في ظل موجة من التخبطات في ادارة الدولة المصرية، برزت على السطح وبقوة مسألة الجنيه المصري، حيث ان هذه العملة ورغم انها لفترات حافظت على معدل من الاستقرار النسبي، نجد حالها كحال الشعب المصري الذي يصحو في كل يوم على قرار جديد، وأخرها هو قرار تعويم العملة، اي ترك قيمتها لظروف العرض والطلب، وهو ماأثار مخاوف الكثيرين، خاصة وان مصر وان كانت تحظى بقوة تصديرية لابأس بها، الا استيراداتها من السلع الاساسية يتجاوز الـ70%، وهذا ماقد يسبب هزة عنيفة للاقتصاد المصري، والاكثر من هذا ان قرار التعويم لم يأتي كنتيجة لخطة اقتصادية داخلية، بل جاء كضغط وشرط من صندوق النقد الدولي من أجل الموافقة على إقراض مصر لتحقيق الاصلاح الاقتصادي، والعودة للجنيه المصري، فقد انخفضت قيمة الجنيه المصري بنسبة 57% فور إعلان البنك المركزي عن تحرير سعر صرفه في مسعى للقضاء على السوق السوداء المنتعشة في البلاد، التي كانت قيمة سعر صرف الدولار أمام الجنيه فيها أكثر من ضعفها في السوق الرسمية.
وأعلن البنك المركزي المصري تحرير سعر صرف الجنيه للقضاء على السوق السوداء التي انتعشت في البلاد منذ أشهر نتيجة الضغوط على الدولار، ما أدى على الفور إلى تراجع قيمته بنسبة 57%، وبسبب النقص الحاد في العملات الأجنبية الناجم عن الاضطرابات الأمنية والسياسية منذ الإطاحة بالرئيس الأسبق حسني مبارك في 2011، ارتفع سعر الدولار في السوق السوداء إلى 18 جنيها مطلع الأسبوع الجاري، في حين كان سعره الرسمي 8،88 جنيها.
وكان يتم تداول الدولار في عدة مصارف عقب إعلان قرار البنك المركزي بـ13 جنيها للشراء وبين 13,5 و14,3 جنيها للبيع.
وتعتمد مصر على الاستيراد لتلبية نسبة كبيرة من حاجاتها الأساسية، بدءا بالقمح مرورا بمستلزمات الإنتاج، وانتهاء بعلف الدواجن، وأدى نقص العملات الأجنبية إلى تداعيات متتالية، إذ تباطأ استيراد المواد الخام ومستلزمات الإنتاج ما انعكس سلبا على قطاعات الصناعة والتجارة والتصدير، كما ارتفع معدل التضخم السنوي باضطراد في حزيران/يونيو الماضي إلى 12،37%، وفق البيانات الرسمية.
وأوضح البنك المركزي في بيان إنه قرر اتخاذ عدة إجراءات لتصحيح سياسة تداول النقد الأجنبي، من خلال تحرر أسعار الصرف لإعطاء مرونة للبنوك العاملة في مصر لتسعر شراء وبيع النقد الأجنبي، بهدف استعادة تداوله داخل القنوات الشرعية وإنهاء تماما السوق الموازية للنقد الأجنبي، وقد صاحب ذلك أعلان رفع سعر الفائدة على الودائع بالجنيه المصري بواقع 300 نقطة أساس لتصل إلى 14,75 %" وإلى "15,75 % بالنسبة للإقراض وهو قرار يهدف إلى تشجيع الأفراد على عدم الاحتفاظ بالدولار وتحفيزهم على الادخار بالعملة الوطنية.
وكان رد فعل البورصة إيجابيا على قرار تحرير سعر صرف العملية الوطنية إذ قفز مؤشرها الرئيسي لدى افتتاح الجلسة الأولى الخميس بنسبة تزيد عن 8%، حيث ووصف محافظ البنك المركزي طارق عامر قرار تحرير صرف الجنيه "بالتاريخي" في مؤتمر صحافي في مقر البنك في القاهرة.
