يسعدني ان أقدم للقراء الكرام والمهتمين بالشأن التربوي نظرة في الدول الخمس الاوائل عالمياً في مجال التعليم الاساس.

اعُتمد تصنيف هذه الدول على تقرير مؤشر بيرسون للتعليم والمهارات المعرفية والتحصيل التعليمي العالمي وهو الذي بدوره اعتمد تحديد افضلية الدول بناءاً على عدة اختبارات دولية منها: اختبار مدى التقدم في القراءة والكتابة الدولي (بيرلز) واختبار الاتجاهات الدولية في الرياضيات والعلوم (تيمس) واختبارات برنامج التقويم الدولي للطلبة (بيزا)، فجاء ترتيب الدول العشر الاوائل على النحو الاتي: كوريا الجنوبية اولاً، اليابان في المركز الثاني تلتها سنغافورة في المركز الثالث وهونك كونك في المركز الرابع. اما فنلندا فقد تراجعت الى المركز الخامس بعد ان كانت متقدمة في الاعوام السابقة، وجاءت في المركز السادس المملكة المتحدة واعقبنها كندا في المركز السابع ومن ثم هولندا في المركز الثامن ومن بعدها ايرلندا التي تبوأت المركز التاسع وفي المركز العاشر جاءت بولندا.

نلاحظ من خلال النتائج المذكورة، ان اربعة دول من شرق اسيا جاءت متفوقة في هذا التصنيف واحتلت المراكز الاربع الاوائل من التصنيف. يعتقد الباحثون ان سبب تفوق دول شرق اسيا يعود الى سبب المواءمة بين وضوح الاهداف والنظام الدراسي فضلاً عن الاختبارات التي تقيس بشكل واضح قدرة الطلبة على فهم وتطبيق المناهج الدراسية.

دعونا نطلع على روح الانظمة التعليمية في تلك الدول التي تحصلت على المراكز الخمس الاوائل ومن ثم نستفيد ونستلهم من تجاربها وتطبيقاتها وافكارها التربوية من اجل التخلص من روح التخلف والجهل الذي يبحر بنا بعيداً عن ركب الحضارة والتقدم.

كوريا الجنوبية

عندما رحل اليابانيون عن كوريا الجنوبية كانت نسبة الامية 78% وذلك بسبب ان التعليم كان مقتصراً على اليابانيين ولم يسمح الا لعدد قليل جداً من الكوريين للتعلم، كما لم يكن هناك معلمين كوريين في المدارس الكورية. بعد الرحيل شرعت كوريا الجنوبية ببناء نظام تعليمي متطور وحديث على مدى عقود من الزمن ويوصف الان بانه الاقوى في العالم. يتميز النظام الكوري بالصرامة في التعليم.

مقدار مايقضيه الطلبة الكوريين في المدارس 1020 ساعة سنوياً بمعدل 14 ساعة باليوم لمدة خمسة ايام بالاسبوع وهي اعلى نسبة في العالم. ينام الطلبة الكوريين 22 دقيقة اقل من اقرانهم في باقي الدول. يعمل النظام الكوري بمسار 3.3.6 وهو نظام شبيه جداً بالنظام العراقي من حيث الهيكيلة العامة الا انه يختلف عنه في الاجراءات. اكثر مايركز عليه النظام الكوري هو الرياضيات والعلوم واللغة الانكليزية. ورغم ان التعليم مجاني في كوريا الا ان الاباء ينفقون ماهو نسبتة 25% من اجمالي دخلهم على الدروس الخصوصية لأبنائهم. بالمقابل ان الطلبة الذين لايحققون توقعات اباهم يعاقبون بشدة، كما ان عدم حصول الطالب على مقعد جامعي يعتبر خيانة لعائلته ولذلك يشعر الطلبة الكوريين بالضغط الهائل والتعاسة مما يؤدي الى حالات الانتحار.

اليـابـان

في عام 1868 ثار اليابانيين ضد حكومتهم التي كانوا يرونها فاسدة آنذاك. بعدها شرعت الحكومة الجديدة بإرسال وفود الى عدة دول منها بريطانيا، المانيا، فرنسا، وامريكا من اجل الاطلاع على افكارهم التربوبة. وبالفعل تم بناء نظام تعليم ياباني مبني على التوأمة بين افكار تلك الدول والثقافة اليابانية. وبدأت اليابان تجني ثمار هذا النظام حتى الحرب العالمية الثانية. وبعد الحرب توجهت اليابان نحو اصلاحات عديدة بالتعليم مما عزز التطور الاقتصادي والتكنولوجي في اليابان.

