تمثل السياحة مدخل مهم من المداخل التي تعتمد عليها المنطلقات الحديثة في التنمية المستدامة، سيما السياحة الخضراء، التي تُعنى وتهتم في توجيه السياحة نحو المواقع السياحية المميزة بيئياً، خاصة المنشأت السياحية، وكذلك معالجة المخاطر المتعلقة بالبيئة والصحة والسلامة، وبالاعتماد على البصمة الايكولوجية التي تقام عليها المشاريع السياحية.
كما تحث السياحة الخضراء على استخدام الطاقة البديلة (المتجددة)، كالطاقة الشمسية والرياح وغيرها، خاصة في الدول النامية التي أصبحت فيها خياراً حتمياً من أجل الحد من تغير المناخ وانعكاساته على الوضع البيئي لهذه الدول، وهو ما دفع الأمم المتحدة الى ضمين (برتكول كيوتو) في 2005، والتي تشدد على ضرورة الالتزام بالحدود المسموحة من انبعاث الغازات التي تنتجها الدول الصناعية. وتتثمل الغازات بـ (ثاني أوكسيد الكاربون، الميثان، أكسيد النتيروز، المركبات الكربونية الفلورية الهيدروجينية، المركبات الكربونية الفلورية المشبعة وسادس فلوريد الكبريت). وبالتالي ستمثل نقلة ايجابية في تدعيم قطاع الزراعة والطاقة وكذلك في مجال النفايات.
ولا يتوقف الأمر على ذلك بل وتساعد السياحة الخضراء او المستدامة في إقامة المدن الخضراء، والتي تعد من ذوات التخطيط الحضري والعمراني العالي، وتمثل مواقع جذب سياحية من جهة، ومن جهة أخرى تعد ذات بُنى تحتية متقدمة، وتساهم ايضاً السياحة في ادامة واستدامة التراث العمراني القديم وتعزيز الثقافات الشعبية التي تصب في مصلحة البيئة كالنشاطات الفلكورية والاعمال اليدوية التي لا تعتمد على المصادر الملوثة للبيئة، وتعزيز الامكانات والقدرات المحلية والبشرية، لا سيما تلك العاملة في المؤسسات السياحية.
ولا شك في أن البعد الثقافي الذي تستند اليه السياحة الخضراء من شأنه أن يؤدي دوراً مهماً في تنمية العلاقة بين الثقافات، وبالتالي يساعد في جذب السائح الذي يبحث عن المنتج الثقافي الذي لا غنى عنه اليوم، اذ إن العلاقة بين الثقافة والسياحة سوف تؤدي الى الحفاظ على التراث الشعبي والاجتماعي للمجتمع، وبالتالي فأن التنمية المستدامة لا تمر الا عن طريق السياحة الخضراء، وهذا ما دعا اليه اعلان (اليونسكو) في إطار العقد العالمي للتنمية الثقافية الذي أكد على أن الثروة الثقافية يجب أن تكون أداة إنمائية فاعلة، تسهم في تنفيذ ستراتيجيات سياحية، يكون الجانب الثقافي أحد ركائزها.
تجربة أندونيسيا في السياحة الخضراء
عمدت حكومة اندونيسيا عام 1995، وبالتعاون مع منظمات وهيئات مكافحة التلوث في البلاد، وبعد استفحال مخاطر التلوث الصناعي الناتج عن نمو قطاع الصناعة بمعدل (10%) سنوياً، الى اعتماد مقياس تصنيف مبسط، يصنف الشركات والمؤسسات الصناعية في مجموعات وفقاً لالتزام كل منها بالمعايير والقوانين البيئية، ويرمز الى كل منها بلون محدد، بحيث يستطيع أي مواطن عادي تحديد مدى التزام كل شركة أو مؤسسة بذلك، ويكون تصنيف المؤسسات كالأتي:
- الذهبي: يدل على أداء عالي المستوى، وعلى الالتزام بأعلى مستويات الانضباط.
- الأخضر: يدل على وجود درجة التزام تفوق الحد المخصص او المطلوب.
- الأزرق: يدل على الالتزام بالمعايير والقوانين المحلية.
- الأحمر: يدل على وجود درجة ما من ضبط التلوث، لكن دون حد الالتزام بالمطلوب.
الاسود: يدل على عدم الالتزام بالمعايير والقوانين، والتسبب في أضرار فادحة.
