الدخل الأساسي الشامل ليس مفهوماً جديداً، لكنه في السنوات الأخيرة اتخذ هيئة جديدة والآن تزعم أصوات على كل من اليسار واليمين أن الدخل الأساسي الشامل ربما يكون المفتاح لمعالجة مشاكل اجتماعية وبنيوية كبرى، بما في ذلك البطالة التكنولوجية والبطالة الجزئية، والفقر المدقع، وشِراك الرفاهة الاجتماعية...
أن فكرة "الدخل الأساسي الشامل"، والتي تنطوي على منح الحكومة لأموال شهرية إلى العاطلين عن العمل لمساعدتهم على المعيشة، كانت الفكرة الرئيسية لكتاب "المدينة الفاضلة" والصادر عام 1516 عن مؤلفه السير توماس مور كما أن هذه التجربة في طريقها لأن تكون توجها شائعا على مستوى العالم، أموال مقابل لا شيء؟ وفقاً لبعض المواقع، حققت إحدى أولى التجارب الرئيسية التي تمت حول العالم للدخل الأساسي الشامل نتائج إيجابية، إذ تلقت ولقرابة العامين مجموعة مكونة من ألفي عاطل تم اختيارهم بشكل عشوائي أموال شهرية بلغت 560 يورو لكل واحد منهم، وذلك على أمل أن يتمكن المشاركون في التجربة من إيجاد عمل لهم.
ولم تزيد التجربة من احتمالية انضمام المتلقين للأموال لسوق العمل، ولكن قلت الشكاوى المقدمة منهم والخاصة بالشعور بالتوتر، وانطبق هذا الأمر أيضا على المشاركين بالتجربة والذين كانوا يجدون صعوبات حتى بعد تسلم تلك الأموال كما أن المتلقين لتلك الأموال الشهرية أصبحوا أكثر ثقة بالآخرين وفي المؤسسات العامة مع المحاكم والسياسيين والشرطة، وتبحث كل من الهند وإسكتلندا ومؤخرا الولايات المتحدة مقترحات بتطبيق تلك السياسة ومن المتوقع أن يكون لذلك البرنامج تأثيرات كبيرة في الولايات المتحدة، حيث يقوم الطلاب ببيع حصصهم في رواتبهم المستقبلية إلى وول ستريت.
هل الدخل الأساسي الشامل فكرة جيدة؟
من المرجح جداً أن تتسبب برامج الدخل الأساسي الشامل UBIيو بي آي بإحداث تغيير كبيرفي عدة بلدان لمجرى النقاش الدائر بشأن UBI سواء كان يو بي آي هو الهدف المنشود أم لا، علينا أن نعثر على حل للمشاكل التي لا بد من وقوعها عندما تحل الأتمتة والذكاء الاصطناعي محل العمال من البشر في السنوات القادمة.
فيما يرى أنصار يو بي آي أنه نظام مفيد للمجتمع على عدة مستويات، قام السير كريستوفر بيساريدس -الحائز على جائزة نوبل- بتقديم حجته في المنتدى الاقتصادي العالمي: "نحن بحاجة لتطوير نظام جديد لإعادة توزيع الثروة، وسياسات جديدة من شأنها أن تعيد توزيع الثروة بشكل حتمي من أولئك الذين تكافئهم السوق على حساب الفئات المنسية من الناس" والآن، يشكل الحصول على حد أدنى من الدخل الشامل أحد تلك الطرق، في الواقع.
يقف رئيس شركة واي كومبنيتر، سام آلتمان، أيضاً موقفاً مناصراً من فكرة يو بي آي، وتخطط شركته لإطلاق مشروع تجريبي في أوكلاند.يشرح آلتمان بقوله: "تصوّرُنا عن الدخل الأساسي هو أنه يشكل أرضية، ونحن نعتقد أنه ينبغي على الناس أن يتمكنوا من العمل ويكسبوا الأموال قدر ما يشاؤون، نحن نأمل أن تحقيق حد أدنى من الأمن الاقتصادي سوف يمنح الناس الحرية لمواصلة التعليم أو التدريب، وإيجاد أو خلق فرص عمل أفضل، والتخطيط للمستقبل".
ويقول تشارلز واي بلاش، أستاذ الاقتصاد في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية في جنيفا: "إن دفعت المال للناس كي لا يقوموا بأي شيء، فإنهم لن يفعلوا شيئاً" وذلك في حديث له مع صحيفة ذا جارديان، بعد أن رفض الناخبون في وقت سابق مشروعاً لتطبيق يو بي آي في البلاد حيث حذر لوزي ستام، أحد أعضاء البرلمان السويسري، من أن تطبيق نظام من يو بي آي قد يدمر ملامح الهجرة إلى البلاد: "إن كنت ستقدم لكل فرد مقداراً من المال السويسري، فسيكون لديك المليارات من الناس الذين يحاولون الانتقال إلى سويسرا".
