لايزال الاقتصاد المصري يعيش فترة من الارهاصات والتجاذبات بين الحين والاخر، ولاتزال معظم متغيراته تشهد من موجة من عدم الاستقرار، اذ لاتزال معالم الاستقرار غير واضحة بسبب التقلبات والاثار الانعكاسية لبرنامج الاصلاح الحكومي، فعلى سبيل المثال قفز التضخم الأساسي في مصر إلى أعلى مستوياته في أكثر من عشر سنوات مسجلا 30.86 بالمئة مع تأثر الاقتصاد بتداعيات تعويم العملة وإجراءات التقشف وسط إصلاحات مؤلمة، وارتفعت الأسعار ارتفاعا حادا منذ تخلت مصر عن ربط عملتها بالدولار الأمريكي، وفقد الجنيه نحو نصف قيمته وارتفع تضخم أسعار المستهلكين بالمدن لأكثر من مثليه حيث بلغ بحسب أرقام 28.1 بالمئة على أساس سنوي، وفي حين قد تضغط قفزة التضخم على البنك المركزي لرفع أسعار الفائدة عندما يجتمع فإن الاستطلاعات بعد صدور أرقام التضخم في المدن أظهر أن تسعة اقتصاديين من 13 اقتصاديا شاركوا في المسح يتوقعون أن يبقي البنك على سعر فائدة الإيداع لليلة واحدة عند 14.75 بالمئة وسعر إقراض ليلة عند 15.75 بالمئة.
وتعويم العملة الذي ساعد مصر لتحصل على قرض قيمته 12 مليار دولار لمدة ثلاث سنوات من صندوق النقد الدولي جزء من برنامج إصلاح اقتصادي حكومي أوسع نطاقا يشمل رفع أسعار الوقود وتقليص الدعم، ومن المتوقع أن يرتفع التضخم مجددا هذا العام مع اتخاذ المزيد من إجراءات التقشف، وتتوقع كابيتال إيكونوميكس أن يرفع البنك المركزي أسعار الفائدة، حيث بينت في مذكرة انه نتوقع الآن زيادة 100 نقطة أساس في سعر الإيداع، وتنطوي إجراءات التقشف المزمعة على مخاطر سياسية هائلة للرئيس عبد الفتاح السيسي، وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فقد قادت الارتفاعات الحادة في أسعار الأغذية والمشروبات معظم تضخم أسعار المستهلكين بالمدن حيث زادت تلك المواد بنسبة 37.2 بالمئة.
ارتفاع قيمة الجنيه المصري تجاه الدولار وركود في النشاط التجاري
واصل الجنيه موجة الصعود أمام الدولار في بنوك مصر لتصل مكاسبه إلى نحو 13 بالمئة منذ وسط حالة ركود في النشاط التجاري وهرولة الأفراد لبيع ما بحوزتهم من دولارات للبنوك تحسبا لمزيد من الهبوط فيه، وساهم في دعم الجنيه تنامي التدفقات النقدية بالعملة الصعبة على مصر حيث بلغت حصيلتها نحو 25 مليار دولار منذ قيام البنك المركزي بتحرير سعر الصرف، وكان الجنيه قد هوى بشكل حاد بعد تحرير سعر الصرف ليصل إلى نحو 19 جنيها قبل أن يبدأ في استعادة بعض عافيته ليسجل في معاملات نحو 16.50 جنيه للدولار في بعض البنوك.
وعزا أحمد كوجك نائب وزير المالية للسياسات المالية الارتفاع في سعر الجنيه مقابل الدولار إلى ارتفاع الاحتياطي النقدي الأجنبي وزيادة الصادرات وتراجع الواردات وارتفاع تحويلات المصريين في الخارج ووجود تدفقات نقدية حقيقية في القطاع المصرفي، وأضاف كوجك ان الربع الأخير (من 2016) هو أول ربع نرى فيه ارتفاعا (في تحويلات المصريين في الخارج) من ستة أرباع سابقة، حيث ان وارداتنا من السلع المعمرة انخفضت ما بين 30 و 40 بالمئة الفترة الماضية ومدخلات الانتاج تراجعت ما بين اثنين وثلاثة بالمئة مقارنة مع 15 بالمئة قبل ذلك.
