يعد الاقتصاد المصري حالة عجيبة ومثيرة للغاية، فهو الأكثر تغيراً وحركة في المنطقة العربية، ولايكاد يمر يوم على المصريين من دون مفاجأة على صعيد المستوى العام للاسعار او على مستوى اسعار الفائدة، بما في ذلك التوترات الامنية التي تلقي بظلالها مباشرة على حركة هذا الاقتصاد، والتي كان اخرها الخرق الامني في واحد من اهم المقاصل السياحية في مصر، الا وهي الغردقة، الا ان عدد من مستثمري السياحة المصريين والعاملين في القطاع ذكروا إن حركة السياحة مستقرة في البلاد رغم الحادث الذي قُتلت فيه سائحتان ألمانيتان طعنا وأصيبت أربع أخريات، وتعد الغردقة من أبرز المنتجعات المصرية وتقع على البحر الأحمر على مسافة 400 كيلومتر تقريبا جنوبي القاهرة، وكانت مصر تأمل أن تؤدي استثمارات في تعزيز أمن المطارات وانخفاض قيمة العملة المحلية إلى جذب السائحين لزيارة شواطئها ومناطقها الأثرية لتعود السياحة لمعدلات ما قبل انتفاضة 2011، اذ يجاهد قطاع السياحة المصري الذي يعد ركيزة أساسية للاقتصاد ومصدرا رئيسيا للعملة الصعبة للتعافي عقب انتفاضة 2011 التي تسببت القلاقل التي أعقبتها في نزوح السياح، وما أن بدأ القطاع في التقاط أنفاسه حتى تلقى ضربة أخرى في أكتوبر تشرين الأول 2015 مع سقوط طائرة ركاب روسية تحمل 224 شخصا فوق سيناء جراء ما يُعتقد أنه تفجير بقنبلة، ودفع الهجوم روسيا وبريطانيا لتعليق رحلاتهما إلى المنطقة.
ووفقا للمجلس العالمي للسفر والسياحة أسهم قطاع السياحة بنسبة 3.2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لمصر و2.9 بالمئة من قوة العمل في 2016. لكن إجمالي مساهمة القطاع بما في ذلك التأثيرات غير المباشرة على الاقتصاد ترتفع إلى 7.2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وقد كانت وزارة السياحة المصرية أعلنت أن عدد السائحين الوافدين إلى البلاد في الأشهر الثلاثة الأولى من 2017 قفز 51 بالمئة مقارنة مع مستواه قبل عام مما يشير إلى انتعاش القطاع من الانكماش الحاد الذي لحق به منذ 2011.
التضخم السنوي يعاود مساره الصاعد
أظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن معدل التضخم السنوي في مدن مصر عاود مساره الصاعد في يونيو حزيران لكن بوتيرة أبطأ وارتفع إلى 29.8 بالمئة بعد أن كان تراجع لأول مرة منذ ستة أشهر في مايو أيار إلى 29.7 بالمئة، الا ان وتيرة تضخم أسعار المستهلكين في المدن تراجعت على أساس شهري إلى 0.8 بالمئة في يونيو حزيران من 1.7 بالمئة في مايو أيار، وهو نفس مستوى أبريل نيسان الذي شهد تراجعا من اثنين بالمئة في مارس آذار، في الوقت ذاته ورفع البنك المركزي أسعار الفائدة الأساسية 200 نقطة أساس ليصل إجمالي رفع أسعار الفائدة إلى 700 نقطة أساس في أقل من تسعة أشهر وألف نقطة أساس في نحو عام ونصف العام، وعزا البنك المركزي قرار رفع الفائدة إلى محاولة السيطرة على التضخم السنوي والوصول به إلى مستوى في حدود 13 بالمئة في الربع الأخير من 2018.