الترياق البسيط والشامل لمعالجة الفقر
في الآونة الأخيرة، عادت الفكرة القديمة المتمثلة في إعادة صياغة دولة الرفاهة من خلال تقديم دخل أساسي شامل غير مشروط تستحوذ على مخيلة الناس عبر مختلف ألوان الطيف السياسي فعلى اليسار، يُنظر إلى هذه الفكرة باعتبارها ترياقا بسيطا وربما يكون شاملا لمعالجة الفقر وعلى اليمين، تعتبر الفكرة وسيلة لهدم بيروقراطية الرعاية الاجتماعية المعقدة مع الاعتراف في الوقت نفسه بالحاجة إلى بعض التزامات التحويل الاجتماعي على النحو الذي لا يضعف الحوافز بشكل كبير.
وهي توفر أيضاً بعض الطمأنينة في مواجهة المستقبل المخيف عندما تحل الروبوتات محل العمال في العديد من القطاعات ولكن هل تنجح هذه الفكرة حقا؟ حتى الآن، جرى تناول هذه المسألة في الدول المتقدمة في المقام الأول ولا تبدو الأرقام واعدة ورغم أن بعض الدول مثل كندا وفلنلندا وهولندا تدرس الآن فكرة الدخل الأساسي، فإن بعض خبراء الاقتصاد البارزين في الدول المتقدمة يحذرون من أنها فكرة غير قابلة للتطبيق على الإطلاق.
وفي الولايات المتحدة على سبيل المثال، يكفي توزيع 10 آلاف دولار سنويا على كل بالغ وهذا أقل من عتبة الفقر الرسمية للفرد لاستنفاد كل عائدات الضرائب الفيدرالية تقريبا، في ظل النظام الحالي ولعل هذا النوع من الحسابات هو الذي دفع الناخبين السويسريين إلى رفض الفكرة بأغلبية ساحقة في استفتاء في وقت سابق.
ولكن ماذا عن الدول المنخفضة أو المتوسطة الدخل؟ الواقع أن الدخل الأساسي هناك قد يكون قابلا للتطبيق تماما من الناحية المالية ناهيك عن كونه مرغوبا من الناحية الاجتماعية في الأماكن حيث عتبة الفقر منخفضة وحيث شبكات الأمان الاجتماعي القائمة بالية وإدارتها باهظة التكلفة.
الدخل الاساسي الشامل الحجة الجذابة
الدخل الأساسي الشامل ليس مفهوماً جديداً، لكنه في السنوات الأخيرة اتخذ هيئة جديدة والآن تزعم أصوات على كل من اليسار واليمين أن الدخل الأساسي الشامل ربما يكون المفتاح لمعالجة مشاكل اجتماعية وبنيوية كبرى، بما في ذلك البطالة التكنولوجية والبطالة الجزئية، والفقر المدقع، وشِراك الرفاهة الاجتماعية، ومثبطات العمل المستترة فمن خلال تحرير الناس من أغلال الوظائف المتدنية الجودة والبيروقراطية التي لا نهاية لها، يعمل الدخل الأساسي الشامل وفقاً لهذا المنطق على تمكين الناس من تحقيق كامل إمكاناتهم.
إنها حجة جذابة بكل تأكيد، وخاصة في وقت يتسم بركود الأجور المطول، والفقر الدائم، واتساع فجوة التفاوت، وانخفاض النمو الاقتصادي ولكن حتى الآن كانت النسخ الوحيدة المختبرة من الدخل الأساسي الشامل في أماكن مثل كندا، وفنلندا، وكينيا، وهولندا مجرد أنماط جديدة من استحقاقات البطالة والرفاهة الاجتماعية في الأساس وتتناقض هذه التجارب مع المنطق الأساسي للدخل الأساسي الشامل.
من المؤكد أن النهج التراكمي في التعامل مع الدخل الأساسي الشامل من الممكن أن يدفع إلى الأمام عملية إصلاح الرفاهة الاجتماعية وبشكل خاص، من خلال الحد من، أو إنهاء، الحاجة إلى اختبار الموارد المالية وغير ذلك من أشكال المشروطية، من الممكن أن تعمل هذه الخطط المزعومة القائمة على الدخل الأساسي الشامل على تخفيف الأعباء البيروقراطية وما يرتبط بها من تكاليف إدارية، مع تقديم خط دخل جديد للفقراء في ذات الوقت.
في عام 1990، بلغت الأصول المالية العالمية 50% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، أو نحو 150 تريليون دولار؛ وفي عام 2015، تجاوز الرقم 400% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، أو 500 تريليون دولار، وفي ظل الرأسمالية ذات الطابع المالي، تعمل تدفقات الدخل المنتظمة على تسهيل دمج الأسواق والشمول المالي وهي تخدم كضمان في عالم حيث أصبح الدين، المكتسب من خلال أنواع عديدة من القروض وخطوط ائتمان المستهلك، يستخدم على نحو متزايد لسداد ليس فقط تكلفة السلع المعمرة، بل وأيضا الخدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم، والتي كانت في السابق تشكل القسم الأعظم من المخصصات العامة.
