القانون المذكور وقع حقيقة الأمر في المحذور حيث سفه أسس تعادل الشهادات وعمد إلى احتساب الدرجات العلمية ولو كانت ممنوحة بلا توافر الحد الأدنى من الضمانات التي تكفل الانتظام في قاعة الدرس والمختبر للتعلم فمن غير المتصور لدولة وسلطة حكم تحترم شعبها ان يصل بها الأمر إلى هذه الدرجة...
تحتفل الأمم المتحدة سنويا في يوم 24/ كانون الثاني باليوم الدولي للتعليم لتعيد تأكيد المبادئ الراسخة بخصوص التزام الدول تجاه مواطنيها بكفالة الحق في التعليم، وان الأخير ليس منحة من الدولة بل هو واجب من أخص واجباته وهذا ما أشار إليه الدستور العراقي للعام 2005 في المادة (34/ التعليم عامل أساس لتقدم المجتمع وحق تكفله الدولة، وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية وتكفل الدولة مكافحة الأمية).
لذا قام المشرع العراقي إلى إصدار العشرات من التشريعات وعبرت عقود من الزمن تعبر عن ترجمة هذا الحق بما يضمن للفرد الحصول على التعليم وأخرها حين بادر مجلس النواب وفي سابقة إلى إصدار القانون رقم (20) لسنة 2020 المعنون بقانون أسس تعادل الشهادات والدرجات العلمية العربية والأجنبية بعد ان تبناه بعض النواب ومرر من خلال لجان المجلس ذات الصلة كلجنة التعليم العالي واللجنة القانونية.
ويذكر أن مجلس التعليم العالي والبحث العلمي في 14/1/1976 صادق على أسس تعادل الشهادات والدرجات العلمية العربية والأجنبية وصدرت التعليمات رقم (5) لسنة 1976، وبقيت نافذة لحين صدور القانون المذكور أنفاً، كما وان التصويت على القانون تم في وقت حرج على جميع الصعد ومن الظروف التي رافقت التصويت عليه ((1- كانت المناقشات محتدمة بخصوص قانون الانتخابات الذي أوجب تقسيم البلد إلى دوائر متعددة فكان العمل يجري على دراسة المقترحات بهذا الخصوص، 2- الأزمة المالية التي كانت تمر بها الحكومة العراقية واضطرارها المتكرر باللجوء إلى البرلمان لإقرار قانون اقتراض داخلي لسد النقص في تمويل الرواتب نتيجة عدم صدور قانون الموازنة الاتحادية لذلك العام، 3- غياب المحكمة الاتحادية نتيجة نقضها للمادة الثالثة من قانون المحكمة للعام 2005 وتعذر استبدال قضاتها ممن أحيلوا إلى التقاعد ومن توفي منهم)).
كما ان القانون نص في المادة السادسة عشر على نفاذه من تاريخ التصويت عليه ما يدل على طابع الاستعجال غير المبرر فمن المتفق عليه أن القوانين التنظيمية المهمة تنفذ بعد نشرها في الجريدة الرسمية بل قد يحدد موعد لاحق لنفاذها لحين استكمال التحضيرات اللازمة التي يقتضيها حسن التنفيذ، وصادف ان امتنع رئيس الجمهورية عن التوقيع على القانون كنوع من الاحتجاج التنفيذي على تشريع القانون بيد ان المادة الثالثة والسبعين من دستور العراق 2005 في بندها الثالث جعلت القوانين تنفذ بمرور خمسة عشر يوما على ورودها إلى مكتب الرئيس وبالفعل نشر القانون دون ان يذيل بالصيغة التنفيذية، حيث لا يملك الرئيس العراقي أي نوع من الفيتو الرئاسي تجاه تشريعات البرلمان، ومما يؤشر على القانون أنه ألغى الكثير من الأسس التي تضمنتها التعليمات عدد (5) والتي من شأنها ان تحقق التوازن بين الحق في التعليم وجدية التعليم بما من شأنه ان يحقق الرصانة العلمية.