مؤكداً انه لا يمكن أن نسمح بوجود سوقين للنقد الأجنبي في مصر، وأضاف انه كان من الضروري اتخاذ قرار بإعادة هيكلة سعر الصرف، مشيرا إلى أن الأمر كان ضروريا لإحداث إصلاح جذري في الاقتصاد المصري، مشيراً إلى أن البنوك ستسعر العملة كما يحلو لها، واعتبر هشام ابراهيم أستاذ التمويل والاستثمار في كلية التجارة بجامعة القاهرة أن القرار صدر في الوقت المناسب"، مشيرا إلى أن "الوضع كان سيسوء أكثر لو تأخر القرار، وتابع أن تعويم الجنيه "سيكون له أثر إيجابي للغاية عبر تشجيع الاستثمار، وبين انه ليس من المنطقي أن يأتي مستثمر لبلد بها سعران للصرف الفارق بينهما 100% تقريبا.
صندق النقد يرحب بقرار التعويم للجنيه المصري
ان قرار التعويم جاء كنتيجة لاتفاق مبدئي مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض قيمته 12 مليار دولار على ثلاث سنوات، للمساعدة في تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي ومالي يتضمن تحرير سعر صرف العملة المحلية، وكانت كريستين لاغارد مديرة صندوق النقد الدولي دعت مصر أخيرا إلى خفض قيمة العملة الوطنية بسرعة لتضييق الفارق بين السعر الرسمي وسعر السوق الموازية للعملات الأجنبية، اذ رحب صندوق النقد الدولي بقرار البنك المركزي.
حيث صرح كريس جارفيس رئيس وفد الصندوق إلى مصر في بيان نرحب بما قرره البنك المركزي المصري من تحرير نظام الصرف الأجنبي واعتماد نظام مرن لسعر الصرف، وأضاف في ظل النظام الجديد، سيكون الناس على استعداد لبيع العملة الأجنبية وشرائها أيضا، وبذلك يوفر العملة في السوق. وسيؤدي نظام سعر الصرف المرن الذي يتحدد فيه سعر الصرف تبعا لقوى السوق، إلى تحسين تنافسية مصر الخارجية، ودعم الصادرات والسياحة، وجذب الاستثمار الأجنبي. وكل ذلك سيساعد على تعزيز النمو، وخلق فرص العمل، وتقوية مركز مصر الخارجي.
ويستهدف برنامج الإصلاح الاقتصادي خفض عجز الموازنة العامة للدولة الذي يقترب من 13% من إجمالي الناتج الداخلي. كما يشمل إصلاح منظومة دعم الطاقة وزيادة إيرادات الدولة من خلال فرض ضريبة للقيمة المضافة وطرح شركات مملوكة للدولة للبيع في البورصة.
وقد ذكرت الحكومة إن الفجوة التمويلية خلال السنوات الثلاث المقبلة تبلغ 21 مليار دولار، وإنه إضافة إلى قرض الصندوق فإنها ستغطيها بإصدار سندات دولية بالدولار، ومن خلال قروض أخرى.
وصرح جيري رايس المتحدث باسم الصندوق للصحافيين في واشنطن أن حصول مصر على قروض من السعودية والصين سيساعدها في جمع بين خمسة وستة مليارات دولار من التمويل المطلوب لتضاف إلى القرض من صندوق النقد الدولي.
وضع اقتصادي قلق
في الوقت ذاته بلغت احتياطات مصر من النقد الأجنبي 19،6 مليار دولار في أيلول/سبتمبر الفائت، ما يشكل ارتفاعا مقارنة بالأعوام السابقة، لكنه بالكاد يلامس نصف احتياطي مصر مطلع العام 2011، وأوضح البنك المركزي أنه قرر كذلك السماح للبنوك بفتح فروعها حتى الساعة 21,00 وأيام العطلة الأسبوعية بغرض تنفيذ عمليات شراء وبيع العملة وصرف حوالات المصريين العاملين في الخارج، كما أكد أنه لا توجد أية قيود على إيداع وسحب العملات الأجنبية للأفراد والشركات، وأضاف أن منظومة أسعار الصرف الجديدة تعد جزءا من حزمة الإصلاحات التى تدعم غرض البنك المركزي الأصلي المتمثل فى استهداف التضخم واستقرار الأسعار على المدى المتوسط .
ويعاني السكان في مصر من أوضاع اقتصادية صعبة مع موجة ارتفاع كبيرة في أسعار الخدمات والمنتجات نتيجة انخفاض سعر صرف الجنيه أمام الدولار بشكل حاد مؤخرا، إلا أن محافظ البنك المركزي ذكر إن الحكومة تتعهد بأنها تستمر في دعم السلع الغذائية في الموازنة العامة للدولة، لابد من حماية محدودي الدخل من ارتفاع الأسعار .
