حين ذهبنا للمدرسة ايام الشباب، لم نكن نتصور وجود طرق اخرى للتعليم. غير اننا نستطيع الآن التأمل بخيارات راديكالية اخرى لفكرة المدرسة. ان الصراع بين الاتجاه المدرسي وبين المبادئ التحررية اتسع كثيرا في عصر الانترنيت.
فمن جهة، عزز الانترنيت وبشكل كبير فرص التعليم المستقل الحر. وكما يشير Will Richardson في كتابه (لماذا المدرسة؟)(1)، ان المتعلمين يجدون امامهم حاليا وفرة كبيرة في المصادر التعليمية، بدلا من الندرة التي سادت حين كانت المدارس تشكل عقيدة آنذاك. كذلك، ان المعرفة الجديدة تدفقت بمستويات لا بأس بها وبالشكل الذي جعل التعليم مدى الحياة ضروريا.
عندما نفكر بالمدرسة، انما نفكر بالتعليم المرتبط بزمان ومكان معينين. يذكر الكاتب (ارنولد كلنك) انه درس الجبر حين كان في سن الثالثة عشر في Clayton بميسوري، ثم دخل الكلية في سوارثمور ببنسلفانيا في الفترة من 1971 الى 1975. لكن التعليم خارج اسوار المدرسة يمكن ان يحدث في اي مكان وزمان. الانترنيت جعلنا واعون تماما بهذه الحقيقة، اذ كما يشير ريجاردسون، ان صفوف الدراسة التقليدية اصبحت ظاهرة متخلفة وقسرية عند مقارنتها بما نستطيع تعلّمه بأنفسنا باستخدام الويب.
ومن جهة اخرى، نجد الضغوط السياسية لدعم نموذج التعليم المدرسي ربما هي اقوى من اي وقت مضى. الرئيس اوباما في حملته عام 2008، تحدّث عن ثقته بجعل كل شخص قادر على الذهاب للكلية. وفي خطابه عام 2013 عن حالة الاتحاد، دعا الى "مرحلة عالمية لما قبل المدرسة" universal pre-school. في تلك الاثناء، كان شعار المحافظين والجمهوريين هو "المسؤولية"، التي تعني عمليا السيطرة على المدارس باستخدام الاختبارات كقياس متري.
وعلى الرغم من كل هذه القوى السياسية، يمكن التنبؤ انه خلال عقد او عقدين ستصبح موضعة التعليم بمكان وزمان امراً غير طبيعي. ان جوهر الثورة المتوقعة سيكون احتضان التعليم في اي زمان ومكان. وحتى لو ان التعليم المدرسي كمؤسسة يستطيع التكيف مع هذا النموذج فان الرهان ضده سيبقى قويا.
تحرير المجتمع من المدرسة Deschooling society
ان العناصر الرئيسية لبرامج الحرية التعليمية جرى تحديدها في الاربعين سنة الماضية من جانب الكاتب Ivan Ilich في كتابه (Deschooling society)(2). العنصر الاول هو ما يسميه الكاتب الغاء المؤسسات disestablishment:... "الولايات المتحدة قادت العالم في حركة الغاء احتكار الكنيسة الواحدة. حاليا نحن نحتاج ايضا الى الغاء قوانين احتكار المدرسة".
اما العامل الثاني فهو ضروري ايضا: لكي نجعل هذا الإلغاء قويا ومؤثرا، سنحتاج الى قانون يمنع اللامساواة والتمييز في التوظيف او التصويت او القبول في مراكز التعليم المرتكزة على الحضور المسبق في بعض المواد الدراسية. هذا الضمان سوف لن يستبعد اختبارات كفاءة الأداء في وظيفة او دور معين، لكنه سوف يزيل التمييز الحالي السيء في تفضيل الفرد الذي يتعلم في مدرسة معينة معتمدة على الانفاق الكبير من المال العام او الفرد القادر على الحصول على شهادة دبلوم ليست لها علاقة باي مهارة او عمل مفيد.
