الفيلسوف جون ستيوارت مل (1806-1873) أعلن عن ضرورة تعليم جميع الاطفال. الليبراليون يتفقون على ان التعليم يجب ان يكون بشكل ما الزاميا للجماعات الاثنية. غير ان هناك صعوبات جمة تبرز في هذا الموقف. التعليم يُعتبر كوسيلة للحرية في سنوات الحياة المستقبلية، لكن ماذا سنقول عندما تتعارض الزامية التعليم مع حرياتنا الحالية؟ وكيف سيكون الليبراليون منسجمين في موقفهم حين يرفعون شعار التنوع في الآراء بينما يدعون الى الزامية التعليم؟
هذه القضايا اصبحت محور الاهتمام في القضية الشهيرة بـ Wisconsin v.Yoder عام 1972. حين رفع عدد من آباء التلاميذ من طائفة الاميش(1) شكوى الى المحكمة يعلنون فيها معارضتهم لقانون ولاية وسكونسن الذي يشترط على التلاميذ دون سن السادسة عشرة الحضور الى المدرسة. جماعة الاميش يسمحون بحضور التلاميذ فقط الى سن الـ 14 حيث يحصلون على هذا التعليم في المدارس المحلية للجماعة. لكن السنتين الاخريين يتطلبان الحضور في مدارس ليست تابعة للطائفة مما يضع التلاميذ في مناخ من التصادم مع القيم الايميشية. وبدلا من الحضور الى المدارس الثانوية، استمر المراهقون من ابناء الطائفة بمواصلة تعليمهم بشكل لارسمي ضمن الجماعة في مجالات الزراعة للرجال والاعمال المنزلية للنساء. حكمت المحكمة لصالح (يودر) مجادلة بان قانون ولاية وسكونسن انتهك حقوق الآباء في حرية الدين وذلك بمنعه الآباء من تربية ابنائهم وفق حياة العزلة والبساطة الضروريتين للحياة الايميشية.
الاختلاف في الآراء الليبرالية
يعتقد العديد من الليبراليين ان قرار المحكمة يجب ان يأخذ منحى آخرا. حسب رأيهم انه من الجائز للولاية فرض قانون يطلب من ابناء الطائفة ان يقبلوا القيم المتنوعة وطرق الحياة المختلفة. في كتابه (حول الحرية، 1859) يمجّد ستيوارت مل قيم التنوع لمساهمتها في سعادة المجتمع الطويلة الأجل: مثلما مختلف الظروف البيئية مطلوبة لنمو مثالي لمختلف انواع النباتات، كذلك بالنسبة للتنوع في "تجارب الحياة" يمكّن مختلف انواع الافراد ليكونوا في أفضل ما يستطيعون. الليبراليون الحديثون يستخدمون فكرة مشابهة في الجدال ترى من الخطأ افتراض ان اطفال الاميش كلهم متشابهين، ولذا هم بحاجة لمواجهة مختلف الآراء لكي يقرروا ما يتناسب بشكل أفضل مع شخصياتهم. رأي مشابه آخر جرى التصويت عليه من جانب دوكلس في احدى المحاكم. هو اعترض على "حق الطلاب في تقرير مصيرهم"، وجادل "بان عدم السماح لأطفال الاميش في ممارسة حياة المدرسة الثانوية يعني ان الطفل سيبقى محروما الى الابد من الدخول الى العالم الجديد والمدهش للتنوع الذي نشهده اليوم". ومؤخرا، جادل الفيلسوف القانوني فينبيرغ ايضا في تفضيل قانون ولاية وسكونسن على اساس ان الولاية الليبرالية يجب ان تكون محايدة، اي انها "تتصرف بطريقة تسمح لجميع المؤثرات ان تعمل بالتساوي تجاه الطفل، وان تفتح كل الامكانات له"(الحرية والانجاز، 1992، ص85).
