الوفرة المالية في الاقتصاد العراقي دائماً ما ترافقت مع نداءات وتحذيرات الخبراء والباحثين والمهتمين بالشأن الاقتصادي بضرورة التأسيس لنظرة اقتصادية حقيقية وموضوعية قائمة على مواجهة الواقع المتردي للاقتصاد المحلي مستثمرة هذه الوفرة بهدف تنمية الاقتصاد المترنح نتيجة الإخفاقات المتتالية، فيما تركزت هذه التحذيرات على إن...
يعتبر سعر النفط والتذبذبات الحاصلة له أحد الاهتمامات الرئيسية للمواطنين في جميع أنحاء العالم، وبالأخص في الدول المصدرة له لما يحتله من أهمية في توفير المال اللازم للحياة الاقتصادية والاجتماعي لهذه البلدان ومنها العراق والذي يعد واحد من أهم الدول النفطية وأكبرها من حيث الاحتياط وحجم الصادرات، ويمكن ملاحظة الأثر البالغ في أسعار البترول من خلال الأثر الذي خلفه انهيار في أسعار النفط وتراجعه لحدود 30 دولار للبرميل الواحد مسبباً أزمة حادة في مصادر التمويل ليس في العراق وحسب بل في معظم الدول الريعية، حيث لجأ العراق إلى العديد من الاستراتيجيات التقشفية التي لاتزال اثارها السلبية قائمة لغاية الان لمواجهة هذا التراجع في الأسعار.
ولم يتنفس المواطن العراقي الصعداء إلا مع بوادر عودة أسعار النفط بشكل تدريجي ابتداء من النصف الثاني من عام 2017 وحتى نهاية هذا العام نتيجة العديد من العوامل محققة وفرة مالية ظهرت في ارتفاع التخصيصات المالية لمسودة موازنة 2019 والتي قدرت بحوالي 128 تريليون دينار كثاني أكبر موازنة للبلاد.
ان الوفرة المالية في الاقتصاد العراقي دائماً ما ترافقت مع نداءات وتحذيرات الخبراء والباحثين والمهتمين بالشأن الاقتصادي بضرورة التأسيس لنظرة اقتصادية حقيقية وموضوعية قائمة على مواجهة الواقع المتردي للاقتصاد المحلي مستثمرة هذه الوفرة بهدف تنمية الاقتصاد المترنح نتيجة الإخفاقات المتتالية، فيما تركزت هذه التحذيرات على إن الإهمال المستمر والمقصود للقطاعات الإنتاجية أصبح يهدد البنية الكلية للاقتصاد العراقي في ظل تقلبات أسعار النفط وعدم استقرارها، حيث إن شهر العسل لأسعار النفط لابد إن ينتهي مخلفاً أيام سوداء وهذا أمر منطقي وطبيعي مادامت الأسواق العالمية محكومة بقوة العرض والطلب.
إن السياسة الاقتصادية للعراق منذ عام2003 ولغاية الآن يمكن اختزالها بالمثل الشعبي "شبعني اليوم وجوعني باجر"، حيث القرار الاقتصادي العراقي رهين فكرة ورؤية تتعامل مع ارتفاع أسعار النفط على انه أمر ثابت ومستمر، بالرغم من ان الأمور في مثل هذه الحالة متذبذبة ويصعب السيطرة أو على الأقل التنبؤ بها حتى من اكبر المؤسسات الاقتصادية العالمية، فمنذ بداية العام الحالي توقع العديد من مراكز التحليل والخبراء الاقتصاديين العالميين المختصين بشؤون النفط والطاقة استمرار ارتفاع أسعار النفط لحدود 80-90 دولارا للبرميل في نهاية العام الحالي، بل ان بعض منهم توقعوا أن تصل الأسعار العام المقبل إلى مستوى 100 دولار للبرميل، وبدت تلك توقعات منطقية بشرط عدم حدوث أي تغيرات دراماتيكية في معادلة العرض والطلب.
ان الارتفاع المستمر في أسعار النفط مع المشهد المتفائل من استمرار ارتفاعه دفع الحكومة العراقية لرسم موازنة عام 2019 من بارتفاع قيمتها عن موازنة 2018 ب 24 تريليون دينار، لكن هذا الحلم الوردي لم يدم طويلاً حيث إن شهر أكتوبر من العام الحالي جاء مخالفاً لكل التوقعات السابقة حول ارتفاع أسعار النفط، بل العكس هو ما حصل إذ بدأت أسعار البترول تتراجع، فبعد أن لامس سعر خام برنت القياسي مستوى 80 دولارا للبرميل في 20 مايو 2018 انخفض سعره بشكل تدريجي ليصل إلى 59,46 دولار في 1 ديسمبر 2018، مع تصاعد المخاوف من احتمال ارتفاع تخمة المعروض بالسوق بالتزامن مع ضعف مستويات الطلب العالمي، وبشكل يعد للأذهان الذكريات المريرة لازمة عام 2014.