في الحقيقة، ان هذا الادّعاء يبدو اقوى مما يرغب به التحرريون اليوم. لابد من الغاء جميع المتطلبات القانونية التي تلزم اصحاب الشهادات العلمية (الحصول على رخصة ممارسة المهنة). المشكلة ليست مع الناس الذين يختارون برغبتهم التمييز على اساس المواصفات والقدرات التي يتميز بها الاخرون. بل ان المشكلة في الأشكال الاجبارية لهذا التمييز.
نشر (ايليتش) افكاره في الاصل كمقالات في ذي نيويورك رفيو اوف بوكس، ثم حاليا ضمن منشورات اليسار. اليوم يتذكر التحرريون ايليتش بينما نسيه اليسار. مع ذلك هو يعتبر تحرريا. كان ايليتش جزءا مما سمي ايام جون كندي بـ "اليسار الجديد"، وهي الظاهرة التي ترددت بخفوت في حركة الوول ستريت في عامي 2011 و 2012. وعلى عكس التحرريين الحديثين الذين دعموا الرأسمالية، نجد اليسار الجديد هاجم الرأسمالية. وكذلك هاجم اليسار الجديد ايضا تكنوقراط الحكومة الذين يُلامون على حرب فيتنام كواحدة من بين الامراض الاخرى.
واليوم، اختفى كليا ذلك الانقسام بين اليسار وحكومة التكنوقراط. اليسار الجديد شككوا بسياسات النخب، وخشوا من المؤسسات القوية وفقدوا الامل بالعملية الانتخابية الامريكية. بالمقابل، ما يصفه تود انبيرج بـ "اليسار 3"(3) يؤكد الايمان بسياسات النخب ويرحب بالمؤسسات القوية التي ترسخ مبادئها، ويرى انها قادرة على ادارة العملية الانتخابية.
وبسخرية اكبر، ربما يقول احد ان اليسار الجديد عارض المؤسسة الاكاديمية، لكنه اصبح الان يجسد تلك المؤسسة.
في "تحرير المجتمع مدرسيا" يذكر ايليتش انه يعتقد ان المستقبل المرغوب يعتمد على اختيارنا المتعمد لحياة العمل بدلا من حياة الاستهلاك، على خلقنا لاسلوب الحياة الذي يمكّننا لنكون ذاتيين، مستقلين، ومع ذلك مرتبطين بالبعض الآخر، بدلا من الاحتفاظ باسلوب حياة يسمح لنا فقط لنصنع او نحطم، ننتج ونستهلك – اسلوب حياة ليس اكثر من محطة على طريق استنزاف وتلوث البيئة. المستقبل يعتمد كثيرا على اختيارنا للمؤسسات التي تدعم حياة العمل بدلا من تطويرنا ايديولوجيات وتكنلوجيا جديدة. نحن نحتاج الى مجموعة من المعايير التي تجيز لنا الاعتراف بتلك المؤسسات التي تساعد على النمو الفردي بدلا من الادمان، بالاضافة الى الرغبة في استثمار مواردنا التكنلوجية بمنح الافضلية لمؤسسات النمو هذه.
هذا هو الطابع السائد في رؤية اليسار الجديد. نظر ايليتش الى التهديدات الماثلة امام الانجازات الفردية باعتبارها سلسلة متصلة. اذا كانت القسرية في احدى نهايات السلسلة والخيار الفردي في النهاية الاخرى، عندئذ سيكون بينهما صنف هام من الاستغلال، كما يُمارس من جانب اصحاب الاعلان مثلا. اختار ايليتش مجهزي الخدمة الفردية الذين يحصلون على زبائنهم عبر التعبيرات اللغوية باعتبارهم اكثر قربا لنهاية "الخيار الفردي" ضمن السلسلة. اما التعليم المدرسي فيقع ضمن منطقة الاستغلال البارع في هذه السلسلة.
