أطلقت الإدارة الأميركية حملة تستهدف منع منصّات التداول بالعملات المشفّرة من استعمال الدولار كوسيلة للتبادل. الحملة كانت ذات وجهين: الأول مبرّر بالقول إن غالبية المنصّات غير مؤهّلة لحماية أموال المستثمرين، ما أنهى مباشرة علاقة المنصّات بالمصارف الأميركية، والثاني عبر هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية (SEC) التي منعت إصدار ثالث أكبر عملة مستقرّة «BUSD»...
أطلقت الإدارة الأميركية حملة تستهدف منع منصّات التداول بالعملات المشفّرة من استعمال الدولار كوسيلة للتبادل. الحملة كانت ذات وجهين: الأول مبرّر بالقول إن غالبية المنصّات غير مؤهّلة لحماية أموال المستثمرين، ما أنهى مباشرة علاقة المنصّات بالمصارف الأميركية، والثاني عبر هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية (SEC) التي منعت إصدار ثالث أكبر عملة مستقرّة «BUSD»، والتي تستخدمها «باينانس»، أكبر منصة تداول عملات مشفرة في العالم.
في السابق، كان بإمكان أي فرد حول العالم يملك ألف دولار، أو حتى بضع مئات، أن ينخرط في عمليات تداول بالعملات المشفّرة. كل ما عليه القيام به هو فتح حساب لدى منصة تداول مثل «باينانس» وتحويل المال إليه من حسابه المصرفي ليباشر عمليات البيع والشراء. «باينانس» ستأخذ منه المبلغ وتمنحه في المقابل وحدات تتيح له شراء عملات مشفّرة، «بتكوين»، مثلاً، بما يوازي قيمتها السوقية.
كل هذه العمليات تسجّل في محفظة أو حساب رقمي خاص به لدى المنصّة. ثم، بعد عدة أيام، إذا ارتأى المتداول أن سعر «بتكوين» بات يحقق له عائداً إضافياً على المبلغ المستثمر، سيقوم باستخدام الميزات المتاحة له على المنصّة لتحويلها إلى وحدات بقيمة ثابتة لا يتغير سعرها (هي عملات مشفّرة ثابتة القيمة وكل منها تساوي دائماً دولاراً واحداً)، كي يحتفظ بالربح الذي جناه. وعندما يقرّر تسييل هذه الوحدات سيضع أوامر التحويل على المنصّة (من عملة مشفّرة ثابتة إلى دولار) فيحوّل إلى حسابه المصرفي من المنصّة مبلغاً من المال يوازي قيمة الوحدات المسجّلة بقيمة ثابتة.
وبكل عملية يتكرّر الأمر بالاتجاهين، علماً بأن العملة المستخدمة في عملية ضخّ السيولة أو تسييل المحفظة، هي الدولار. هكذا بات بإمكان المتداولين عند جني الأرباح أو هرباً من الخسارة، تحويل قيمة استثماراتهم في العملات المشفّرة إلى عملات مشفّرة ثابتة القيمة (تسمى عملات مستقرّة) للتداول فيها مجدداً أو لتسييلها لاحقاً.
وأشهر ثلاث عملات مستقرة هي:
- «USDT» هي أكبر عملة مستقرة لجهة حجم التداول (70 مليار دولار)، وهي مبنية على شبكة بلوكتشاين الخاصة بعملة «إيثيريوم»، وتملكها شركة «Tether Limited» التي لم تكشف أبداً عن هيكل ملكيتها وتفاصيل إدارة أصولها، إلا أنه أخيراً صدر مقال في صحيفة «وال ستريت» يشير إلى أنها كانت مملوكة من شخصين هما جيانكارلو ديفاسيني (إيطالي)، وبروك بيرس (أميركي)، وأن الأخير ترك الشركة ليصبح ديفاسيني المدير المالي لها، وحالياً هذه الشركة مملوكة بنسبة 86% من 4 أشخاص.
- «USDC»، وهي ثاني عملة مستقرّة لجهة حجم التداول (42 مليار دولار)، وهي أيضاً مبنية على شبكة «إيثيريوم»، ومملوكة من شركة أميركية تدعى «سركل» التي تلقّت أكثر من 135 مليون دولار من رأس المال الاستثماري بين 2013 و2016، بما في ذلك 50 مليون دولار من «غولدمان ساكس».
- «BUSD»، وهي عملة مستقرّة خاصة بمنصة «باينانس»، وتصنف الثالثة لجهة حجم التداول (11 مليار دولار)، وهي أيضاً مبنية على شبكة «إيثيريوم». لكن في عام 2019، أطلقت «باينانس» بلوكتشاين خاصة بها تدعى «باينانس تشاين»، وباتت عملة «BUSD» موجودة على الشبكتين. وهذا يعني سهولة أكبر لحاملي «BUSD» بأن يشتروا عملات مشفرة من الشبكتين عبر العملة المستقرّة ذاتها.
