غالبية الأدوية التي توصف في البلدان الصناعية مشتقة من مركبات طبيعية تنتجها الحيوانات والنباتات. يعتمد مليارات الأشخاص في العالم النامي بشكل أساسي على الطب التقليدي القائم على النباتات في الرعاية الصحية الأولية. كما أن العديد من العلاجات التي تأتي من الطبيعة معروفة؛ فالمسكنات مثل المورفين تأتي من خشخاش...
لقد منحت الطبيعة البشرية فوائد صحية لا حصر لها، ويعتقد أنها تحوي العديد من الإنجازات الصحية غير المكتشفة. إلا أننا إذا واصلنا الإضرار بالبيئة، فإننا قد نجازف بفقدان هذه الفوائد...
يقال إن مليون نوع معرض لخطر الانقراض الآن، وإذا استمر تفاقم خسائر الأنواع، فإن وظائف النظام البيئي الحيوية لصحة الإنسان وحياته ستستمر في التعطل.
توفر النظم البيئية السلع والخدمات التي تحافظ على كل أشكال الحياة على هذا الكوكب، بما في ذلك حياة الإنسان. وفي حين أن لدينا معرفة واسعة عن كيفية عمل العديد من النظم البيئية، فإنها غالباً ما تنطوي على تعقيدات واسعة النطاق لدرجة أن البشرية قد تجد أنه من المستحيل استبدالها، بغض النظر عن مقدار الأموال التي قد يتم إنفاقها لهذا الغرض.
المختبر الحي
غالبية الأدوية التي توصف في البلدان الصناعية مشتقة من مركبات طبيعية تنتجها الحيوانات والنباتات. يعتمد مليارات الأشخاص في العالم النامي بشكل أساسي على الطب التقليدي القائم على النباتات في الرعاية الصحية الأولية.
كما أن العديد من العلاجات التي تأتي من الطبيعة معروفة؛ فالمسكنات مثل المورفين تأتي من خشخاش الأفيون، والكينين المضاد للملاريا من لحاء شجرة الكينا في أمريكا الجنوبية، والمضاد الحيوي البنسلين تنتجه الفطريات المجهرية.
الميكروبات المكتشفة في تربة رابا نوي (جزيرة إيستر) تحارب أمراض القلب عن طريق خفض الكوليسترول، وأحد أول الأدوية المضادة لفيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز، المعروف باسم ATZ، جاء من إسفنجة كبيرة بالمياه الضحلة في منطقة البحر الكاريبي، والتي أنتجت أيضاً مضادات الفيروسات لعلاج الهربس وتعمل كمصدر لأول دواء مشتق من البحر مضاد للسرطان تم ترخيصه في الولايات المتحدة.
خزان حاسم للعلاجات المستقبلية
حتى الآن، تم تحديد حوالي 1.9 مليون نوع فقط (والكثير منها بالكاد تمت دراسته). يُعتقد أن هناك ملايين أخرى غير معروفة تماماً.
كل شيء على قيد الحياة هو نتيجة "مختبر حي" معقد يجري اختباراته السريرية الخاصة منذ أن بدأت الحياة – أي حوالي 3.7 مليار سنة. تحتوي مكتبة الأدوية الطبيعية هذه على عدد لا يحصى من العلاجات غير المكتشفة، ما لم ندمرها قبل التعرف عليها.
على سبيل المثال، مع ذوبان موطن الدبب القطبية - المصنفة الآن على أنها "مهددة" - في القطب الشمالي بسبب تغير المناخ، أصبح أكبر حيوان مفترس بري في العالم رمزاً للمخاطر التي يشكلها ارتفاع درجات الحرارة العالمية، وقد يكون أيضاً رمزاً للصحة. تجمع الدبب القطبية كميات هائلة من الدهون قبل السبات، وعلى الرغم من وصول بدانتها إلى درجة تهدد حياة الإنسان، إلا أنها على ما يبدو محصنة ضد مرض السكري من النوع الثاني. وعلى الرغم من انعدام حركتها لعدة أشهر، إلا أن عظامها لا تتأثر. كما أنها لا تتبول خلال هذه الفترة، ولكن كلاها لا تتضرر. إذا فهمنا واستطعنا إعادة إنتاج كيفية قيام الدبب بإزالة السموم من أجسامها أثناء السبات، فقد يقدرنا ذلك على علاج - وربما حتى منع - السمية الناتجة عن الفشل الكلوي لدى البشر.
