". ويبدو أن آمال الإنسان، في الدنيا، لا نهاية لها، ولن يدركها، لأنه عندما يحصل على مطلوب وتحقيق أمل سيتجدد له آخر، وهكذا حتى يرد الموت، كما يبين الإمام، ذلك، في وصيته لولده الحسن: " واعلم يقينا ً أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك ".. ففي الدنيا، إذن، تتجدد الآمال التي لا نهاية لها، هذا ما يؤكده الإمام في القصار من كلماته: " الدهر يُخلق الأبدان، ويجدد الآمال، ويقرّب المنية، ويباعد الأمنية".
أثـر الأمل في حياة الإنسان
إن للأمل، آثار سلبية في حياة الإنسان والمجتمع، إذا ما أسيء استعماله، ذلك بالاعتماد عليه، دون عمل، دون جهد، فترى الإنسان، يقضي أوقاتا ً طويلة، غارقا ً في أحلامه وتصوراته. من هذا، يبين الإمام في خطبة له عن عظة الناس، أن الأمل يذهل العقل وينسي ذكر الله وأوامره ونواهيه، ويجعل النفس، مستقرة على ما وصلت إليه، غير ناظرة إلى تغيّر الأحوال، ولا آخذة بالحزم في الأعمال. ولذا يطالب الإمام بتكذيب الأمل، لأنه يخدع الإنسان: " واعلموا أن الأمل يسهي العقل، وينسي الذكر، فاكذبوا الأمل فإنه غرور، وصاحبه مغرور". ومن آثار الأمل، في المجتمع، أنه يجعل الناس المغرورين بالأمل، أن يجتمعوا ويتوافقوا على حب ما يؤمله أحدهم للآخر من منافع يسترضيه ويصانعه لأجلها، وأيضا ً فهو لا يأمره بمعروف، ولا ينهاه عن منكر خوفا ً من أن تضيع آماله عنده، وتفسد مكانته لديه، ولكن في الوقت ذاته، نجد هؤلاء يختلفون وتنبت بينهم العداوة عند كسب الأموال، هذا ما يؤكده الإمام بقوله: "وتصافيتم على حب الآمال، وتعاديتم في كسب الأموال".
العلاقة بين الأمل والأجل
تتركز العلاقة، بين الأمل والأجل، أي موت الإنسان ونهايته، في أن هذا الإنسان، يتمسك بأمله، ويمني نفسه بلوغ مطلبه بلا عمل، فيأتيه الموت قبل أن يبلغ شيئا ً مما يريد، فلا يستعد للموت ولا يجعله نصب عينيه. وبهذه الحالة يستولي الأمل على الإنسان وينسيه الموت والاستعداد له بالأعمال الصالحة. وقد وصف الإمام هذه الحالة خير وصف، حين شبّه الارتباط الوثيق بين سلوك الإنسان وتصرفه وبين اعتماده على الأمل، كارتباط عِنان الدابة بها، وهو سير اللجام تُمسك به الدابة. فالدابة هنا لابد أن تعثر، وكذلك هذا الإنسان، لابد أن يسقط في أجله بالموت: " مَن جرى في عنان أمله عثر بأجله".
يبين الإمام، هنا، بصورة غير مباشرة، أن الإنسان لا يفكر في الموت والأجل، لأنه لو فكر بذلك لترك آماله وغروره: "لو رأى العبد الأجل ومصيره، لأبغض الأمل وغروره". لهذا يطالب أمير المؤمنين، الناس، الثبات على فكرة أنهم راحلون عن هذه الدنيا، وألا يسيطر عليهم الأمل، ولا يطول عليهم الزمان: "فأزمعوا عباد الله الرحيل عن هذه الدار، المقدور على أهلها الزوال، ولا يغلبنكم فيها الأمل، ولا يطولن عليكم الأمد ". كما أن الأمل في استمرار الحياة، مهما اعتقد بذلك الإنسان، فلابد من حصول أجله، هذا ما يؤكد الإمام: " إن المرء يُشرف على أمله فيقطعه حضور أجله، فلا أمل يُدرك، ولا مؤمل يُترك ".
أي أن المرء يسعى جاهدا ً لتحقيق أمله حتى يكاد يبلغه فيأتيه الموت. فلا يحصل الأمل، ويهلك المؤمل. ثم يطالب أبو الحسن الناس، الاطلاع على آثار السابقين، وكيف جاءهم الموت، فحال بينهم وبين آمالهم: "وقدّر لكم أعمارا ً سترها عنكم، وخلف لكم عبرا ً من آثار الماضين قبلكم، من مستمتع خلاقهم، ومستفسح خناقهم، أرهقتهم المنايا دون الآمال، وشذّ بهم تخرم الآجال".