اليوم، وبعد صدور الإجراءات الأميركية الأخيرة، فإن عملية التسييل لم تعد ممكنة بالدولار الأميركي. أي لا يمكن تحويل دولارات من الحسابات المصرفية إلى «باينانس»، ولا إخراج عملة الدولار منها. السبب يعود إلى الحملة التي شنتها الولايات المتحدة على المصارف الأميركية لمنع تسهيل عمليات التحويل المتعلقة بمنصّات تداول العملات المشفّرة. ففي كانون الثاني الماضي، تبلغت منصة «باينانس» من بنك «Signature» أنه لن يحوّل المعاملات التي تقلّ قيمتها عن 100 ألف دولار. وفي السادس من شباط الجاري، أعلنت «باينانس» فك ارتباطها مع «Signature»، وأنه لم يعد البنك الأميركي الشريك لها، أي أنه اعتباراً من الثامن من الشهر الحالي، لم يعد بإمكان المتداولين على منصّة «باينانس» حول العالم، استخدام الدولار لتمويل حسابهم في «باينانس»، أو إجراء عمليات سحب للدولارات. وبدلاً من ذلك، قالت المنصّة إن بإمكانهم استخدام 27 عملة أخرى، من بينها اليورو.
في الوقت نفسه، اتخذت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية (SEC)، إجراءات مباشرة ضدّ مزودي العملات المستقرّة المقوّمة بالدولار لتصنيفهم بين مؤهل للتعامل بالدولار وغير مؤهل، ولا سيما الذين ترى أن لديهم ممارسات غامضة، أو مزودي خدمات الـ«Staking» (يثبت المتداول عملاته المشفّرة في المنصّة مقابل فائدة) مثل منصة «كراكن»، أو المصارف التي تخدم شركات التشفير مثل «Custodia» وغيره. وآخر فصول هذه الإجراءات، قيام الهيئة بمقاضاة شركة «Paxos» التي تنتج عملة «BUSD» المستقرّة التي تستعملها «باينانس». وتدّعي الهيئة أن «BUSD» هي «ورقة مالية غير مسجلة» (unregistered security)، وهو الأمر الذي نفته «Paxos»، مشيرة إلى إن العملة التي تنتجها ليست «ورقة مالية» كي تسجّل. لكن، بمعزل عن ذلك، قرّرت «Paxos» التوقف عن إصدار العملة المستقرة اعتباراً من 21 الحالي بتوجيه من دائرة الخدمات المالية في نيويورك (NYDFS). وعلى إثر ذلك، أوقف عملاق المدفوعات عبر الإنترنت «باي بال»، العمل على إصدار عملته المشفّرة بالتعاون مع «Paxos».
خلفية التقييد على العملات المشفرة بدأت في الـ 27 من شهر كانون الثاني الماضي، بعدما نشر موقع البيت الأبيض دعوة من أجل تنظيم صناعة الكريبتو بعنوان «خريطة طريق الإدارة للتخفيف من مخاطر العملات المشفرة». الدعوة ذكرت العملات المشفرة المستقرة في موضعين؛ الأول عندما أشارت إلى انهيار عملة «terraUSD» العام الماضي، وثانياً عندما ضمّنت الدعوى تقريراً صادراً عن «مجلس مراقبة الاستقرار المالي» (FSOC) في تشرين الأول من العام الماضي، حول مخاطر الاستقرار المالي للأصول الرقمية والتنظيم، والذي استخدم مصطلح «العملة المستقرة» أكثر من 170 مرة في 124 صفحة.
يقول إيلان سولوت، الرئيس المشارك للأصول الرقمية في «Marex Solutions» لـ«فايننشال تايمز»: هناك علامات على أن المنظّمين الأميركيين يوجّهون انتباههم إلى الروابط بين عالم التشفير والنظام المالي التقليدي. إذ رفض بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الشهر الماضي طلباً من مصرف «Custodia»، الانضمام إلى نظام الدفع الخاص بالفيدرالي، لأن أنشطته المشفّرة «من المرجح جداً أن تكون غير متوافقة مع الممارسات المصرفية الآمنة والسليمة» بحسب الفيدرالي. أيضاً، «سيلفرغايت»، وهو بنك آخر يركز على العملات المشفّرة، يواجه تدقيقاً من المشرّعين الأميركيين لدوره في تقديم الخدمات إلى «FTX». كذلك وصف سولوت حملة الولايات المتحدة على العملات المشفّرة بأنها «أكثر عدوانية بكثير مما رأيناه من قبل». وأضاف «يبدو أن هيئة الأوراق المالية والبورصات تعتقد أن أفعالها تصب في مصلحة المستهلكين على المدى الطويل، وهم على استعداد لتحمل عواقب قصيرة أو متوسطة الأجل لابتعاد رأس المال عن الولايات المتحدة (خوفاً من الإجراءات)».