ومن أجل تهدئة الوضع صرح رئيس الوزراء المصري شريف إسماعيل البرلمان أن الحكومة تعمل بالتعاون مع البنك المركزي لإنهاء الفرق بين سعر الصرف الرسمي للجنيه المصري وأسعار السوق السوداء، وأضاف إسماعيل إن التحرك السابق لحل أزمة سعر الصرف مشيرا إلى خفض قيمة العملة المحلية 14 بالمئة في مارس آذار كان بدون توافر الأدوات المناسبة وكانت نتيجته سلبية.
وطمأن المسؤولون الحكوميون المصريين مرارا بأن الدولة والجيش سيتدخلان لضمان توافر السلع الأساسية واحتواء الأسعار، لكن النهج المركزي المتزايد في التعامل مع مشاكل الاقتصاد يثير التساؤلات عن ما إذا كانت الحكومة تملك الإرادة السياسية للمضي قدما في إصلاحات مؤلمة.
وأفاد كثير من التجار إن أزمة الدولار عامل رئيسي في النقص المتكرر للأرز والزيت والسكر. لكن الحكومة تلقي باللوم على الاكتناز وشنت حملات على المخازن والمصانع وتحفظت على مخزونات. بعض الشركات توقفت عن تجارة السلع التي شملتها الأزمة مما قد يؤدي إلى تفاقم المشكلة.
وتدرس الحكومة أيضا تحديد هامش الربح للشركات في سلع معينة لمنع التربح في خطوة يقول بعض رجال الأعمال إنها تدخل خطير في السوق.
البنك المركزي المصري ومحاولة الخروج من عنق الزجاجة
وعلى صعيد اخر يذكر إن البنك المركزي المصري سيطرح أربعة مليارات دولار في عطاء استثنائي لبيع العملة الصعبة، وذلك جاء متزامناً مع قفزة للسندات الدولارية لمصر عبر شتى آجال الاستحقاق مع ارتفاع بعض الإصدارات نحو سنتين بعدما تقرر تحرير سعر الصرف.
اذ أظهرت بيانات تريدويب أن السندات المصرية الحكومية لأجل عشر سنوات التي جرى إصدارها العام الماضي ارتفعت 2.2 سنت للدولار بينما ارتفعت السندات استحقاق 2020 و2040 بواقع 0.7 سنت وسنتين على الترتيب.
وتقلص متوسط علاوة عائد السندات المصرية 29 نقطة أساس فوق أدوات الخزانة الأمريكية بمؤشر إي.ام.بي.آى جلوبال للسندات إلى 479 نقطة أساس وهو أضيق نطاق في نحو شهر.
اذ اوضح رئيس بنك مصر والبنك الأهلي إن البنكين سيطرحان شهادات إيداع جديدة بفائدة 16 و20 بالمئة لآجال ثلاث سنوات و18 شهرا على الترتيب، وان البنك الاهلي سيطرح شهادات بفائدة 16 بالمئة لأجل ثلاث سنوات وشهادات بفائدة 20 بالمئة لأجل 18 شهرا، وإنه سيلغي قائمة أولويات الاستيراد ويقلص تدريجيا التمويل النقدي لعجز الميزانية على مدى الأشهر المقبلة.
وتابع أن تحریر أسعار الصرف يستهدف إعطاء مرونة للبنوك العاملة في مصر لتسعیر شراء وبیع النقد الأجنبي بهدف استعادة تداوله داخل القنوات الشرعیة وإنهاء السوق الموازیة للنقد الأجنبي تماما.
ومع وصول عجز الموازنة إلى 12 بالمئة في 2015-2016 وتفاقم التشوهات في أسواق العملة، اتفقت مصر مع صندوق النقد الدولي في أغسطس آب على الحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار على ثلاث سنوات لدعم برنامج إصلاح اقتصادي.
وفي إطار هذه الإصلاحات كان من المتوقع على نطاق واسع أن تخفض مصر سعر الجنيه وتتبني آلية أكثر مرونة لسعر الصرف وهي خطوة يقول اقتصاديون أنها ستؤدي إلى اجتذاب استثمارات أجنبية بمليارات الدولارات.
حيث جاء في بيان المركزي ان حزمة الإصلاحات النقدیة والمالیة المتكاملة تمكن الاقتصاد المصري من مواجهة التحدیات القائمة وإطلاق قدراته وتحقیق معدلات النمو والتشغیل المنشودة بما یتناسب مع إمكانیات وموارد مصر البشریة والطبیعیة والمادیة.