يتبع نظام التعليم في اليابان مسار 3.3.6 ويركز على منهج التعلم الذي يعتمد على العمل الجماعي وحل المشكلات بدلاً من التعليم المباشر. كما يتعلم الطلبة مناهج دراسية تتعلق بالرياضيات والعلوم وعلم الاخلاق لدرجة توازي مناهج الاخلاق العلوم الاكاديمية مما انعكس ايجاباً على سلوكيات الافراد في المجتمع. كما يتوقف سمعة المدرسة على ادائها الاكاديمي والسلوكي، على سبيل المثال اذا ما قام احد الطلبة بتجاوز القانون، فيتوجب على المعلم المشرف والهيئة التعليمية في المدرسة تقديم اعتذار رسمي للسلطات. ويرى بعض المحللين الامريكان على ان تبني امريكا لنظام التعليم الياباني سيؤسس جيلاً قوياً يخضع لمؤسسة تعليمية قوية، ويحد من المشكلات التي تعاني منها المدارس الامريكية.

هــونك كـــونك

كانت هونك كونك مستعمرة بريطانية حتى عام 1997 ولديها نظام تعليم بريطاني. بعد جلاء الاحتلال، وفي عام 2000 بدأت السلطات في هونك كونك بتغيير النظام التعليم البريطاني والتحول الى نظام تعليم جديد يعتمد على مسار 3.3.6 أدركت السلطات ان التعليم هو البوابة نحو المستقبل ولذلك ركزت على المتعلم باعتباره محور العملية التعليمية كما ركزت على التعلم بدلاً من طرق التلقين والحفظ. اهتمت السلطات بشريحة المعلمين مما حفزهم لبذل قصارى جهودهم نحو التعليم وبفعل ذلك اصبح المعلمون ذوي شهرة عالية توازي شهرة النجوم حتى يكاد ان يرى صور المعلمين في الطرقات والشوارع احتراماً وتقديرا لهم.

سنغافــــــورة

سنغافورة قصة نجاح استثنائية. اذا انها باقل من 50 عام تحولت من جزيرة فقيرة ومعدومة الموارد مع غالبية من الامية الى دولة تضاهي الدول المتقدمة الاكثر تطوراً. كانت سنغافورة تعاني من حالة التناحر والتنافر بين المكونات والجماعات العرقية في ظل الاستعمار وبعده. وبعد الاستقلال عن ماليزيا في عام 1965، ادرك رئيس الوزراء السنغافوري (لي كوان يو) ان التعليم هو السبيل الوحيد الذي يمكن ان يقضي على مشاكل المجتمع السنغافوري. وبالفعل شرع الى بناء نظام تعليمي يتسم بالجدارة والذي شكل النموذج اللازم لتحقيق السياسة الاقتصادية التي وصلت عليها سنغافورة اليوم.

يتميز النظام التعليمي السنغافوري بالمعلمين والمدراء ذوي الكفاءات العالية والقادة الاقوياء الذين يتمتعون بالقدرة على صياغة رؤى بعيدة المدى. تملك سنغافورة نظام يتبع مسار 2.2.6 ومناهج دراسية معدة بصورة جيدة وبمقاييس تتماشى مع اساليب التعليم الحديثة وطرق القياس والتقويم. خضع النظام السنغافوري الى العديد من حركات الاصلاح وكان ابرزها في عام 1997 حين اطلقت الحكومة حركة اصلاحية عرفت باسم (النموذج المركز على القدرة) من اجل انشاء مدارس جديدة عرفت بـ (مدارس التفكير). ركز هذا النموذج على اربعة محاور وهي: الاستناد الى نوعية جيدة من المعلمين، استقلال المدارس، الغاء نظام التفتيش، تقسيم المدارس الى اربع مجموعات. وفي عام 2006 طبقت سنغافورة الحركة الرابعة من الاصلاحات تحت نظام جديد عرف بـ (تعليم اقل، تعلم اكثر) والذي سأنشر عنه مقال لاحقاً. بفضل هذين النظامين حققت سنغافورة نجاح باهر في الامتحانات الدولية واحتلت مراكز متقدمة بين الدول.