إن ما حصل وسيحصل ليس صدفة، وليس استفاقة لحماية أموال المتداولين بعد المحطات السيئة التي مرّت على العملات المشفّرة، من شتاء الكريبتو إلى سقوط منصات تداول كبيرة تبخّرت فيها عشرات مليارات الدولارات. ولفهم ما يجري، لا بد من الإشارة إلى أن العملات المشفّرة التي تعتمد على بلوكتشاين لامركزية بحقّ مثل بتكوين، لا يمكن تتبع من يمتلكها ولا ضبطها ولا قوننتها ولا تركيزها في يد حكومة ما أو دولة معينة أو حتى شركة. هنا يبرز السعي للهيمنة. فبما أن الدولار هو المهيمن في العالم، وغالبية التداولات تتم عبره، فإذا خنقت هذه العنق، أي السيطرة بشكل كبير على الدولارات التي تدخل وتخرج من عالم الكريبتو، بالتالي سيكون لدى أميركا قدرة جزئية للسيطرة على سوق العملات المشفّرة نفسه. ويبدو أن الحكومة الأميركية تعتزم إدخال عملتها الرقمية للبنك المركزي (CBDC) إلى جنب «USDC» و«USDT» بحسب مقال تحليلي نُشر في موقع «كوين دسك»، وربما مع الوقت، تصبح العملة الوحيدة لإدخال الأموال الحقيقية أو تسييلها في عالم الكريبتو.
كيف تأثرت «باينانس»؟
حدثت موجة بيع كبيرة لعملة «BUSD» حول العالم وتم استبدالها بعملات مشفّرة مستقرّة أخرى مثل «USDT» و«USDC». يوم الاثنين في 13 من الشهر الحالي، هرب 722 مليون دولار من منصّة «باينانس»، وفي اليوم التالي، غادرها 146 مليون دولار، وانخفضت قيمة عملة «BNB» المشفّرة التي تنتجها «باينانس»، من 322 دولاراً، إلى 288 دولاراً خلال يومٍ واحد، إلا أنها عادت ولملمت خسائرها تقريباً. كما انخفضت القيمة السوقية لـ«BUSD» من 16 مليار دولار إلى 11 مليار دولار. كذلك، قال الخبراء لشبكة «CNBC» إن هذه الخطوة سيكون لها آثار كبيرة على سوق العملات المشفرة المستقرة التي تبلغ قيمتها 137 مليار دولار. وفي الـ 14 من الشهر الحالي، قال الرئيس التنفيذي لشركة «باينانس»، تشانغبينغ تشاو، المعروف بـ«CZ»، إن صناعة العملات المشفرة ستبدأ في استخدام العملات المستقرّة «على أساس اليورو أو الين أو الدولار السنغافوري».
ماذا يعني ذلك لـ«بتكوين»
من المفيد التذكير دائماً بأن «بلوكتشاين» الخاصة بعملة «بتكوين» ولدت عام 2008، أي من رحم الأزمة المالية العالمية. الهدف، على الأرجح، منح الناس بديلاً من عملات الفيات (Fiat) التي تطبعها الحكومات وتخسر من قيمتها بشكل مستمر، وأن يكون هناك عملة تسمح بحفظ القيمة من دون أن تتحكم بها حكومة أو مصرف مركزي. إذ إن تصميم شبكة «بتكوين» اللامركزي يجعلها منيعة أمام أي هجوم، حتى لو جيّرت مليارات الدولارات وجيش إلكتروني ضدّها فإن أقصى ما يمكن فعله هو إبطاؤها فقط. هكذا يمكن تفسير ارتفاع سعر «بتكوين» بالتوازي مع هجوم القوننة الذي بدأته واشنطن على العملات المستقرّة.
تصنيف «الورقة المالية»
بشكل عام، يمكن اعتبار أيّ عملة (معدنية، ورقية، رقمية، مشفرة) ورقة مالية إذا كانت تفي بمعايير «عقد الاستثمار» بموجب قوانين الأوراق المالية المعمول بها في كل دولة. في الولايات المتحدة، هناك اختبار يدعى (Howey) رباعي الجوانب يتم استخدامه في تحديد ما إذا كان «عقد الاستثمار» موجوداً. وهذه الجوانب هي: (1) استثمار نقدي، (2) في مشروع مشترك، (3) مع توقع الربح و(4) تكون مستمدة من جهود الآخرين. وإذا كانت العملة تفي بهذه المعايير، يمكن اعتبارها ورقة مالية، وقد يُطلب من مُصدر العملة تسجيلها لدى السلطات التنظيمية ذات الصلة، والامتثال لقوانين الأوراق المالية.
اضف تعليق