وأظهر مسح نشرت نتائجه تراجع نشاط الشركات في مصر ي في ظل معدل التضخم المرتفع ليهبط معدل التوظيف لأدنى مستوى، وزادت الصادرات المصرية 8.65 بالمئة في 2016 إلى 20.285 مليار دولار وانخفضت الواردات 10.56 بالمئة إلى 62.925 مليار دولار وتراجع عجز الميزان التجاري إلى 42.640 مليار دولار.
وأرجع حسين رفاعي عضو مجلس الإدارة التنفيذي بالبنك الأهلي المصري أكبر بنك حكومي بالبلاد ارتفاع الجنيه إلى تراجع الطلب على الدولار من المستوردين وزيادة الاحتياطي النقدي من الدولار وزيادة الحصيلة الدولارية بالبنوك نتيجة بيع الأفراد للعملة الصعبة وتحسن المؤشرات الاقتصادية، وارتفع احتياطي مصر من النقد الأجنبي إلى 26.363 بعد إن كان 24.265 مليار دولار، وزادت تحويلات المصريين في الخارج 11.8 بالمئة في الربع الأخير من 2016 إلى 4.6 مليار دولار من 4.1 مليار دولار في الفترة المقابلة من 2015 وفقا للبيانات التي أصدرها البنك المركزي.
وقد ازدحمت البنوك في مصر بالمواطنين الراغبين في بيع العملة الأجنبية بعد أيام من تصريحات رامي أبو النجا وكيل محافظ البنك المركزي المساعد بعد الحديث عن الزيادة الكبيرة في التدفقات النقدية من الدولار في البنوك وعن زيادة تحويلات المصريين في الخارج وشراء الأجانب بقوة في أذون الخزانة، وتشهد مصر قفزات هائلة في أسعار السلع الأساسية وغير الأساسية منذ تعويم الجنيه وهو ما ظهر جليا في وصول معدل التضخم الأساسي لنحو 31 بالمئة مسجلا أعلى مستوى منذ مطلع 2005.
زيادة الطلب على المنتجات المحلية مع هبوط الجنيه
تضاعفت مبيعات صانع الشوكولاتة المصري سويفاكس وأصبحت الشركة تكافح لمواكبة الطلب منذ هبوط الجنية وهو ما دفع المتسوقين "المهوسين بكل ما هو أجنبي" إلى تجاهل المنتجات المستوردة باهظة الثمن وشراء السلع المحلية الصنع، اذ أضر تعويم الجنيه وما تلاه من زيادة الرسوم الجمركية على أكثر من 300 سلعة مستوردة من الخارج ضررا بالغا بالمستوردين لكنه أدى من ناحية أخرى إلى ازدهار أعمال مصنعين محليين مثل سويفاكس.
وعانت المنتجات المصنعة في مصر من التجاهل لصالح الأسماء الأجنبية التي يُعتقد أنها أعلى جودة لكنها أصبحت الان في غير متناول المستهلكين بدرجة أكبر بعد أن قفز التضخم فوق 28 بالمئة، وبدأ ازدهار المنتجات المصرية منذ فك ربط الجنيه بالدولار عند 8.8 جنيه حيث فقدت العملة المصرية نحو نصف قيمتها ليجري تداولها عند حوالي 17.75 جنيه للدولار.
وساعد تعويم الجنيه مصر على إبرام اتفاق قرض بقيمة 12 مليار دولار مع صندوق النقد الدولي مقابل تنفيذ برنامج إصلاح يتضمن زيادة الضرائب وخفض الدعم على الكهرباء مما أدى إلى صعود التضخم في بلد يعاني فيه الملايين على حد الكفاف، ورفعت مصر الرسوم الجمركية على كثير من السلع الفاخرة إلى ما يزيد على 50 بالمئة وضيقت الخناق على التهرب الجمركي ووضعت ضوابط أشد صرامة لمواصفات الجودة في محاولة لكبح عجز تجاري يقول البنك المركزي إنه يضغط على الجنيه.
