انخفضت اسعار النفط العالمية منذ حزيران 2014 وحتى اليوم نحو 58%، فبعد أن وصل سعر برميل النفط الى 115 دولارا في 19 حزيران أصبح الان بسعر 48 دولاراً، ما يعني ان الاسعار سجلت أطول فترة لانخفاض الأسعار منذ 20 عاما.
النفط كأية سلعة أخرى، يتأثر بعاملي العرض والطلب، فعندما يزداد عرضه في السوق تنخفض اسعاره، ولكن للنفط خصوصية عن السلع الاخرى لما له من أهمية استثنائية في تسيير الاقتصاد العالمي الذي يعتمد على الطاقة، فقد أدت السياسة دوراً مهماً في التأثير بأسعاره، لذلك يسمى بـ(سلعة سياسية).
هناك الكثير من العوامل التي تؤثر في اسعار النفط، كغيره من السلع، وتشكل باروميتريات يقاس من خلالها التذبذب في اسعار النفط العالمية، منها الطلب على النفط، حجم المعروض النفطي، عامل التوقعات، معدلات النمو في الاقتصاد العالمي، وزيادة المخزون النفطي في الدول الصناعية الكبرى، لكن هناك عاملاً مهماً آخر لم يلتفت اليه خبراء السوق النفطي كثيراً وهو عالم التهريب الذي ولج في هذا السوق بقوة منذ عام 2014.
في حزيران من عام 2014 احتل تنظيم (داعش) محافظة نينوى الغنية بالنفط، إذ تعد هذه المحافظة من اوائل المحافظات التي جرى التنقيب عن النفط فيها بعد 2003 وتضم الآن نحو 27 حقلا مستكشفا منها اربعة حقول منتجة في القيارة وعين زالة وبطمة وصفية وهناك 23 حقلا مستكشفا بالآبار العميقة، وقد اظهرت الدراسات الحديثة ان الاحتياطي النفطي في محافظة نينوى يشكل حوالي (3.2%) من مجموع احتياط العراق من النفط.
تشكل حقول النفط واحدة من اكثر المناطق التي يهتم بها تنظيم "داعش"، ويكون مستعداً لتقديم أكبر التضحيات بأفراده من أجل الاستيلاء عليها، كونها من أكثر المصادر جلباً للأموال، وأي منطقة تتوافر فيها حقول نفط أو غاز تكون بمثابة هدف استراتيجي لداعش، وهذا نجده في سوريا والعراق وليبيا.
ويقدر ما يحققه تنظيم "داعش" من استيلاءه على الحقول النفطية في سوريا وحدها ما يقارب (3) مليون دولار يومياً، أي أكثر من مليار دولار سنوياً، ففي سوريا سيطرت داعش وجماعات إرهابية أخرى على حقول النفط خلال سنوات الصراع الماضية، وتقع أغلبية حقول النفط التي سيطرت عليها داعش في القسم الشرقي من سوريا، علماً أن السيطرة عليها انتقلت من فريق إلى آخر عدة مرات، فتكون يوماً تحت سيطرة جبهة النصرة، وفي اليوم التالي تحت سيطرة داعش، ولكن مع تكثيف هذه الأخيرة لعملياتها وتوسيع رقعة سيطرتها في سوريا والعراق، تمكنت من إحكام يدها على حقول النفط الأساسية في سوريا.
تعتمد هذه المجموعات الارهابية على تعاون السكان المحليين وعلى الأشخاص الذين كانوا يشتغّلون في هذه المنشئات، إذ يسيطر تنظيم (داعش) على ما يقارب (60%) من القدرات الإنتاجية النفطية في سوريا، والتي تشكل اكثر بقليل من (200) ألف برميل يومياً.
أما في العراق، فحينما سيطرت (داعش) على الموصل في تموز 2014، وانتقلت إلى محافظات أخرى ( تكريت والأنبار)، فقد استندت المجموعة إلى الخبرة التي اكتسبتها في سوريا، وأضافت حقول نفط عراقية جديدة إلى اللائحة التي سبق وسيطرت عليها في سوريا، ومنها حقول نفط في شمال وشرق تكريت وحقول القيارة في الموصل… الخ. وتبلغ قدرة إنتاج النفط من الحقول التي تسيطر عليها داعش في الموصل فقط نحو 80 ألف برميل يومياً، وكل هذه الارقام هي ارقام تقديرية في حدها الادنى، فتشير تقارير غربية الى أن هذا التنظيم أصبح اغنى تنظيم ارهابي على مستوى العالم وتفوق موازنته السنوية موازنات بعض الدول في المنطقة من مثل لبنان والاردن.