يعاني حالياً 13 في المائة من سكان العالم من السمنة السريرية، ومن المتوقع أن يرتفع عدد المصابين بالسكري من النوع الثاني إلى 700 مليون بحلول عام 2045. كما أن واحدة من كل ثلاث نساء فوق سن الخمسين، وواحد من كل خمسة رجال سيعانون من كسور مرتبطة بهشاشة العظام. في الولايات المتحدة وحدها، يقتل الفشل الكلوي أكثر من 82000 شخص ويكلف الاقتصاد الأمريكي 35 مليون دولار سنوياً. لقد طورت الدبب القطبية بشكل طبيعي "حلولا" لهذه المشاكل - مرض السكري من النوع الثاني من السمنة، وهشاشة العظام من انعدام الحركة، والسمية من الفشل الكلوي – التي جميعها تسبب البؤس للملايين.
الشعاب المرجانية والمورفين
مثال آخر هو من الشعاب المرجانية، والتي أحيانا تسمى بـ "غابات البحر المطيرة" بسبب كثافة تنوعها البيولوجي. من بين سكان هذه الشعاب التي لا تعد ولا تحصى توجد أصداف مخروطية، وهي رخويات مفترسة تصطاد بالسهام وتوفر 200 مركب سام مختلف.
ينسخ عقار زيكونوتايد تماماً الببتيد السام لإحدى الأصداف المخروطية، وهو ليس أقوى من المورفين بمقدار ألف مرة فحسب، ولكنه يتجنب أيضاً آثار التحمل والاعتماد الذي يمكن أن تسببه المواد الأفيونية. حتى الآن، من بين 700 نوع من الحلزون المخروطي، تم فحص ستة بالتفصيل فقط، ومن بين آلاف المركبات الفريدة المحتملة التي تحملها، تمت دراسة مائة فقط بالتفصيل، فيما يتم تدمير الشعاب المرجانية وجميع سكانها بمعدلات تنذر بالخطر.
إن توفير المركبات الكيميائية ليس الأمر الوحيد الذي يجعل التنوع البيولوجي أمراً حيوياً لصحتنا، فقد ساهمت مجموعة مذهلة من الأنواع في إحداث ثورة في المعرفة الطبية. لطالما كانت أسماك الزرد مركزية في معرفتنا بكيفية تكوين الأعضاء، وخاصة القلب. وقد أدت الدودة المستديرة المجهرية إلى فهم "موت الخلايا المبرمج" الذي لا ينظم فقط نمو الأعضاء، ولكن يمكن أن يسبب السرطان عند تعطله. كما استخدم ذباب الفاكهة والأنواع البكتيرية بشكل رئيسي في الأبحاث التي أدت إلى ترسيم خريطة الجينوم البشري.
قد تكون هناك أنواع غير مكتشفة، مثل حيوانات المختبرات العلمية، تمتلك سمات تجعلها مناسبة بشكل خاص لدراسة وعلاج الأمراض التي تصيب الإنسان، وإذا ما فقدنا هذه الأنواع، ستضيع أسرارها معها.
ما الذي يؤدي إلى فقدان التنوع البيولوجي؟
إن العامل الرئيسي الذي يؤدي حالياً إلى فقدان التنوع البيولوجي هو تدمير الموائل - على الأرض وفي الجداول والأنهار والبحيرات والمحيطات.
