من أهم أهداف الثقافة والمثقفين، عملية الانتقال من اللفظ المنمّق إلى الجوهر العملي في ساحة التطبيق، وهذا من شأنه توسيع الثقافة الأفقية بين الناس، فالمثقف القائم على الأفكار وحدها، والذي يرتكز على الألفاظ وحدها، والذي يركز على الظاهري بدلا عن الداخلي الجوهري، لا يمكن أن يُسهم في توسيع رقعة الثقافة الأفقية...
كتب كثير من الكتاب والمهتمين بالشأن الثقافي، عن ماهيّة الثقافة، وعن دورها التفصيلي في الارتقاء بالإنسان، حتى يكون بدوره قادرا على تطوير وتحسين حياته وبيئته الاجتماعية والفكرية والعملية، فهناك من يظن بل ويؤمن بشكلية الثقافة، ولهذا تجده يجيد اللفظ التزويقي، وينظر إلى القشر الخارجي للثقافة وليس إلى أعماقها وجوهرها.
هذه النظرة الخاطئة للثقافة، قلّلت إلى حد كبير من صناعة (المثقف العضوي) الذي عرّفه غرامشي بأنه المثقف الفاعل الحيوي الذي يعمل على تحويل الثقافة من كونها ألفاظ وبناءات فكرية، إلى أفعال ملموسة تغيّر حياة الناس وتجعلهم أكثر ثقافة وأكثر قدرة على تطوير حياتهم وسلوكياتهم في التعامل مع الآخرين.
فالثقافة لاسيما الأفقية، والتي تشمل الطبقة الاجتماعية الأوسع، هي منظومة أفكار تتحول إلى سلوكيات، وبالتالي إلى منهج عملي سلوكي، فيكون الإنسان العادي الذي يتحرك ويتفاعل وفق هذه المنظومة إنسانا مثقفا، وليس ذلك الشخص الذي يتقن بعض الجمل والكلمات والمصطلحات ويكررها ويلفظها في هذا التجمع أو ذاك.
المثقف من الأوساط العادية هو الذي ينخرط في منظمة سلوكية مثقفة، فيشترك مع الناس في منهج سلوكي مثقف، قائم على احترام الآخر، والتعاون معه، والتعامل معه في ضوء قيم أصيلة صحيحة، تفتح آفاق العلاقات المتبادلة بين الجميع، وتحسّن سلوكيات الناس تجاه بعضهم، وترتقي بنظرتهم وعقليتهم باتجاه السمو والتوازن.
لذا فمن أهم أهداف الثقافة والمثقفين، عملية الانتقال من اللفظ المنمّق إلى الجوهر العملي في ساحة التطبيق، وهذا من شأنه توسيع الثقافة الأفقية بين الناس، فالمثقف القائم على الأفكار وحدها، والذي يرتكز على الألفاظ وحدها، والذي يركز على الظاهري بدلا عن الداخلي الجوهري، لا يمكن أن يُسهم في توسيع رقعة الثقافة الأفقية التي تتمدد لتشمل البسطاء والكسبة وأولئك الذين لم تتوفر لهم فرص التعليم والتثقيف وفاتهم قطار الثقافة.
كيف يمكن أن تتم عملية هذا الانتقال من الشكلي الثقافي إلى الجوهري، ومن ترويج المظهر على المضمون، هناك جملة من الخطوات من المهم الانخراط فيها:
- التركيز على الثقافة التفاعلية المتجانسة والمتشابكة، بحيث تجعل من مصالح الناس وحياتهم في بوتقة واحدة.
- صناعة المثقف الذي لا يختلف عن رؤية غرامشي، ذلك المثقف الذي يكون قادرا على صنع ثقافة سلوكية اجتماعية تشمل المجتمع كله، تقوم على منظومة قيم يؤمن بها الجميع ويتفقون عليها كمقياس لجودة السلوك.
- السعي لسحب أكبر عدد أو نسبة من الطبقة المهمشة، طبقة الكسبة والبسطاء، إلى ساحة الثقافة التفاعلية، ومساعدتهم على فهم المنهج السلوكي المثقف الذي يراعي حقوق الآخرين، ويتشابك معهم في منظومة قيم تحسّن حياتهم وتفتح آفاق الوعي أمامهم.
- توفير الفرص الفعلية لتطوير الثقافة الأفقية بشكل فعلي، فلابد من فتح الورش التثقيفية وترويج الشخصية (العادية) المثقفة، ولا يجب أن تنحصر الثقافة في شكل الإنسان الخارجي، وملبسه، وطريقة كلامه، ولا ينحصر بـ (الكاريزما) كما يحاول مثقفو الموجات الجديدة أو التي تنتمي إلى ما بعد الحداثة، أن يثبتوا بأن الشأن الثقافي والإبداعي من حصتهم وحدهم.
- وأخيرا هناك جزء مهم من المسؤولية يقع على عاتق الشخص نفسه، فلا يصح أن ينكمش ويعزل نفسه بحجة أنه إنسان بسيط ولا يريد أن يزج بنفسه في معمعة المثقفين (المدّعين)، فهذا الإنسان البسيط يؤمن بأن قطار الثقافة قد فاته، وأنه يعيش مع بيئته وواقعه في نوع من الوئام والسلام النفسي، ولكن عليه أن يتصدى لمسؤوليته في مهمة التطوير الذاتي الثقافي والانضمام إلى المنهج السلوكي المثقف.
فيما تقدم بأعلاه من نقاط، محاولة لمسك رأس الخيط (في ظل الفوضى الثقافية) كي يقودنا إلى تعزيز الثقافة الأفقية، ومنح الذين فاتهم قطار الفهم وفرص التعليم، فرصًا حقيقية تمنحهم الأمل من جديد كي يلتحقوا بعالم الثقافة الفعلية، والسعي الجاد، على الارتقاء بعقليتهم، ووعيهم وثقافتهم، بحيث تسمح لهم بفهم ما يجري حولهم.
لاسيما ما يتعلق بالتطور السريع للحياة، فلا يجوز أن تبقى طبقة (البسطاء والكسبة) في نوع من العزلة الطوعية أو المقصودة، عن الوعي والثقافة خصوصا في مجال منظومة المنهج السلوكي المثقف، فهؤلاء الأكثر عددا يجب أن تتم عملية انتقالهم، من العزلة والانكفاء والاستسلام لأقدارهم، إلى الصعود مجدّدا في قطار الثقافة الحقيقية الفاعلة.
اضف تعليق