ومن الطبيعي بعد سيطرة (داعش) على الموصل أن نجد هناك قاعدة من المتعاونين من سكان المناطق، وبمساعدة هؤلاء وصلت التقديرات لإنتاج النفط في مناطق (داعش) إلى (80) ألف برميل يومياً، يتم مبادلة جزء منه مع تجار أتراك موردين للمشتقات النفطية مقابل الحصول على كميات من النفط الخام، ويجري تكرير جزء بسيط منه في منشآت صغيرة، فيما يتم تصدير كميات لا بأس بها للحصول على الأموال، وكانت أسعار النفط التي تبيع به داعش يتراوح ما بين (20-40) دولار، عندما كانت أسعار النفط بحدود (100) دولار، وظل ينخفض مع انخفاض أسعار النفط العالمية ويمكن القول أن داعش تبيع النفط العراقي بثلث سعر النفط العالمي، ومصداق ذلك هو بيع داعش لكميات من نفط حقل علاس من خلال الشاحنات الحوضية بسعر (10000) دولار لكل حوضية، وهو سعر مغري للتجار الأتراك في شراء كميات منه وتسويقها حتى إلى إسرائيل.
لقد أنشأ تنظيم (داعش)، من خلال تعزيز قبضته على البعض من امدادات النفط في العراق وسوريا، امبراطورية للتهريب عن طريق الصادرات غير القانونية التي يقوم بها عبر كردستان وتركيا والاردن مستفيداً من الشبكات السرية لتهريب النفط زمن النظام السابق، فبعدما فرضت الأمم المتحدة عقوبات على العراق خلال تسعينيات القرن الماضي لجأ النظام السابق إلى تقديم عمولات سرية للشركات الغربية التي تم التعاقد معها على صفقات النفط، وهذا ما يفسر وجود بنية شبكات تهريب للبترول هناك٬ حسب إيكارد فورتز من مركز برشلونة للشؤون الدولية.
وبذلك من الممكن القول أن النفط المهرب وجد طريقة الى الاسواق العالمية عن طريق شركات التهريب الغربية، ومن المؤكد أن تداول مايقارب (280) الف برميل من النفط الخام يومياً، تتميز بانخفاض ثمنها، سيؤثر على المعروض النفطي، فهي تشكل بحدود (10%) من صادرات العراق اليومية من النفط وأكثر من ذلك بالنسبة للنفط الإيراني والكثير من الدول الاخرى المصدرة للنفط.
هذا يعني ان القضاء على داعش في العراق وسوريا، أو على الاقل ابعادها عن المواقع النفطية، سيؤدي الى فقدان السوق النفطي قرابة (280) الف برميل من النفط يومياً وبسعر لايتجاوز (10) دولارات للبرميل الواحد، فهل سيؤثر ذلك على اسعار النفط العالمية؟
صحيح ان الطلب العالمي اليومي على النفط يبلغ (90) مليون برميل، ولكن ما يهربه داعش الى الاسواق العالمية هو المفضل باعتبار انخفاض سعره الى الثلثين مقارنة بما يصدر رسمياً، وصحيح ان نسبة النفط المهرب من داعش، على الاقل المعلن، لاتشكل سوى (0.4%) من النفط العالمي، الا أن ذلك ايضاً يشكل صدمة للمعروض النفطي العالمي، إذ اثبتت النتائج القياسية أن تغيراً مقداره وحدة واحدة في الانتاج العالمي من النفط يؤدي الى تغير في الطلب العالمي عليه بمقدار (1.6) وحدة، الامر الذي يؤدي الى انخفاض اسعاره بمستوى أكبر من زيادة المعروض النفطي.
وإذا ازداد المعروض العالمي من النفط بمقدار وحدة واحدة يومياً فأن الاثر في انخفاض الاسعار سيكون بمقدار (0.067) سنتاً، فما بالك اذا ازداد(280) الف برميل يومياً، وهذا ما يطلق عليه (اثر الصدمة) Shock Effect.
لذلك تشكل عمليات التهريب التي تقوم بها (داعش) أحد باروميتريات التحكم بأسعار النفط، ونعتقد هنا أن رفع يد هذا التنظيم الارهابي عن آبار النفط في كل من العراق وسوريا، وتكثيف الجهود الدولية للضغط على الدول التي تستقبل النفط المهرب ومحاصرة الشركات الغربية التي تشكل شبكةً للتهريب هي من العوامل المهمة التي ستشفي اسعار النفط من المرض الذي عانت منه تلك الاسعار طيلة السنتين الماضيتين.
اضف تعليق