فنلنـدا

عانت فنلندا الكثير من الازمات الاقتصادية عبر عقود من الزمن وذلك بسبب محدودية الموارد. عملت الحكومة الفنلندية على اصلاح الاقتصاد منذ سبعينيات القرن الماضي. اشتدت الازمات الاقتصادية في تسعينيات القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وارتفعت معدلات البطالة الى نسبة 20% وهي اعلى نسبة بطالة في البلاد. ادركت الحكومة الفنلندية ان المحرك الاساسي للنمو الاقتصادي هو التعليم. وعلى اثر ذلك قامت الحكومة بوضع ستراتيجيات ساهمت كثيراً في تطور التعليم منذ 40 سنة منها تدريب وتأهيل المعلمين في الجامعات الفنلندية واشترطت حصول المعلمين على شهادة الماجستير واعطاءهم الاستقلالية في العمل منها حق اختيار المنهج الدراسي بمشاركة الطلبة ووضعت منهاج وطني شامل للإصلاح واتخذت اجراءات عديدة لهيكلة المدارس والتحول الى مناهج تعليمية تحفز الطلبة نحو استخدام مهارات التفكير وحل المشكلات والعمل الجماعي.

في عام 2000 صُدم غالبية الشعب الفنلندي عندما علموا ان ابنائهم تحصلوا على مراكز متقدمة جداً في الاختبارات الدولية وقالوا قد "يكون الامر مجرد صدفة". ولكن في السنوات اللاحقة استيقنوا ان هذا التقدم هو انعكاس لتطور التعليم في فنلندا. وبفضل التطور في التعليم تطور الاقتصاد كثيراً واصبحت فنلندا دولة اقتصادية تنافسية عالمية.

بعد الاطلاع على تجارب الدول الخمسة الاوائل في التعليم، نجد انها عانت كثيراً من المشاكل الاقتصادية والسياسية والمجتمعية ولكنها عادت ونهضت من خلال بناء انظمة تعليم قوية ساهمت في نمو تلك الدول اقتصادياً ومجتمعياً مما جعلها في مصاف الدول المتقدمة.

انا لم ادعوا الى اجترار التجارب التعليمية والتنموية في تلك البلدان وتطبيقها حرفياً في العراق لأن ذلك هو ضرب من العبث التنظيري والخطأ الفكري والمنهجي. بل انا ادعو الى دراسة تلك التجارب من اجل تحفيز التساؤل، واثارة الانتباه نحو تحريك عجلة الاصلاحات في التعليم العراقي مع تطبيق ماهو مناسب مع موروثنا الثقافي والاخلاقي والقيمي والحضاري هذا من جهة. من جهة ثانية، جاء العراق في المرتبة 20 في اختبار الذكاء العالمي متفوقاً على جميع دول الشرق الاوسط، وهنا اتسأل ماذا سيحصل لو ان هذا التفوق في الذكاء تم استثماره في نظام تعليم حديث ومتطور في العراق؟

من خلال اطلاعي على تجارب تعليمية عديدة في دول مختلفة فاني اضع بين أيادي السادة المسؤولين عن الشأن التربوي وعلى رأسهم السيد معالي وزير التربية المحترم بعض المقترحات والافكار التي يمكن ان تساهم في تطور التعليم في العراق. وبالتأكيد ان تطور التعليم سيصب في مصلحة النمو الاقتصادي والمجتمعي في العراق كما حصل في تجارب بعض الدول.

اما اهم الافكار والمقترحات هي:

1- اعادة هيكلة نظام التعليم الاساس بالعراق بما يتناسب مع التغيرات التي تحصل في العالم لأن عملية التعلم والتعليم هي ليست عملية تتصف بالجمود، بل هي عميلة ديناميكية متغيرة تتصف بالمرونة. ان تغيير النظام العراقي من 3،3،6 الى 4،4،4 هو ليس الحل السحري لمشاكل التعليم في العراقي بل ان اعطاء الاستقلالية لمديريات التربية سيسهم كثيرا في خلق المنافسة بين المديريات العامة للتربية وبين المدارس. كذلك بناء نظام اشرافي جديد يعتمد على روح الابداع، والعمل على فصل الدوام الثنائي والثلاثي وزيادة عدد ساعات الدوام من 4 ساعات يومياً الى 6 ساعات يومياً على الاقل.