ويمنع التلاعب بالحصول على شهادات جامعية ودرجات علمية لأشخاص لم ينخرطوا بالفعل في التعليم الحقيقي وفق أسس أكاديمية تضمن التدريب والتأهيل اللازم.
بيد ان القانون المذكور وقع حقيقة الأمر في المحذور حيث سفه أسس تعادل الشهادات وعمد إلى احتساب الدرجات العلمية ولو كانت ممنوحة بلا توافر الحد الأدنى من الضمانات التي تكفل الانتظام في قاعة الدرس والمختبر للتعلم فمن غير المتصور لدولة وسلطة حكم تحترم شعبها ان يصل بها الأمر إلى هذه الدرجة من الاستهزاء بالشهادة العلمية لاسيما أن هذا النهج خطير جداً ويهدد المجتمع بشكل غير مسبوق فبعيداً عن مشكلة التضخم بل الانفجار في عدد من يحمل الشهادات العليا وما يرافقه من تبعات مالية على الخزينة العامة للدولة.
بوصف ما تقدم لا ينفك عن الحق في التعليم وضرورة تدريب الموظفين وتأهيلهم بزيادة معارفهم العلمية بما من شأنه ان يرفع إنتاجيتهم كيف سنتعامل مع من يحملون شهادات منحت لهم من مؤسسات علمية غير رصينة أو من جامعات ومؤسسات ربحية وليست أكاديمية، بمعنى ان الموازنة لا شك مطلوبة بين ضمان الحق في التعليم للعراقيين وبين ضمان التعليم الجيد الذي من شأنه ان يجعل المتعلم قادراً على الأبداع والابتكار والتجدد ومؤهل لتسلم الوظائف أو الأعمال التي تؤهله لها الشهادة التي يحملها بما من شأنه ان يخدم المجتمع ويحقق المصلحة العامة.
بمعنى ان من أخص واجبات الدولة ووزارة التعليم العالي على وجه الخصوص ان تنظر في نوع التعليم وتشترط أمور من شأنها ان تضمن رصانة التعليم وكفاءة المؤسسة التعليمة التي يدرس بها المواطن العراقي وتمنع الابتزاز أو الاستغلال المالي للطلبة فحين توجد بعض الجامعات قاعات وصفوف للطلبة العراقيين ولا تخالطهم بمواطنيها فالأمر ولا شك يؤشر خطورة علمية ولذا يؤشر على القانون الكثير من الملاحظات نختصر بعضها في الآتي:
1- أنه يمثل تضخماً تشريعياً غير مسوغ إذ إن مجلس النواب مختص بالتشريع وفق المادة (61/أولاً) من دستور جمهورية العراق للعام 2005 إلا أنه تجاوز سلطته بالتدخل السافر بعمل السلطة التنفيذية بما لا يتفق ومبدأ الفصل بين السلطات الذي أرسته المادة السابعة والأربعين من الدستور حيت سلب الحكومة ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي سلطتها بإصدار الأنظمة والتعليمات والقرارات التي تسهل تنفيذ القوانين، بل سلبها سلطة رسم وتنفيذ السياسات العامة والخطط العامة والتي تعد من مختصاتها بمقتضى المادة (80).
وللتذكير نشير إلى ان قانون وزارة التعليم العالي رقم (40) لسنة 1988 أشار في المادة (4/سادساً: وضع أسس التقويم للشهادات والدرجات العلمية العربية والأجنبية التي تلي المرحلة الثانوية والاعتراف بالمؤسسات الجامعية العلمية العربية والأجنبية كما أضافت المادة (47) من القانون المذكور ان من اختصاصات وزير التعليم إصدار التعليمات التي تسهل تنفيذ أحكام القانون والأمر ذاته تكرر في قانون الخدمة الجامعية رقم (23) لسنة 2008، لذا كان الأوفق ترك تنظيم أسس التعادل للتعليمات التي تتسم بالمرونة النسبية وإمكانية تعديلها من قبل الوزارة المعنية كلما تطلبت الظروف ذلك، وكذا مسألة الاعتراف بالشهادات والجامعات الأجنبية لكونها تمثل مسألة تنفيذية وجزء من سياسة الدولة التعليمية.