المشكلة في هذه الآراء هي بينما هي ليبرالية في كونها منفتحة على آراء متنوعة عن الحياة الجيدة، لكنها بمعنى اخر هي ليست ليبرالية بالعمق. فهي رغم اعترافها بان هناك عدم اتفاق في المجتمع حول اي رؤية نقبلها عن الحياة الجيدة، لكنها تتجاهل حقيقة ان هناك ايضا عدم اتفاق حول السؤال الاكثر جوهرية فيما اذا كان يجب علينا تقييم الاستقلالية والتنوع. فينبيرغ يبرر التنوع في التعليم لكونه يدفع الناس لتعظيم حظهم في الانجاز الذاتي، لكنه يفترض ان هذا يتطلب ممارسة الاستقلالية لتحقيق التنوع. ولكن من منظور جماعة الاميش، ان القبول بالتنوع يقود الى مشكلة اخلاقية وقد يستبعد الانجاز الابدي في الحياة ما بعد الموت، ولهذا فان التنوع سوف لن يعظّم الانجاز الذاتي. نستنتج من هذا ان رؤية فينبيرغ هي اقل حيادية مما هو يعتقد. في الحقيقة، ان نظرة مل في غرس وتربية الخصائص المنفتحة والجريئة هي بلا شك غير مرغوبة للآباء الايميشيين، الذين يقيّمون الخضوع والصبر. لذا، بينما من الواضح لبعض الليبراليين ان القبول بالتنوع ينفع الاطفال الايميشيين بتعزيز خياراتهم، لكن هذا التبرير لا يلقى قبولا من الايميشيين انفسهم. هم يرون ان التنوع المفروض هو مشابه الى تلقين القيم الليبرالية.
الاتفاق العام
الفيلسوف السياسي جون رولس (1921-2002) جادل بانه اذا كان الليبراليون حقا مهتمين باحترام حق الناس في الاختلاف، لذا فان اي سياسة تعليمية مفروضة يجب ان تُبرّر بأسباب عامة اي اسباب مقبولة من عامة الناس، تتجنب الآراء المثيرة للجدل حول الحياة الجيدة. هو انتقد مل "لإعتماد ليبراليته على قيم وافكار لم يتم تقاسمها بشكل عام" (فكرة الاجماع المتشابك، مجلة اكسفورد للدراسات القانونية، 1987، ص6).
اذا، هل بإمكان الليبراليين في ضوء تفكير رولس تبرير تعريض الاطفال للتنوع ضد رغبات آبائهم وبطريقة تمتثل فقط للأسباب العامة؟
اولاً، هم ربما يقولون اذا اريد للمواطنين السير قدما رغم عدم اتفاقهم، فهم بحاجة للامتثال للتنوع. لكي نرى عدم الاتفاق كشيء معقول او ان الناس الذين لا تتفق معهم هم ليسوا غير عقلانيين تماما، فاننا نحتاج للانخراط مع اولئك الذين لا نتفق معهم. هؤلاء المواجهون لنا يوفرون فرصا لتربية وغرس الاحترام المتبادل والتضامن. هذا اللجوء الى التعايش السلمي هو ما يريده كل فرد عقلاني بصرف النظر عن رؤيته الخاصة للحياة الجيدة.
ثانيا، يجادل رولس بان التعليم يجب ان يطور مقدرة الفرد للمشاركة في مؤسسات المجتمع. كونك مواطن نشط في العملية الديمقراطية يتطلب على الاقل بعض المهارات الاساسية للمشاورات العقلانية، وان احدى الطرق الهامة في الحصول على هذه المهارات هي عبر الاشتراك التام بمختلف وجهات النظر ومع الناس من مختلف القيم والخلفيات.
في ضوء هذه الأسباب العامة، يجادل رولس بان الدولة يجب عليها رفض رغبات آباء الاميش في العزلة التعليمية لأولادهم. رؤيته هذه وما حملته من مضامين وردت في قوله "مع الاسف، النتائج التي لا يمكن تجنبها للمتطلبات المعقولة لتعليم الاطفال يجب قبولها" (الليبرالية 2005 ص200).