2- اعادة تدريب وتأهيل المعلمين ومدراء المدارس، على ان تكون برامج التدريب في الجامعات العراقية تحت اشراف اساتذة اكفاء. كما يتوجب ارسال وفود من المعلمين للتدريب في كوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة وفنلندا بدلاً من ارسالهم الى مصر ولبنان والتي لا فائدة منهما. كما اود ان اقترح ان يكون مُدرسي المرحلة الاعدادية هم من حملة شهادة الماجستير بدلاً من البكالوريوس وذلك لأهمية هذه المرحلة. فضلاً عن حث جميع المعلمين على الحصول على شهادة البكالوريوس بدلاً من شهادة الدبلوم التي يحملها جيوش من المعلمين، على ان تكون شهادة البكالوريوس تمنح من الجامعات العراقية فقط وليست من الكليات المفتوحة التي تديرها وزارة التربية والتي لاتجدي نفعاً.

3- انشاء نظام حوافز جديد يعمل على تحفيز المعلمين والمدراء من اجل بذل قصارى جهودهم اثناء عمليات التعليم. على سبيل المثال، المعلم الذي يحقق نسبة نجاح عالية في الامتحانات العامة يتحصل على منحة دراسية لدراسة الماجستير في الجامعات العراقية او اعطاءه مبلغ من المال. وكذلك مكافأة مدراء المدارس الذين تحقق مدارسهم نسبة اداء عالية في الامتحانات بمبالغ مالية كما يحصل في امريكا.

4- التحول من نظام التعليم المباشر والذي يعتمد على المعلم في طرح الافكار والمعلومات الى نظام التعليم غير المباشر والذي يتمحور حول المتعلم بتزويده بمهارات التعلم الفردي وحل المشكلات والعمل الجماعي. جميع الدول التي حصلت على مراكز متقدمة في الامتحانات الدولية والدول المتقدمة تطبق نظام التعليم الغير المباشر.

5- الغاء تطبيق النظام الاحيائي والتطبيقي لان هذا النظام غير فعال وغير مطبق في كثير من الدول المتقدمة.

6- الغاء الامتحانات العامة الحالية لانها امتحانات غير فعالة وانما هي امتحانات تقيس مدى قدرة الطلبة على حفظ المحتوى فقط. بينما الأنظمة العالمية تمتلك انظمة امتحانات تقيس المهارات العليا للطلبة وتتحدى قدراتهم الذهنية وتقيس مدى قدرة الطالب على فهم وتحليل وتطبيق المواد الدراسية.

7- اجراء تغييرات كبيرة في المناهج الدراسية والتي لم تعد ملائمة لروح العصر الحالي والتركيز على بناء مناهج دراسية تهتم بتزويد الطلبة بمعلومات وافكار جديدة التي تتحدى قدراتهم الذهنية بدلاً من مجرد ملء عقولهم بمعلومات لامعنى لها، هذا من جانب. من جانب اخر، فنحن نحتاج الى مناهج تركز على الاخلاق من اجل بناء مجتمع فاضل يسوده روح الاحترام والتقدير بين ابناء الشعب خاصةً بعد مرور المجتمع بأزمات كثيرة وعلى رأسها الطائفية وحثهم على احترام واطاعة الانظمة والقوانين. نحن نحتاج لتلك المناهج لأن هناك ازمة اخلاقية حقيقية يعاني منها المجتمع العراقي على ان ترافق تلك المناهج الطلبة الى المرحلة المتوسطة. على وزارة التربية اخذ دورها التربوي في تعزيز الاخلاقيات الصحيحة والسليمة في نفوس الافراد.

* باحث واكاديمي-ادارة وسياسة تربوية
The State University of New York at Buffalo USA

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق


التعليقات

نور حميد عبد الكاظم الكعبي
Nooraltekamul@gmail.com
احسن اقتراح يارب تاخذ بي الدوله2018-02-25