ثم يوضح أمير المؤمنين، للناس، أن أولياء الله، هم الملتزمون بتقوى الله، وهم الذين يجعلون الموت نصب أعينهم، ويعملون الصالحات، وهم أيضا ً الذين لا يعتمدون على الأمل فيكذبوه: "عباد الله إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه وألزمت قلوبهم مخافته..... واستقرَبُوا الأجل فبادروا العمل، وكذبوا الأمل فلاحَظوا الأجل".
الجوانب السلبية للمنى والأماني
المنى والأماني، كما ذكرنا، هي رغبات، مطالب، مساعي، غايات، يطمح الإنسان أن يحققها وهي شاملة للجميع. غير أن هذا المنى وهذه الأماني، قد تكون ممكنة التحقيق، صادقة وقد تكون مستحيلة، خيالية، هذا من جانب. ومن جانب آخر، يمكن أن يقوم الإنسان بالجد والسعي والاجتهاد للوصول إلى مناه وأمانيه، وقد لا يبذل من الجهد، سوى التعبير عن الرغبة، يقضي حياته غارقا ً في استعراض رغباته وأحلامه. هذا الجانب هو الوجه السلبي للمنى والأماني، وهو يماثل الوجه السلبي للأمل الذي ذكرناه سابقا ً.
والإنسان يستطيع أن يتمنى ما يشاء، ولكن قد تكون هذه الأمنيات مجرد مزاعم، لا رصيد لها من صحة. وقد بين الإمام، أن سبب انخداع الإنسان بالأماني الكاذبة، غير الممكنة ناجم من عاملين: الأول خارجي، إذ أن هناك من يضلل هذا الإنسان. والعامل الثاني، داخلي، من نفس الإنسان. فحين مرّ، عليه السلام، بقتلى الخوارج يوم النهروان، قال: "الشيطان المُضل، والأنفس الأمارة بالسوء، غرّتهم بالأماني، وفسحت لهم بالمعاصي، ووعدتهم الإظهار فاقتحمت بهم النار".
كما أن الأماني المجردة، تجعل الإنسان لا يعرف طريقه، هذا ما ذكره الإمام في القصار من كلماته: "والأماني تعمي أعين البصائر". فالإنسان بهذه الحالة، لا يهتدي إلى طريق الصواب والحق. على هذا الأساس، جاء تحذير الإمام من التكالب على المنى، وما يتمناه الإنسان من قضايا قد لا تتحقق في الواقع، كما ورد في وصيته لولده الحسن: "وإياك والتكالب على المنى فإنها بضائع الموتى". وهي بضائع الموتى، لأن المتجر بها يموت ولا يصل إلى شيء، فإن تمنيت فاعمل لأمنيتك. لذا يطالب الإمام بترك مثل هذه الأمنيات، خاصة، المتمثلة بزخارف الدنيا كما يقول أيضاً: "وأشرف الغِنى ترك المنى". ويدعو، عليه السلام، الرحمة والأسف لمن يكذب مناه: "رحم الله امرأً سمع حُكما فوعى....... وكابر هواه، وكذب مناه".
إذن الخلاصة التي نحصل عليها من البحث في موضوعات الأمل والمنى والأماني، هي أنه لابد للفرد أو المجموعات أن تكون لديهم طموحات وغايات وأهداف، لكن ينبغي أن تكون خاضعة للتخطيط العلمي، وأن تكون قابلة للتحقيق والتنفيذ في معظمها. لابد من التأكيد هنا أننا لا نبحث أو نناقش الطموحات، التي تعتمد على وسائل غير نبيلة كالمكر والاحتيال والغش والخديعة. أضف إلى ذلك أن المعضلة التي تترافق مع وضع هذه الطموحات هي أن معظم الأفراد والمجموعات يفكرون بآمالهم وأمانيهم ومخاوفهم وأهوائهم ومصالحهم، وليس بعقولهم. لذلك نجدهم يتحمسون إلى كلمات طنانة، ويرفعون شعارات برّاقة، بكافة القضايا، بخاصة في السياسة، انهم تجّار السياسة. هذا ما نلاحظه في وقتنا الحالي من انفجار في التنظير السياسي، حيث التناقض بين الأسس الفكرية والشعارات المعلنة، وبين النتائج العملية التي تم الحصول عليها.
وعلى هذا الأساس أصبحت هذه الشعارات أوهاماً باطلة، منشأها كما يقول أحد الحكماء، هو ميلهم للتصديق بصحة الأمور التي تتطابق مع رغباتهم. بمعنى آخر أن بعض نظريات علم السياسة قد فشلت فذلك لأن طموحها كان عند نقطة الانطلاق غير معقول، وغير واقعي.
اضف تعليق