وقد اشتمل جدول التصنيف للمشروع عند اطلاقه في 1995 على (178) مؤسسة، حازت خمس منها فقط على التصنيف باللون الاخضر، ولم تستطع اي مؤسسة من الحصول على التصنيف باللون الذهبي. ولم يتم نشر تصنيف المؤسسات المخالفة عند اطلاق المشروع، بل اُعطيت مهلة ستة أشهر لتحسين ادائها، وبعد انتهاء المدة ظهر تحسن واضح في اداء المؤسسات التي كانت قد حازت على التصنفين الاسود والاحمر، بحيث تحول تصنيف (33) منها الى الازرق.
وقد شجع نجاح هذا المشروع في اندونيسيا دولاً أخرى كاليابان كي تحذو حذو اندونيسيا، الأمر الذي أدى بأصحاب المؤسسات السياحية الى التحول نحو أساليب أكثر ملائمة للصالح البيئي العام تؤمن في الوقت نفسه مداخيل جيدة للسكان المحليين من خلال عدة برامج ومشاريع بيئية، تقوم بها الدول لزيادة المساحات الخضراء وخلق بيئية صحية من هذه المشاريع. كما دفع هذا الى تبني ستراتيجيات جديدة مثل ما يعرف بالسياحة البيئية والسياحة الثقافية المبنية على ذاتيات الشعوب وكذلك ستراتيجيات النقل الاخضر، وأمتدت لتشمل اقامة مراكز البحث العلمي الاخضر والقيام بالاستثمارات الخضراء وغيرها.
الابتكار الاخضر السياحي
حدد خبراء السياحة من المنظمات الدولية ووكالات الأمم المتحدة والقطاع السياحي العام والخاص كيف يمكن للابتكار الأخضر في مجال السياحة أن يدفع التنمية المستدامة عن طريق خفض التكاليف وزيادة الإيرادات وخلق فرص العمل وتحسين كفاءة استخدام الموارد، "لا يمكن أن يكون هناك نمو اقتصادي في السياحة دون استدامة، دون الحفاظ على الموارد الطبيعية ودون حوافز للمواطنة. وأظهرت التجارب أن زيادة التركيز على الاستدامة - ولا سيما الابتكار الأخضر - يمكن أن يؤدي إلى المزيد من فرص العمل والحد من الآثار البيئية، وخفض التكاليف، وزيادة المزايا التنافسية للشركات والوجهات مع تعزيز تجربة الزائرين.
وعلى الرغم من التقدم الملحوظ، لا تزال هناك عقبات تعترض سبيل الابتكار، بما في ذلك نقص الوعي لدى السياح - والكثيرون غير راغبين في دفع ثمن ممتاز لتجربة عطلة مستدامة؛ والثغرات في المعلومات التجارية المتعلقة بتكاليف الاستثمار المتصورة؛ ومحدودية فرص حصول المشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم على التمويل أو عدم تكامل السياسات في القطاعات الرئيسية، مثل السياحة والنقل والطاقة والبيئة، ويذكر آلان دوبيراس رئيس وحدة السياحة بمركز منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي لريادة الأعمال والشركات الصغيرة والمتوسطة والتنمية المحلية إن اتباع نهج أكثر استراتيجية لتعزيز الابتكار الأخضر في مجال السياحة سيتطلب تنسيقا أفقيا ورأسيا أكبر للسياسات، على سبيل المثال، لتحسين فرص الحصول على التمويل التي تدعم جهود الابتكار الأخضر للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة .
ومع ذلك، فإن جوهر الابتكار هو تحديد الفرص والحلول الأقل تكلفة، وفصل نمو السياحة من استخدام الموارد والآثار البيئية واستخدام الموارد بشكل أكثر كفاءة. ويرى عرب الله، رئيس فرع الاستهلاك والإنتاج المستدامين في برنامج الأمم المتحدة للبيئة، إن الابتكار الأخضر في مجال السياحة يمكن أن يحسن نماذج الأعمال القائمة، مما يؤدي إلى نتائج إيجابية للشركات والزبائن والسلطات العامة والمجتمعات المحلية من خلال خلق فرص العمل وتحسين ظروف المعيشة فضلا عن النظم الإيكولوجية للسكن، ومن جهته يرى مارسيو فافيلا، المدير التنفيذي للقدرة التنافسية والعلاقات الخارجية والشراكات بمنظمة السياحة العالمية تعتبر الابتكارات التي شهدناها اليوم أمثلة ملموسة لكيفية أن تصبح السياحة أكثر استفادة، مع الاستثمار المناسب، أكثر ربحية وكثيفة العمالة وصديقة للبيئة. ومن المهم أكثر من أي وقت مضى أن ندعم الابتكار الأخضر كمحفز لنمو السياحة المستدام.
اضف تعليق