تتزايد مخاوف اضطراب تجارة الطاقة العالمية عبر المضائق المائية الكبرى بسبب المخاطر المتصاعدة للصراعات العسكرية والجيوسياسية وأعمال القرصنة. وأظهر تقرير تحليلي حديث -اطلعت عليه وحدة أبحاث الطاقة ومقرها واشنطن- انخفاض حجم تجارة الطاقة المارة عبر 5 مضائق مائية كبرى خلال عام 2024...
تتزايد مخاوف اضطراب تجارة الطاقة العالمية عبر المضائق المائية الكبرى بسبب المخاطر المتصاعدة للصراعات العسكرية والجيوسياسية وأعمال القرصنة. وأظهر تقرير تحليلي حديث -اطلعت عليه وحدة أبحاث الطاقة ومقرها واشنطن- انخفاض حجم تجارة الطاقة المارة عبر 5 مضائق مائية كبرى خلال عام 2024. وتضم المضائق المائية الكبرى كلًا من مضيق ملقا، ومضيق هرمز، ومضيق باب المندب، وقناة السويس، والمضائق التركية، وطريق رأس الرجاء الصالح.
والمضائق هي نقاط بحرية ضيقة تتحكم في مرور أغلب تجارة النفط الخام والمنتجات النفطية والغاز المسال؛ ما يعنى أن أي اضطراب يصيبها، قد يتسبب على الفور في اشتعال أسعار الطاقة العالمية.
انخفاض التجارة عبر المضائق المائية الكبرى
بلغ حجم تجارة الطاقة المارة من المضائق المائية الكبرى الـ5 خلال عام 2023، قرابة 71.3 مليون برميل يوميًا من النفط الخام والمنتجات النفطية، و26 مليار قدم مكعبة يوميًا من الغاز المسال. وانخفض الحجم في عام 2024 إلى 65 مليون برميل يوميًا للنفط، و24.8 مليار قدم مكعبة يوميًا للغاز المسال؛ ما يعكس تزايد عدم الاستقرار في بعض أهم مياه العالم من الناحية الإستراتيجية، بحسب التقرير الصادر عن شركة أبحاث ريستاد إنرجي.
ورغم أن بعض الانخفاض الأخير في حجم تجارة النفط مرتبط إلى حد كبير بصدمات مؤقتة، مثل هجمات الحوثيين على السفن قبالة سواحل اليمن أو التوترات بين إيران وإسرائيل؛ فهناك مؤشرات أخرى على وجود تحول هيكلي طويل الأمد.
ويتمثل هذا التحول في إعادة توجيه تدفقات الطاقة إلى طريق رأس الرجاء الصالح أو خطوط الأنابيب البديلة في إطار محاولات التجار والحكومات للتكيف مع حالات عدم الاستقرار والاضطرابات الجيوسياسية. ولا تزال الولايات المتحدة الأقل عرضة لمخاطر اضطرابات المضائق المائية الكبرى بسبب إنتاجها المحلي المتزايد من النفط والغاز، مقارنة بآسيا وأوروبا اللتين تعتمدان بصورة كبيرة على مضيقي هرمز وملقا؛ ما يجعل الصين معرّضة للخطر بصورة أكبر. إذ يمكن لأي خلل يصيب حركة الشحن عبر المضائق أن يتسبب في اضطراب سلاسل التوريد، وارتفاع أسعار الشحن والتأمين بصورة حادة، تؤدي بالضرورة إلى ارتفاع أسعار الطاقة العالمية.
تجارة الطاقة عبر مضيق ملقا
تشير بيانات ريستاد إنرجي إلى أن ثلاثة أرباع الطلب العالمي على النفط يمر بالفعل عبر المضائق المائية الكبرى؛ منها الربع يمر عبر مضيق ملقا، والخُمس عبر هرمز. ومضيق ملقا، هو أكبر ممر تجاري في العالم؛ حيث يمر عبره قرابة 24 مليون برميل يوميًا من النفط والغاز، ويقع بين المحيط الهندي والهادئ. ويمر عبر هذا المضيق معظم النفط الخام والغاز المسال من الشرق الأوسط إلى آسيا؛ بما في ذلك الصين واليابان، وهما من كبار المستهلكين عالميًا.
وتستحوذ الصين على الحصة الكبرى من واردات النفط الخام والمكثفات المارة عبر مضيق ملقا بنسبة تصل إلى 50%، في حين تصنف السعودية المصدر الرئيس عبر المضيق بنسبة 25% من إجمالي التدفقات. وزاد حجم تدفقات النفط والغاز المارة عبر المضيق منذ جائحة كورونا حتى عام 2024، بمقدار 2.1 مليون برميل يوميًا، بحسب بيانات تفصيلية رصدتها وحدة أبحاث الطاقة. ورغم أن هذا المضيق مهدد دائمًا بأعمال السرقة والقرصنة؛ فلم يبلغ عن أي حوادث كبيرة عبره هذا العام (2025)، بحسب ريستاد إنرجي.