وبما ان ايليتش نظر الى المدارس كوسائل "للنظام" (حسب استعمال اليسار الجديد)، فهو رفض صراحةً فكرة فاوشرات او كوبونات المدرسة. مشكلته مع الفاوشر هي انها تساعد في ترسيخ فكرة ان التعليم هو مشابه للمدرسية. ايليتش يجادل بان المدرسية حطت من قيمة التعليم. هو يحتضن نموذج التعليم في اي مكان وزمان. حينما كتب ايليتش كتابه، كانت التكنلوجيا بدائية مقارنة بما هي عليه اليوم. مع ذلك هو اقترح تسهيل التعليم المبني على اساس الأقران peer-based learning عبر استخدام الحاسوب لربط الناس ذوي الاهتمامات المتشابهة.
وبالاضافة الى نقاشات جماعات الأقران المتشابهين، فان رؤية ايليتش للتعليم اللامدرسي لها ثلاثة عناصر اخرى. احد هذه العناصر هو الوصول الواسع للجمهور لما سماه "الاشياء التعليمية" بما في ذلك الكتب، وسائل المختبرات، المكائن. الانترنيت سهّل سلفا الوصول الى المواد المكتوبة، كما ان الواقع الافتراضي يساعد باستمرار كبديل هام للاشياء التعليمية الاخرى.
اما العنصر الاخر فهو خدمة تبادل المهارات skill-exchange service، التي تسمح للناس ذوي الرغبة بتعلّم مهارات معينة العثور على شخص يشكل نموذجا لتلك المهارة. ومع انتشار اليوتيوب، نكون قد حصلنا على هذه الخدمة، وهي اكثر كفاءة. مثلا، اذا كنت ترغب ان تكون سمكريا او كهربائيا، فان اليوتيوب لديه الموارد لتمكينك من القيام بذلك.
بالطبع، سوف لن تكفي الموارد المتوفرة على اليوتيوب او في اي مكان اخر على الويب. نحن بحاجة لمرشدين لمساعدتنا في الابحار بهذه المعلومات الغزيرة. ايليتش، وفق رؤيته يتكهن هذا بإدخاله عنصرا رابعا سماه المربي الواسع an educator- at-large.
دور الاكراه في التعليم
حين يقول احد ما ان مؤسسة المدرسة غير مفيدة، يقابله الرأي المضاد بان قسرية التعليم من جانب الحكومة هي خاصية هامة للتعليم. مخاوف الناس من الغاء التعليم المدرسي تتلخص بالتالي:
1- ان الآباء الضعفاء في أداء وظيفتهم سيكونون غير راغبين او غير قادرين على تعليم اولادهم.
2- الناس، خاصة الاطفال، سوف لن يعرفوا ماذا يدرسون.
3- سيتجنب الناس دراسة مواضيع هامة لها صفة التحدي كالرياضيات.
4- سيكون هناك مزيد من الغش والاحتيال. المستهلكون سيدّعون كذبا انهم تعلّموا المهارات المطلوبة، والمجهزون سيدّعون ايضا امتلاكهم المعرفة والقدرة على التعليم.
ان تاريخ التعليم في امريكا لا يؤكد او يسند هذه المخاوف. فمثلا، الكاتبان Claudia Goldin وLawrence Katz (4) في كتابهما الشهير (السباق بين التعليم والتكنلوجيا) يقومان بإجراء فحص دقيق للتوسع في التعليم المدرسي الابتدائي ومن ثم التعليم الثانوي. هما وجدا ان القوانين الاجبارية للتعليم المدرسي ليست هي السبب الاول للزيادة في التعليم المدرسي التي حدثت بين القرن التاسع عشر ونهاية القرن العشرين.
لكن الكاتبين يجادلان ايضا بان مؤسسات التعليم المدرسي وتوفيره من جانب الحكومة كان هاما جدا لنجاح الاقتصاد الامريكي. وبعد 40 سنة من صدور كتاب ايليتش في نقده اللاذع للتعليم المدرسي نجد معظم الناس لازالوا يعتقدون ان الغاء المدرسة سيكون خطوة الى الوراء.
سيكون من المستحيل سلفا معرفة ان كان الغاء المدارس سيقود الى التقدم ام الى الفوضى. سنكتشف ذلك فقط عندما يمارس الناس تجربة التعليم بدون مدارس.
اضف تعليق