وقفت المحاضرة سيفيلاي جيلينك أمام سبورة في أحد متنزهات أنقرة لتلقي محاضرتها وعنوانها "المقاومة بالقصص". وتجمع أمامها بضع مئات من الطلاب وقد ارتدوا معاطف ثقيلة وسط جو بارد للاستماع إليها وهي تصف المخاوف والصراعات التي تشهدها البلاد.
وأصبح هذا المدرج الصغير حجرتها الدراسية غير الرسمية منذ إقالتها من وظيفتها كمحاضرة في الإعلام والاتصالات بجامعة أنقرة وهي واحدة من حوالي 5000 أكاديمي عزلوا من وظائفهم في أعقاب الانقلاب الفاشل للجيش في يوليو تموز الماضي.
وأثرت "المذبحة الفكرية" -كما يصفها بعض الأكاديميين- على كليات متعددة من الفيزياء والأحياء إلى الدراما والعلوم السياسية في بعض من أفضل جامعات تركيا مما أثار شعورا بالقلق لدى المعلمين والطلاب على حد سواء.
وقالت جيلينك (50 عاما) إن المحاضرات غير الرسمية التي تلقيها في بعض الأحيان والأحداث المماثلة من جانب أكاديميين آخرين ما هي إلا محاولة رمزية للحفاظ على الاتصال مع الطلاب حيث أنه أمر "محزن تماما ألا يتمكنوا من رؤيتنا في الجامعة"، وأضافت قائلة "اعتبرنا هذه الإقالات فرصة لتخطي القيود ونقل الجامعة إلى الشوارع، "طاقم التدريس والبحث الذي أقيل كان مستقبل هذه الجامعة... التأثير سيستمر لعدة أجيال".
ولم تكن الإقالات الجماعية للأكاديميين سوى جانب واحد من حملة تطهير واسعة شملت الشرطة والجيش والقضاء وأقيل فيها أكثر من 125 ألف شخص فضلا عن القبض على 40 ألفا في أعقاب محاولة الانقلاب التي شهدت مقتل نحو 250 شخصا، وتتهم منظمات حقوقية الرئيس التركي طيب إردوغان -الذي يسعى حاليا لكسب تأييد شعبي لصلاحيات أوسع- باستغلال حالة الطوارئ التي أعلنت بعد محاولة الانقلاب لسحق المعارضة السياسية.
وحُرمت كليات العلوم السياسية والحقوق بجامعة أنقرة من أكثر من 70 من مدرسيها بموجب مرسوم إقالات صدر في فبراير شباط. وفقد قسم الدراما أكثر من نصف طاقم التدريس الأحد عشر. وامتنعت الجامعة عن التعقيب.
ويقول طلاب إنهم لم يلتحقوا بالجامعة للدراسة فيما وصفوها ببقايا كليات، وقال ايليم اصلي ديمير وهو طالب يدرس العلوم السياسية "اخترنا هذه الجامعة بسبب ما وعدنا به مدرسوها وللعمل معهم.. هذا لم يعد المكان الذي التحقنا به".
ويقول إردوغان إنه كان من الضروري القيام بحملة تطهير واسعة للمتآمرين والمتعاطفين معهم في أعقاب محاولة الانقلاب. ويقول أيضا إن الخسارة بين أعضاء هيئات التدريس سيجري تعويضها سريعا.
وأبلغ الصحفيين لدى عودته من زيارة للخليج في فبراير شباط "إذا كانوا شاركوا في أمور تقود إلى انقسامات في بلدي أو كانت لهم صلات بجماعات إرهابية.. فسيتعين عليهم بالطبع أن يدفعوا الثمن."
وألقى باللوم في المحاولة الانقلابية على فتح الله كولن رجل الدين الذي يعيش في الخارج والحليف السابق له والذي تقول السلطات إنه زرع مؤيدين له في قطاعات كثيرة ودبر الانقلاب. وينفي كولن الذي يعيش في الولايات المتحدة أي دور له في المؤامرة، وتصف فقرة في الصحيفة الرسمية للبلاد الأكاديميين المحظورين بأنهم ضمن الذين "يشتبه في وجود صلات لهم بمنظمات وكيانات إرهابية تمثل خطرا على الأمن القومي". ويقول كثيرون إنهم لا صلة لهم بحركة كولن وليس لديهم أي فكرة كيف انتهى بهم المطاف إلى وضعهم في القائمة. والإقالات بصفة مبدئية قابلة للاستئناف لكن لم يتم بعد تشكيل لجنة خاصة لذلك.