تجارة الطاقة عبر مضيق هرمز
يصنف مضيق هرمز -الواقع شمال إيران وجنوب عمان والإمارات- ضمن قائمة المضائق المائية الكبرى، ويمر عبره خُمس تجارة النفط والمكثفات المنقولة بحرًا أو ما يعادل 20.3 مليون برميل يوميًا بحسب بيانات عام 2024. كما يتحكم في مرور نصف إنتاج الشرق الأوسط اليومي من النفط والمكثفات بما يعادل 14 مليون برميل يوميًا إلى أسواق آسيوية رئيسة مثل الصين والهند.
وبصورة أدق، ينقل المضيق قرابة نصف صادرات السعودية والإمارات اليومية من النفط الخام والمكثفات، فضلًا عن ربع الطلب الصيني على هذه المنتجات. كما يصنف مضيق هرمز طريقًا رئيسًا للغاز المسال؛ حيث يمر عبره قرابة خُمس أحجام تجارته العالمية، وقطر المستعمل الأكبر للمضيق لشحن الغاز المسال؛ إذ ينقل ثلثي إنتاجها اليومي من الغاز أو ما يعادل 16.3 مليار قدم مكعبة يوميًا إلى دول مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية.
وخلال السنوات الـ5 الماضية، زادت واردات الصين من الغاز المسال عبر المضيق بنحو مرتين ونصف المرة لتصل إلى 2.7 مليار قدم مكعبة يوميًا. وظهرت الأهمية الإستراتيجية لمضيق هرمز خلال الصراع الأخير بين إيران إسرائيل، عندما هدّدت طهران بإغلاقه في أثناء الهجمات الإسرائيلية الأميركية المشتركة على المنشآت النووية في البلاد خلال يونيو/حزيران الماضي.
ورغم أن مسألة الإغلاق أكبر من قدرات إيران -حسب تقديرات خبير أسواق الطاقة الدكتور أنس الحجي- فإن إغلاقه قد يُعطِّل قرابة نصف صادرات الشرق الأوسط من النفط؛ ما سيؤدي إلى ارتفاع حاد في أسعار النفط العالمية، ومن ثم زيادة تكاليف استيراد الطاقة في البلدان المعتمدة عليه؛ ما سيؤثر في سلسلة توريد النفط والغاز بأكملها.
وللحد من المخاطر المتصلة بمضيق هرمز، طوّرت دول المنطقة طرقًا بديلة للنفط، مثل خط أنابيب النفط الخام (شرق-غرب) في السعودية، الذي تبلغ طاقته قرابة 5 ملايين برميل يوميًا، ويربط بين محطة معالجة النفط في مدينة بقيق بالقرب من الخليج العربي، وميناء ينبع على البحر الأحمر.
وفي عام 2019، وسّعت شركة أرامكو قدرة الخط -مؤقتًا- لتصل إلى 7 ملايين برميل يوميًا، عبر تحويل بعض خطوط أنابيب سوائل الغاز الطبيعي إلى نقل النفط الخام. كما تمتلك الإمارات خط أنابيب لنقل الخام يربط حقولها النفطية البرية بمحطة الفجيرة للتصدير الواقعة على خليج عمان بطاقة تصل إلى 1.8 مليون برميل يوميًا.
وبالمثل، بنت إيران خط أنابيب احتياطيًا مرفقًا بمحطة تصدير على خليج عمان (غوره جاسك - Goreh Jask)، وتبلغ قدرته قرابة 0.3 مليون برميل يوميًا؛ ما قد يمكنها من تجاوز اضطرابات مضيق هرمز جزئيًا، بحسب إدارة معلومات الطاقة الأميركية.
مضيق باب المندب وقناة السويس
يصنف باب المندب ضمن المضائق المائية الكبرى، كما أنه ثاني أهم مضيق في الشرق الأوسط لموقعه الجغرافي المميز الذي يربط البحر الأحمر بخليج عدن وبحر العرب؛ ما يجعله طريقًا رئيسًا للسفن العابرة بين قناة السويس والمحيط الهادئ.
وتربط قناة السويس إلى جانب خط أنابيب سوميد الذي تبلغ طاقته 2.5 مليون برميل يوميًا، البحر الأحمر بالبحر المتوسط؛ ما يجعلها ممرًا حيويًا لتدفقات الطاقة العالمية. وقبل مهاجمة الحوثيين للسفن التجارية وناقلات النفط منذ أواخر عام 2023، كان المضيق يمثل قرابة 12% من تجارة النفط العالمية المنقولة بحرًا. وتسبب تصاعد هجمات الحوثيين -ردًا على العدوان الإسرائيلي على غزة- منذ ديسمبر/كانون الأول 2023، في انخفاض أحجام الشحن اليومية عبر المضيق بنسبة 50% خلال 6 أشهر. وإذا تعرض مضيق باب المندب للإغلاق الكامل؛ فمن المتوقع أن تُجبَر السفن المقبلة من خليج عدن على تجاوز قناة السويس بالكامل، وإعادة توجيهها إلى طريق رأس الرجاء الصالح الأطول مسافة والأعلى تكلفة.