وانتقد المستوردون تلك الزيادة قائلين إن المنتجين المحليين يفتقرون إلى الطاقة الكافية لسد الفجوة الناجمة عن هبوط مبيعات المنتجات المستوردة، وفي ظل اعتماد مصر منذ وقت طويل على الواردات فإن الاتجاه الحالي يظهر أن جهود الحكومة لتضييق العجز التجاري الكبير ودعم الصناعات المحلية بدأت تؤتي ثمارها، وحتى قبل التعويم كانت الواردات قد انخفضت نظرا لنقص العملة الصعبة، وتكافح مصر لجذب الدولارات وانعاش الاقتصاد، ولم تعلن بعد أرقام التجارة الرسمية لعام 2016 لكن مسؤولا حكوميا بين إن العجز انخفض 17.4 بالمئة مقارنة مع 2015، وأضاف أن الواردات هبطت إلى 62.93 مليار دولار من 70.28 مليار دولار لكن زيادة الصادرات ساهمت أيضا في تضييق العجز حيث ارتفعت الصادرات إلى 20.26 مليار دولار في 2016 من 18.67 مليار دولار في 2015.
وكان وزير التجارة والصناعة المصري طارق قابيل صرح إن مصر أنتجت سلعا بديلة للواردات بنحو أربعة مليارات دولار منذ بداية 2016 وتهدف إلى نمو الصناعة المحلية نحو ثمانية بالمئة خلال ثلاث سنوات، وأضاف أن الصناعات الغذائية تقود المسيرة لكن المنتجات المحلية عوضت أيضا تراجع الواردات من مواد البناء والكيماويات والجلود والأثاث، لكن هبوط قيمة الجنيه يظل سلاحا ذو حدين بالنسبة للمنتجين المحليين الذين يعتمدون يشكل كبير على الخامات المستوردة.
ومع سعي مصر لزيادة النمو الاقتصادي في إطار برنامج صندوق النقد إلى 5.5 بالمئة بحلول السنة المالية 2018-2019 من 4.3 بالمئة في 2015-2016 فإن الحكومة لا تتحمل تأخر عدد كبير من الشركات مثل سويفاكس، وفي محاولة للاستفادة من هذا الاتجاه تكتب مجموعة تسمى "صنع بفخر في مصر" على موقع فيسبوك عن منتجات محلية شتى تم اختبارها وتجربتها من الأغذية إلى المنظفات وحتى الأواني.
كل شيء يدور حول سعر الصرف
يرى البعض ان التحسن الحاصل في قيمة العملة المحلية تجاه الدولار كنتيجة لانخفاض الطلب على السلع الاجنبية، ماأدى الى تقليل حجم الاستيرادات، انعكس بصورة ايجابية على مستوى التضخم، فضلا عن تحديد سعر الدولار الكمركي مؤقتا بـ 16 جنيه سيساهم اكثر في تخفيض حجم التضخم، وأوضح آخرون ان التجار ورجال الاعمال والاسواق من مصلحتهم انخفاض الاسعار للهروب من الركود، ومن المتوقع ان يصل سعر صرف الدولار الى 11 جنيه، وهذا مايعني انخفاض مستوى التضخم اكثر، ومن تعجيل ذلك لابد من زيادة حجم الصادرات المحلية، وهذا ما قد يصعب الامر كون ان حجم الصادرات المحلية خلال هذا العام وصلت الى 19 مليون دولار فقط وهو أمر غير مشجع في ظل ماتمتلكه مصر من طاقات وقدرات عالية، الا ان اخرون وضحو ان في ظل ارتفاع قيمة الجنيه قد ينحسر حجم الصادرات اكثر لانها ستكون اقل تنافسية بسبب ارتفاع اسعار في الخارج، وبالتالي ينصحون في المحافظة على سعر صرف معتدل للجنيه.
اضف تعليق