يقول جيهانجير إسلام وهو مسعف مسلم ملتزم وناشط حقوقي إنه ليس من أنصار الانقلاب بل كان من بين عشرات الآلاف الذين نزلوا الشوارع للتصدي له، وأضاف قائلا في منزله باسطنبول "ما هو المعيار هنا؟ بأي معايير أقالوا الناس من وظائفهم؟"
وبدلا من ذلك يبدو أنه اٌستهدف بسبب قضية ليست متعلقة بمحاولة الانقلاب إذ أبدى دعمه لعريضة وقعها أكثر من ألف أكاديمي العام الماضي تنتقد عمليات الجيش ضد المسلحين الأكراد في جنوب شرق البلاد.
وقال مراد سفنك الذي أقيل مؤخرا من كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة "إنه مشروع لإسكات كل المعارضة داخل المنظومة الأكاديمية.. الحكومة رأت أن بإمكانها إسكات 100 أكاديمي بإقالة واحد فقط."
وتعرضت الاتصالات الأكاديمية الدولية لضغوط أيضا. فعلى سبيل المثال منع إبراهيم كابو أوغلو وهو أستاذ في القانون الدستوري من السفر إلى باريس حيث كان من المقرر أن يقوم بالتدريس كمحاضر زائر في جامعة السوربون. وقال لصحيفة حريت اليومية إنه قد يضطر الآن لعقد المحاضرات عبر برنامج سكايب.
وألغيت دورة 2017/2016 من برنامج جان مونيه للمنح الدراسية الذي يموله الاتحاد الأوروبي والذي سمح لمئات من الطلاب الأتراك بالدراسة في أوروبا.
وعبَرت شركات بالفعل عن قلقها على منظومة التعليم التركية بوجه عام مشددة على ضرورة وجود نظام متفتح يشجع النقاش ويدعم الابتكار.
وقال تونكاي أوزيلهان رئيس مجموعة الأناضول الاقتصادية في خطاب في الآونة الأخيرة "مستقبل بلدنا يعتمد على جودة تعليم شبابنا.. وحدها المجتمعات الحرة التي تعيش تحت حكم القانون يمكن أن تكون تقدمية وخلاقة وقادرة على تنظيم المشاريع في مجالات العلم والفن والاقتصاد."
ولا يزال إردوغان متفوقا على كل خصومه السياسيين المحتملين وتحظى حملته -على الأقل في مراحلها الأولى- بدعم واسع في بلد شهد هجمات من متشددين إسلاميين ومسلحين أكراد بالإضافة إلى محاولة الانقلاب. لكن الشكوك تتنامى مع اتساع نطاق حملة التطهير لتشمل أكاديميين يساريين وعلمانيين وصحفيين بل وموسيقيين ورياضيين.
واتسمت الحياة الأكاديمية في تركيا بالاضطراب خلال العقود الماضية فيما وجد المثقفون أنفسهم في خضم صراعات سياسية شهدت أربعة انقلابات عسكرية وتوترات بين الجيش العلماني والإسلاميين ومعارك بين اليساريين والقوميين.
لكن بعد بدء محادثات الانضمام للاتحاد الأوروبي في 2004 فتح تمويل جديد المجال لمختبرات أبحاث عصرية ومجهزة بشكل جيد وهو ما يشجع الطلاب الذين كانوا في السابق يختارون السفر إلى الولايات المتحدة وأوروبا للدراسة على البقاء في تركيا، ويقول بعض الأكاديميين إن التقدم الآن في خطر، وقال عالم الفيزياء الفلكية علي ألبار رئيس الأكاديمية العلمية وهي منظمة مستقلة غير حكومية "الظروف الراهنة.. تجعل من الصعب للغاية على الباحثين الأتراك الشبان الموهوبين أن يعودوا أو يواصلوا دراساتهم هنا."
وقالت جيلينك إنها على علم بأن محاضراتها في المتنزه قد تثير غضب السلطات لكن تقول إن هذه مخاطرة هي مستعدة لقبولها من أجل مواصلة التدريس، وقالت "بالطبع فإن أولئك الذين يعتبرون وجودنا في الجامعة تهديدا سينظرون ِإلى هذا على أنه خطر. لكننا على دراية بأن النضال من أجل الديمقراطية والسلام والحريات له ثمن."
اضف تعليق