ما لم نقم بتقليل استخدامنا للوقود الأحفوري بشكل كبير، من المتوقع أن يهدد تغير المناخ وحده ما يقرب من ربع أو أكثر من جميع الأنواع على الأرض بالانقراض بحلول عام 2050، متجاوزاً حتى فقدان الموائل باعتباره أكبر تهديد للحياة على الأرض.
إن الأنواع الموجودة في المحيطات وفي المياه العذبة معرضة أيضاً لخطر كبير من تغير المناخ، خاصة التي تعيش في النظم البيئية الحساسة لارتفاع درجات الحرارة بشكل خاص، مثل الشعاب المرجانية، إلا أن المدى الكامل لهذا الخطر لم يقدر حتى الآن.
كوكب صحي لبشر أصحاء
تؤثر الخسائر في التنوع البيولوجي على صحة الإنسان بعدة طرق. فاضطراب النظام البيئي وفقدان التنوع البيولوجي لهما تأثيرات كبيرة على ظهور ونقل وانتشار العديد من الأمراض المعدية التي تصيب الإنسان، وتعد 60 في المائة من مسببات الأمراض المعدية، مثل الملاريا وفيروس كوفيد، حيوانية المصدر، مما يعني أنها دخلت أجسامنا بعد أن عاشت في حيوانات أخرى.
الفيروس الذي يسبب نقص المناعة البشرية / الإيدز، والذي قتل أكثر من 40 مليون شخص حتى الآن، من المحتمل أن يكون قد أتى من لحوم الشمبانزي التي ذبحت في غرب وسط أفريقيا. وبشكل عام، قد يكون هناك عشرة آلاف فيروس حيوانية المنشأ قادرة على القفز بين الأنواع وإلينا وتنتشر بصمت في البرية اليوم.
وهذا ما يجعل نهج "صحة واحدة" – وهو نهج تعاوني متعدد القطاعات ومتعدد التخصصات يجمع بين مختلف الوكالات الحكومية الدولية والحكومات والجهات الفاعلة المحلية والإقليمية لمعالجة صحة الإنسان والصحة البيئية معا - أمراً بالغ الأهمية لتقليل مخاطر انتشار الأمراض في المستقبل.
لذلك، إذا أردنا التفكير بطريقة أنانية، فإن تمتع العالم الطبيعي بصحة جيدة سيؤدي إلى أن نكون نحن أيضا أصحاء.
بوليصة تأمين لحياة الكوكب
يتمثل التحدي الرئيسي للمنظمات التي تعمل على الحفاظ على التنوع البيولوجي في إقناع الآخرين - صناع السياسات والجمهور على وجه الخصوص - بأننا نعتمد بشكل أساسي على الحيوانات والنباتات والميكروبات التي نتشارك معها هذا الكوكب الصغير. نحن نعتمد كلياً على السلع والخدمات التي يوفرها العالم الطبيعي، وليس لدينا خيار آخر سوى الحفاظ عليه.
يقدر المنتدى الاقتصادي العالمي أن نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي – أي حوالي 44 تريليون دولار - يعتمد على الطبيعة. على الصعيد العالمي، تبلغ الإيرادات السنوية لصناعة الأدوية 1.27 تريليون دولار، وتبلغ تكلفة الرعاية الصحية في الولايات المتحدة وحدها سنوياً أكثر من 4 تريليونات دولار.
وبالمقارنة، فإن المبلغ المطلوب لسد فجوة التمويل للحفاظ على التنوع البيولوجي لا يتجاوز 700 مليار دولار في السنة. للحفاظ على صحة الكوكب وتوفير بوليصة تأمين على حياته، فإن هذا الرقم لا يعتبر مجرد صفقة رابحة وحسب، بل هو ضرورة ملحة.
لا يمكن للبشر أن يتواجدوا خارج الطبيعة. إن حماية النباتات والحيوانات والميكروبات التي نتشارك معها كوكبنا الصغير ليست طوعية، لأن هذه الكائنات الحية هي التي تخلق أنظمة الدعم التي تجعل الحياة على الأرض، بما في ذلك الحياة البشرية، ممكنة.
اضف تعليق