رولس مقابل مل
حاليا يشير الليبراليون الى هذا النوع من التفكير بـ التبرير الرولسي، ذلك لأنه يقف الى جانب تقييم جميع المواطنين العقلاء فهو "اكثر حيادية" من التبرير المنجذب الى الاستقلالية والتنوع، وهو لهذا اكثر قدرة على مسايرة الاختلافات التي تشكل سمة للديمقراطيات الحديثة. المدافعون عن مل يقولون : حينما يدّعي رولس ان ليبراليته تتطلب تعليما اقل بكثير من ليبرالية مل، فهذا يعني ان مل لديه رؤية في التعليم اكثر صلابة. لكن هذا لاينسجم مع ما قاله مل. في الحقيقة، ليس لدى مل رؤية دقيقة عن نوع التعليم الضروري. بل هو اراد من الدولة "ان تترك الآباء يحصلون على التعليم الذي يناسبهم من حيث الكيفية والمكان"(حول الحرية، 1859، فصل 5، عبارة 13). هو اراد تنوعا في التعليم، وليس تعليما في التنوع مثلما يقترح التبرير اعلاه. في الحقيقة، هو جادل بان "التعليم العام للدولة هو مجرد اختراع للناس المختلفين ليكونوا بالضبط مشابهين لبعضهم".
ربما يرى البعض ان هذا لا يتفق مع الانسجام المفترض في مل. في الحقيقة، بعض تعليقات مل الشخصية تقودنا للاعتقاد ان ما يتطلبه من الحد الادنى للتعليم لا يمكن انجازه عبر تعليم الاميش في الزراعة والنجارة ومهارات العمل المنزلي، لأنه لطالما قال ان الاطفال يجب ان يُعلّموا المعرفة المطلوبة لعمل استنتاجات في المسائل الشائكة، وهو يقترح ايضا ان مثل هذه المعرفة يمكن فحصها بالامتحانات العامة.
مهما كان الحكم على مل، نحن نستطيع الجدال ضد رولس بالقول ان دفاع العقل العام في فرض التعليم الليبرالي يصعب جدا تسميته "محايدا". لكي يعمل دفاع العقل العام، فان قبول التنوع يجب النظر اليه عموما باعتباره اكثر اهمية من القيم التي تركز على حياة الانفصال. غير ان هذا بالضبط ما يرفضه الاميش. هم ربما يقبلون بالاسباب العامة، لكنهم يعتقدون ان هذه تتضائل امام اسبابهم الدينية. لذا فان تبرير قانون ولاية وسكونسن باللجوء الى الاسباب العامة ربما يكون محايدا في تجنب الوثوق بالرؤى الشائكة، لكنه يفشل ليكون محايدا تماما طالما انه يتطلب رفض بعض العقائد الهامة لدى الايميش.
تغيير الثقافة
مع اختلاف الرؤى التي نتخذها، فان التفكير في هذا الموضوع يساعدنا في ادراك ان الليبراليين يحتاجون ليكونوا اكثر حذرا في عمل الادعاءات بالحيادية، واكثر صدقا حول مدى فشلهم في هذا الطموح. يجب علينا ايضا ان نتأكد بان جدالنا يتعامل مع حقيقة الموقف. كل من جدال رولس ومل شجعا اهمية التنوع، مع ذلك، فان المدرسة الثانوية الحديثة هي ليست ببساطة مزيج من طرق مختلفة للحياة وانعكاس محايد لجميع القيم. بدلا من ذلك، وكما اشار رئيس القضاة Warren Burger ان الثانوية تميل للتأكيد على الانجازات الفكرية والعلمية، والتميز الذاتي، والمنافسة والنجاح المادي والحياة الاجتماعية.
كذلك، فان ضغوط الزملاء وخاصة المراهقين، والحاجة للامتثال يُحتمل ان تعزز التجانس في وجهات النظر. لذا، اذا اراد الليبراليون ان يكونوا منسجمين في دفاعهم عن التعليم الالزامي في المدارس الحكومية، فان ثقافة المدرسة يجب عليها اولا اجراء بعض التغيرات الدراماتيكية. المدارس ستحتاج لتكشف وتعزز وبقوة التنوع في طرق الحياة وتوفر ايضا فرصا لاستجواب غالبية القيم مثل الانجاز الذاتي للفرد. ان التحدي امام مدراء المدارس وصناع السياسة هي تنفيذ استراتيجيات تحمي الاقليات من الضغوط الاستثنائية للامتثال، وفي غير ذلك فانهم سيلجأون لنوع من الانفصال.
اضف تعليق