وبدوره شدد المركزي في بيانه على أنه لن تفرض شروط للتنازل عن العملات الأجنبیة وأنه یضمن أموال المودعین بالجهاز المصرفى بكافة العملات وأنه لا توجد أیة قیود على إیداع وسحب العملات الأجنبیة للأفراد والشركات.
وتأتي قرارات البنك المركزي في سیاق البرنامج الأوسع للإصلاح المالي والهیكلي الذي أعلنته الحكومة المصریة وجاري تنفیذه بإحكام لتخفیض عجز الموازنة والدین العام من خلال إستكمال إصلاح منظومة الدعم وترشید الإنفاق الحكومي وخفض الواردات خاصة الاستیراد العشوائي وزیادة الصادرات وتشجیع الإستثمار المحلي والأجنبي وبرنامج الطروحات في البورصة المصریة.
يذكر ان تجار للسلع الاولية وعلى الرغم من انخفاض أسعار الصرف لم يعد أي منهم بعد إلى شراء الدولارات منذ ارتفعت الأسعار فوق ما يعتبرون أنها القيمة الحقيقية للجنيه، وذكر المتعاملون ان هناك من يعرض بيع دولارات بسعر 17 جنيها مقابل الدولار ولم يتقدم أحد للشراء بينما عرض آخرون دولارات بسعر 16.75 جنيه، ويعزي البعض منهم تراجع الجنيه مقابل الدولار بشكل يومي تقريبا في السوق الموازية منذ أوقفت السعودية إمداد مصر بمساعدات نفطية الشهر الماضي وهو ما اضطر القاهرة لانفاق 500 مليون دولار على شراء منتجات نفطية في السوق الفورية. وسجل الجنيه أدنى مستوياته على الإطلاق في السوق الموازية.
شركات مصر وطريق مسدود
تكاد الشركات أن تتوقف عن العمل في مصر وسط مصاعب تواجهها لمجاراة التراجع السريع لقيمة الجنيه في السوق السوداء إذ توقف المصانع الإنتاج وتعاني المتاجر من تدني مستوى المخزوات بينما يتفشى شعور عام بالقلق، لكن الشركات تقول إن تراجعا حادا في الأسابيع القليلة الماضية يصيبها بالشلل حيث أصبحت عاجزة عن التخطيط من يوم لآخر.
وتشكو الشركات منذ عامين تقريبا بينما تدفع أزمة الدولار الشركات الصغيرة خارج السوق بالفعل، لكن الأزمة دخلت مرحلة جديدة الأسبوع الماضي بصدور تحذيرات من اثنتين من كبرى الشركات الصناعية المصرية المدرجة.
فقد حذرت شركة صناعة السجائر الشرقية للدخان من تراجع مخزوناتها من المواد الخام إلى النصف وقالت إنها قد توقف الإنتاج والبيع إذا استمر نقص الدولار، وصرحت جهينة للصناعات الغذائية إنها سترجئ المشاريع الجديدة وتسعى لتدبير المواد الخام محليا.
وفي إطار جهود لتقليص العجز التجاري الذي تلقي باللوم عليه في تشوهات سوق العملة زادت الحكومة الرسوم الجمركية على المنتجات الفاخرة وشددت قواعد الاستيراد.
من جهة اخرى أفاد وزير التجارة والصناعة طارق قابيل إن الإنتاج المحلي زاد 20 بالمئة هذا العام لإحلال الواردات، الا ان المصنعين يقولون إنهم يعتمدون على مكونات مستودرة يشترونها بالدولارات التي يحصلون عليها بأسعار السوق السوداء.
مما تقدم قد يبدو ان الوضع الذي تعيشه مصر مشابه لما يعيشه العراق، وعلى الرغم من ان اقتصاد مصر لايقارن بأقتصاد العراق، الا ان الظروف تبدو تتشابه، خاصة وان ماحصل جاء نتيجة بعد التوتر الحاصل بين السعودية ومصر، وهذا التصعيد السياسي والذي يقابله تصعيد اقتصادي وتحدي صعب من قبل صندوق النقد، تظهر عليه لفائف المؤامرة واضحة وجليه للعيان، وهي إسقاط مصر من جديد مالم تمتثل لقرارات الخليج، وهو أمر يبدو انه غير وارد في الايام المقبلة، فرضوخ مصر لن يستمر سياسياً، على الرغم من أن القيد الاقتصادي قد يضعفها ويجعلها تخسر الكثير.
اضف تعليق