عندما تستخدم السياسة الاجتماعية في المقام الأول لخدمة الديون وتأمين قروض جديدة، فإنها تكف عن العمل كآلية لإلغاء التحول السلعي، كما كان المفترض منها في الأصل وبدلاً من ذلك، تتحول إلى ناقل لدخل الأسر المتزايد ومصدر للأرباح المالية للنظام المصرفي وصناعة التأمين، باتباع هذا النمط، من خلال توفير تدفق ثابت من الدخل وبالتالي شكل جدير بالثقة من الضمانات تدفعه الدولة، يكتسب الدخل الأساسي الشامل المزيد من القوة بل ويخلق أسواقاً مالية، وخاصة للائتمان الاستهلاكي، وقروض الرهن العقاري، ومعاشات التقاعد وبعيداً عن العمل كمسار ثوري إلى التحرر من سوط السوق، ربما تنتهي الحال بالدخل الأساسي الشامل إلى شد كل المواطنين إلى نير رأس المال الريعي من خلال المديونية.
لا يجب أن تكون هذه الحال بالضرورة فلا بد من تلبية بعض الشروط لمنع الدخل الأساسي الشامل من الخضوع لعقلية يهيمن عليها التمويل، هذا يعني، أولاً وقبل كل شيء، أن الدخل الأساسي الشامل لا يجب أن يؤسس له كمكمل لتدابير الرفاهة الاجتماعية، بل كوسيلة لمنع تحويل القدرة على الوصول إلى الاحتياجات الأساسية، بما في ذلك الغذاء، والملبس، والنقل، إلى سلعة الواقع أن التجارب الحالية تعرض قدراً ضئيلاً من المال وتوفير القدر الكافي منه هو الطريقة الوحيدة لتقليل احتمال استخدام الدخل الأساسي الشامل بشكل أساسي غالب كضمان.
ماذا لو وفرت بعض الدول دخلاً أساسياً لمواطنيها؟
تُجرى تجارب في بعض البلدان حول العالم لمعرفة ما قد يحدث إذا وفرت الحكومة للمواطنين دخلا شهرياً ثابتاً كحد أدنى للمعيشة ويرى البعض أن بإمكان هذه السياسة أن تغير نظرتنا للعمل تماماً وتُعد التجربة الفنلندية من كبرى التجارب التي تبحث في مآلات توفير دخل شهري لكل مواطن، فيما يعرف بسياسة "الدخل الأساسي الشامل"، منحت الحكومة الفلندية في إطارها كحد ادنى من الدخل الشهري لألفي شخص وسيتلقى كل فرد من المشاركين ممن يتلقون إعانات اجتماعية، والذين اختيروا عشوائيا، 560 يورو شهريا، ولن ينقطع هذا الدخل حتى لو حصل المشاركون على وظيفة.
تقول مرجوكا تورونين، التي تعمل بشركة التأمين الاجتماعي "كيلا" التي تجري التجربة في فنلندا: "نأمل أن يُسهم الدخل الأساسي في تحقيق الأمان المالي لهؤلاء الناس، ويتيح لهم الفرصة للتخطيط لحياتهم مقدما" وهذا المقترح، رغم بساطته، من شأنه أن يُحدث تغييرا جذريا وفي حين لا يرحب البعض بفكرة أن توزع الحكومات الأموال على الناس على نحو عشوائي، يخشى آخرون من أن يؤدي تطبيق نظام الدخل الأساسي إلى امتناع الناس عن تأدية الأعمال الضرورية التي لا يٌقبل عليها الكثيرون.
ومع ذلك، تلقى هذه السياسة تأييدا حول العالم ونظرا لما خلفته الأزمة المالية العالمية سنة 2008 من تداعيات اقتصادية، يرى الكثيرون الآن أن نظام الدخل الأساسي الشامل هو الطريقة المثلى لإصلاح أنظمة الرعاية الاجتماعية التي تعاني من عثرات مالية، والتعامل مع التحديات الاقتصادية الجسيمة التي تواجهها أغلب دول العالم، وقد اقتُرحت سياسة الدخل الأساسي في عهد الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، الذي طبقها على سبيل التجربة في أواخر الستينيات من القرن الماضي وكان نيكسون يرى أنها طريقة فعالة لإصلاح نظام الرعاية الاجتماعية آنذاك ثم توقفت محاولات تطبيق تلك السياسة على نطاق أوسع بعد أن أثارت ردود فعل غاضبة لدى التيار اليميني.
عاودت فكرة الدخل الشهري الانتشار مرة أخرى اليوم لأنها تعد في نظر الكثيرين وسيلة لحماية الناس من التقلبات الاقتصادية العالمية المستمرة، مثل الأزمة المالية العالمية في عام 2008، كما أن سياسة الدخل الأساسي قد تساعد الناس في إعادة تقييم الأعمال التي يقومون بها في ظل التغيرات التي تطرأ على سوق العمل، وسط مخاوف بأن تحل الآلة، مثل أجهزة الروبوت والذكاء الاصطناعي، محل البشر في أماكن العمل.
اضف تعليق