2- الغى القانون اللجنة المركزية لمعادلة الشهادات التي تشكلت بموجب التعليمات عدد (5) وهي تتكون من مجموعة من الأساتذة المختصين في ميدان اختصاص طالب المعادلة وهي من تتولى عملية التأكد من رصانة المؤسسة التعليمية، وتم حصر العمل بموجب القانون رقم (20) بقسم معادلة الشهادات والدرجات العلمية في الشؤون الإجرائية فحسب.
فتصدت المحكمة الاتحادية العليا بقرارها في الدعوى المرقمة (46) والدعاوى التي تم توحيدها معها (50/51) في 27/10/2021 لنقض المادة الثالثة البند ثالثا الذي كان يحصر المعادلة بالجوانب الإجرائية فحسب وأقرت المحكمة الاتحادية العليا امتداد اختصاص وزارة التعليم للجوانب العلمية لطالب المعادلة بمضامين الرسالة أو الأطروحة لذا صدر أعمام وزارة التعليم العالي دائرة البعثات والعلاقات الثقافية بالعدد /31215 في 11/11/2021، والذي حدد نسبة إشراف لكل تدريسي في الجامعات التي يتواجد بها الطلبة العراقيين بالخارج كما اشترط اجتياز النتاج العلمي نسبة الاستلال الإليكتروني بما لا يجاوز 20%، وعرض الرسائل والأطاريح على لجان علمية من ذات الاختصاص في الجامعات العراقية وإحالة الطلبة على الجامعات للاختبار كل حسب اختصاصه).
3- رافق صدور القانون انحراف التشريعي واضح حيث منح مجلس النواب نفسه سلطة معادلة الشهادات عبر الأمانة العامة لمجلس النواب بموجب المادة (الثانية البند ثالثاً) الذي ينص على أن ((تقوم الأمانة العامة لمجلس النواب بمعادلة الشهادات التي تصدر من معهد التطوير البرلماني ولا يتخذ هذا التعادل أساسا لغرض الدخول إلى الجامعات أو التدريس فيها))، واختصاص معادلة الشهادات المتقدم يثير التساؤل عن هذه الشهادات المعادلة فهي تعادل أي درجة علمية معتمدة في العراق؟ فضلاً عن ان المعادلة عمل تنفيذي ومجلس النواب عمله تشريعي لذا ستتعارض هذه المعادلة مع مهام المجلس، لذا تصدت المحكمة الاتحادية العليا للنص المتقدم وقررت عدم دستوريته أيضاً.
4- ألغت المحكمة العديد من المبادئ التي تضمنها القانون لكونها تتعارض مع مبدأ المساواة بين العراقيين ومنها ما ورد في المادة الثانية التي سمحت باحتساب الشهادات التي يحصل عليها ذوي الدرجات الخاصة بلا موافقة أصولية من دوائرهم، كما ألغت المحكمة البند (ب) من الفقرة ثانياً من المادة الثانية التي منحت الملحقيات الثقافية سلطة الموافقة على تغيير الشهادة للطالب العراقي التي يحصل عليها وربطت الأمر بموافقة دائرته الأصلية، كما ألغت المحكمة سلطة الوزارة أو مجلس الخدمة بمعادلة الشهادات التدريبية.
5- ومن المبادئ المهمة التي تضمنها قرار المحكمة إلغاء ما ورد بالمادة (11) من منح الوزير سلطة الإعفاء من شرط الإقامة في بلد الشهادة وهذا الإلغاء الغاية منه الانتصار لمبدأ المساواة بين العراقيين لكي لا يفتح الباب واسعاً للمجاملات والفساد الإداري.