تجارة الطاقة عبر المضائق التركية
المضائق التركية هي طريق بحري ضيق ذو أهمية إستراتيجية عالية لكونه يربط بين البحر الأسود والبحر المتوسط؛ ما يجعله نقطة عبور أساسية لتجارة النفط والغاز المسال من منطقة بحر قزوين وروسيا إلى الأسواق الآسيوية والأوروبية.
وتسيطر تركيا على هذا الطريق الذي يفصل بين أوروبا وآسيا بالكامل، ويتكون من مضيقي البوسفور والدردنيل، بحسب بيانات الموقع الجغرافي التي رصدته وحدة أبحاث الطاقة. وتتحكم المضائق التركية في مرور 5% من تجارة النفط البحرية العالمية، بحجم 3.5 مليون برميل يوميًا من النفط الخام في عام 2023، و0.5 مليار قدم مكعبة يوميًا من الغاز المسال، بحسب ريستاد إنرجي، التي تتوقع مرور كميات مماثلة عام 2025.
ومع ذلك، فقد شهدت تدفقات النفط عبر هذه المضائق تقلبات ملحوظة خلال السنوات الأخيرة التي أعقبت جائحة كورونا؛ إذ انخفضت أحجام النفط العابر من 3.5 مليون برميل يوميًا عام 2020 إلى 3.4 مليونًا عام 2021. كما انخفضت التدفقات إلى 3.2 مليون برميل يوميًا في عام 2022، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، قبل أن تتعافى نسبيًا إلى 3.4 مليونًا في 2023 و2024.
ولا تزال روسيا المساهم الأكبر في تدفقات النفط عبر المضائق التركية، حيث تمثل وحدها 40% من تجارة النفط الخام المارة، في حين تتسلّم تركيا سدس الخام المنقول عبر المضائق سنويًا. وتوجد طرق بديلة لتخفيف الاضطرابات المحتملة في هذه المضائق؛ أبرزها خط أنابيب "باكو-تبليسي-جيهان" الذي ينقل النفط من حقول بحر قزوين في أذربيجان إلى ميناء جيهان التركي على البحر المتوسط. وهناك طريق آخر هو خط أنابيب العراق-تركيا، المغلق حاليًا، والمتوقع فتحه خلال المدة المقبلة لاستئناف صادرات النفط الخام من إقليم كردستان العراق.
ورغم أهمية المضائق التركية على خريطة المضائق المائية الكبرى، فإنها تواجه العديد من المخاطر التشغيلية والجيوسياسية، بسبب الطبيعة الضيقة والمتعرجة للممرات المائية؛ ما يزيد من مخاطر الحوادث والتسربات النفطية، إضافة إلى التوترات الإقليمية التي تشكل تهديدات محتملة لاستقرار الطريق وأمنه.
تجارة الطاقة عبر رأس الرجاء الصالح
يقع طريق رأس الرجاء الصالح في الطرف الجنوبي من جنوب أفريقيا، وهو طريق بحري بديل للتجارة البحرية العالمية، وأحد أبرز المضائق المائية الكبرى، وعادة ما تتزايد أهميته إذا حدثت اضطرابات أو أمور طارئة في قناة السويس أو مضيق باب المندب.
ويتحكم -حاليًا- في مرور 8% إلى 10% من حركة الشحن العالمية، وانخفض إجمالي تجارة النفط المارة عبره إلى 6 ملايين برميل يوميًا عام 2023، مقارنة بنحو 7 ملايين عام 2021. ويرجع هذا الانخفاض إلى عدة أسباب؛ أبرزها انخفاض الطلب من الصين، وتراجع مستويات الإنتاج في الدول الأفريقية، وتوجه دول مثل الهند إلى موردي النفط الخام الروس.
ومع ذلك، فقد تغير الوضع بصورة كبيرة عام 2024؛ حيث ارتفعت تدفقات النفط المارة عبر الطريق بنسبة 50%، لتصل إلى 8.7 مليون برميل يوميًا، بسبب هجمات الحوثيين على السفن المارة من مضيق باب المندب المطل على اليمن؛ ما دفع الشركات لتحويل وجهت الناقلات بعيدًا عن البحر الأحمر. وبحسب بيانات ريستاد إنرجي، فقد توجهت 40% من شحنات النفط المارة عبر رأس الرجاء الصالح خلال عام 2024 إلى الصين، وكانت معظمها من الولايات المتحدة وأميركا الجنوبية. كما حوّل منتجون في الشرق الأوسط مثل السعودية والعراق، كميات كبيرة من النفط الخام المخصصة لأوروبا إلى طريق رأس الرجاء الصالح بدلًا من قناة السويس. ورغم ارتفاع تكاليف الشحن وزيادة المسافة وطول زمن الرحلات؛ فإن التجار يفضلون بصورة متزايدة هذا الطريق لانخفاض مخاطره الأمنية، مقارنة بحالة الطرق البحرية والمضائق المائية الكبرى الأخرى.
اضف تعليق