بالرغم من ان هذا الانخفاض جاء مفاجئ ومخالف لمعظم التوقعات والقراءات العالمية الا انه يحمل معه مبرراته التي يمكن ايجازها بما يلي:-
• ارتفاع كمية النفط الصخري المستخرج، إذ تم إضافة ما يزيد عن 2 مليون برميل يوميا إلى الإنتاج الأمريكي، والذي بلغ 11.7 مليون برميل يوميا لتصبح بذلك أكبر منتج للبترول في العالم متخطية إنتاج روسيا المستقر حاليا بحوالي 11,4 مليون برميل يوميا، مما أدى إلى تقليل مستوى الاستيراد للولايات المتحدة وبالتالي الضعف في الطلب على مشتقات النفط على المستوى الدولي.
• الحرب التجارية المتنامية بين الصين والولايات المتحدة وتهديدها للاستقرار الاقتصادي العالمي والخوف من تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، وخصوصا في الصين ثاني أكبر مستهلك للنفط بالعالم وفى أوروبا.
• ارتفاع وتيرة العرض النفطي أسرع من الطلب عليه، نتيجة تراجع النمو العالمي بسبب احتمالية الحرب التجارية بين أمريكا والصين من جهة والضغوطات السياسية باتجاه تخفيض الاسعار والتي تمارس على الدول المصدرة من جهة أخرى.
• الضغط المتواصل من الولايات المتحدة الامريكية على دول أوبك عموماً والسعودية خصوصاً لزيادة الإنتاج النفطي وتخفيض الأسعار مستغلة حادثة اغتيال خاشقجي والموقف المحرج للسعودية ومحمد بن سلمان تحديداً أثر سلباً في الأسعار العالمية.
ان النقاط أعلاه تمثل أهم العوامل التي أدت إلى تراجع أسعار النفط في الفترة الأخيرة بالرغم من توقعات العديد من المؤسسات البحثية العالمية والخبراء الاقتصاديين الذين رجحوا استمرار ارتفاع أسعار النفط للفترة القادمة، وهو ما حفز الحكومة العراقية على رفع قيمة الموازنة القادمة بقرابة 24 تريلون دينار بحسب مسودة موازنة 2019 واعتماد سعر برميل النفط ب 56 دولار للبرميل وهو رقم يعكس احتمالية مواجهة أزمة مالية في حال اعتماد هذه المسودة بفعل تراجع أسعار النفط حيث بلغ سعر نفط البصرة خفيف 61,21 في يوم الأحد 2/ديسمبر 2018 وهو رقم يبتعد شيئاً فشيئاً عن مفهوم التقدير الرشيد لسعر برميل النفط ولا يفصله عن 56 دولار سوى دولارات قليلة قد لا تكفي لتوفير غطاء مالي يبعد الاقتصاد العراقي عن خطر تقلبات الأسعار وخصوصاً في ظل تراجع القطاعات الإنتاجية التي يمكن أن تشكل الدرع الذي يحمي الواقع الاجتماعي والاقتصادي العراقي.
ان الازمة الحقيقية تتمثل في عدم استقرار أسعار النفط وتذبذبه، فمن 80 الى 61 دولار خلال فترة وجيزة لاتتجاوز شهرين، وعدم وجود درع رصين يمكن من خلاله تجنب هذه الازمات وانعكاساتها على الانفاق الحكومي، بل ان بعض الأصوات التي نادت سابقاً برفع تقديرات سعر برميل النفط في احتساب الموازنة هي نفسها من تدعو اليوم الى خفض هذه التقديرات لتجنب الازمة المالية التي قد يسببها العجز في مصدر تمويل الموازنة.
ولا اريد الاطالة والاسهاب في الحديث لكن الحل يكمن في إعادة تفعيل باقي القطاعات الإنتاجية والاعتماد على مصادر التمويل الأخرى لدعم القطاع النفطي بالإضافة الى التأسيس لصندوق سيادي توضع فيه الفوائض المالية المتحققة من سنوات الوفرة يكون بمثابة الدرع الحصين الذي يمتص الاهتزازات السعرية للنفط، ويمكن من خلاله التعويض في حالة انخفاض الاسعار بصورة مفاجئة وغير متوقعة.
اضف تعليق