6- كما تضمن القرار إلغاء ما ورد في المادة (12/ثانياً) من قانون أسس التعادل النص على أن "منح حملة الشهادات العليا (الماجستير أو الدكتوراه) من الموظفين المدنيين أو المكلفين بخدمة عامة من غير موظفي وزارتي (التعليم العالي والبحث العلمي، التربية) اللقب العلمي" والنص المتقدم نقضته المحكمة الاتحادية لتعارضه مع طبيعة الوظيفة التي يؤديها هؤلاء فلا تتطلب منهم الحصول على الألقاب العلمية بل دوائرهم تتعامل معهم على أساس العنوان الوظيفي والشهادة الحاصل عليها.
بيد ان قرار المحكمة الاتحادية المشار إليه تغافل عن بنود في القانون أشد خطراً مما تم إلغائه نذكر منها:
1- تطرقت المادة (6/ثالثاً) لشرط الإقامة في بلد الشهادة وأجازت ان تكون متصلة أو منفصلة ويبدو ان المشرع تغافل عن الحكمة من وراء جعل الإقامة متصلة التي تتمثل بضمان انتظام الطالب بقاعة الدرس والمحاضرة والحضور الدوري للمكتبات والاطلاع على المصادر العلمية والاتصال المباشر بالمشرف العلمي في حين ان الإقامة المنفصلة تجعل من الحصول على الشهادة العليا بمثابة النزهة فقد خرق القانون محل الدراسة مبدأ طالما تسالم عليه الجميع في العالم أجمع مقتضاه "التفرغ للدراسة".
2- وتغافل الحكم عن المادة (12/ أولاً) والتي خرقت مبدأ "حظر الجمع بين الوظيفة أو التكليف بخدمة عامة والدراسة" حيث ورد النص بالصيغة الآتية: "للموظف او المكلف بخدمة وأعضاء مجلس النواب والوزراء ومن هم بدرجتهم أو الوكلاء ومن هم بدرجتهم والمدراء العامون ومن هم بدرجتهم والدرجات الخاصة العليا بموافقة دوائرهم الدراسة أثناء التوظيف أو التكليف على النفقة الخاصة أو إجازة دراسية للحصول على الشهادة الأولية أو العليا داخل العراق أو خارجه بصرف النظر عن العمر" وبذا سيفتح الباب للدراسة بطريق الانتساب التي تأبها أغلب الدول الحريصة على ان يستقي رعاياها العلوم بطريق مباشر ويتعارض مع المادة (50) من قانون الخدمة المدنية رقم (24) المعدل وتعليمات الإجازة الدراسية رقم (165) لسنة 2011، فالاستثناءات التي تضمنها النص عديدة بما لا يتفق مع المبادئ الدستورية القائمة على مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص كونه يعطي امتياز لهؤلاء ويحرم شرائح كبيرة من الشعب العراقي من إكمال دراستهم كونهم تجاوزوا سناً معيناً إذ يفترض ان الحكمة واحدة فلماذا نعطي للوزراء وأعضاء مجلس النواب رخصة لإكمال دراستهم بغض النظر عن العمر ونحرم المواطن الضعيف، ولماذا نسمح له بالجمع بين الوظيفة والتكليف وما يتطلبه من تفرغ تام لخدمة المصلحة العامة والدراسة ألا يتعارض ما تقدم مع اليمين الدستوري الذي أقسم عليه هؤلاء وورد فيه "أقسم بلله العلي العظيم ان أؤدي مهماتي ومسؤولياتي بتفان وإخلاص...."، فهل يستقيم التفاني والإخلاص مع الدراسة كما ان المادة (49) من الدستور في بندها الـ(السادس) منعت ما تقدم بالنص على أنه "لا يجوز الجمع بين عضوية مجلس النواب وأي عمل أو منصب رسمي أخر"
في الختام نجد لزاماً على الحكومة العراقية ان تبادر إلى صياغة مشروع قانون جديد يتفق مع حق الإنسان بالتعليم ويمنع من التحايل على القانون على ان يصاغ بشكل يمنع وزارة التعليم العالي من التعسف في سلطتها حيال الطلبة ويقدم إلى مجلس النواب في دورته الجديدة ليجد طريقه نحو التشريع.
اضف تعليق