كما قلصت مصر دعم أسعار الوقود أواخر الشهر الماضي ثم أعلنت عن زيادات جديدة في أسعار الكهرباء في خطوات من المتوقع أن تدفع معدلات التضخم لمزيد من الصعود خلال شهر بيانات يوليو تموز التي سيعلن عنها في أغسطس آب وهو ما يترقبه المحللون، وكان التضخم بدأ موجة صعود حادة عندما تخلت مصر في الثالث من نوفمبر تشرين الثاني الماضي عن ربط سعر صرف الجنيه بالدولار الأمريكي ورفعت حينها أسعار الفائدة 300 نقطة أساس بجانب زيادة أسعار المحروقات، وقفز معدل التضخم في المدن إلى 31.5 بالمئة في أبريل نيسان مقارنة مع نحو 19.4 بالمئة في نوفمبر تشرين الثاني و13.6 بالمئة في أكتوبر تشرين الأول، وأفاد المركزي المصري إن معدل التضخم السنوي الأساسي ارتفع إلى 31.95 بالمئة في يونيو حزيران من 30.57 بالمئة في مايو أيار، لايتضمن التضخم الأساسي سلعا مثل الفاكهة والخضراوات بسبب التقلبات الحادة في أسعارها.
من جهتها تسعى حكومة شريف إسماعيل لتنفيذ سلسلة إصلاحات اقتصادية منذ نهاية 2015 وحتى الآن سعيا لإنعاش الاقتصاد وإعادته إلى مسار النمو وشملت الإصلاحات زيادة أسعار الطاقة والدواء وتحرير سعر الصرف وإقرار قوانين جديدة للاستثمار وتعديلات على قانون ضريبة الدخل وإقرار قانون ضريبة القيمة المضافة والموافقة مبدئيا على قانون للإفلاس، حيث يشكو مصريون من بين ملايين يعيشون تحت خط الفقر من إنهم قد لا يجدون قوت يومهم بعد زيادة أسعار الوقود للمرة الثانية خلال ثمانية شهور في يونيو حزيران وأسعار الدواء للمرة الثانية في مايو أيار وأسعار تذاكر قطارات مترو الأنفاق الذي يستخدمه ملايين المصريين في مارس آذار.
نت جهة أخرى صرح محمد معيط نائب وزير المالية لشؤون الخزانة المصري إن وزارته لم تأخذ في الاعتبار زيادة أسعار الفائدة 400 نقطة أساس في اخر اجتماعين للبنك المركزي، وتوقع معيط تراجع معدلات التضخم في مصر في مطلع العام المقبل وبالتالي انخفاض أسعار الفائدة، ورفع البنك المركزي الفائدة الأساسية على الإيداع والإقراض بواقع 200 نقطة أساس لتخفيف الضغوط التضخمية وذلك في ثاني اجتماع على التوالي بعد أن رفعها في 21 مايو أيار 200 نقطة أساس، اذ إن موازنة 2017-2018 تتضمن مصروفات فوائد دين بقيمة 381 مليار جنيه، الموازنة لم تضع في اعتبارها زيادة أسعار الفائدة سواء في المرة السابقة أو الحالية، ووارد أن تحدث تغييرات أثناء السنة المالية.
ضربة موجعة لقطاع الأعمال بعد رفع صادم جديد للفائدة
لم يكد القطاع الخاص ورجال الأعمال في مصر يفيقون من صدمة رفع أسعار الفائدة 200 نقطة أساس في مايو أيار حتى وجه لهم البنك المركزي لطمة جديدة بزيادة تكاليف الاقتراض 200 نقطة أساس أخرى، ووصف البنك المركزي قراره "بالمؤقت" وأنه يستهدف السيطرة على التضخم السنوي والوصول به إلى مستوى في حدود 13 بالمئة في الربع الأخير من 2018.
ويبدو أن عددا من رجال الأعمال بدأو يفقدون الثقة في نجاعة الإجراءات الاقتصادية لحكومة شريف إسماعيل التي لطالما أشادوا بها من قبل، حيث رفع البنك المركزي أسعار الفائدة الأساسية 700 نقطة أساس في أقل من تسعة أشهر ونحو ألف نقطة أساس في نحو عام ونصف العام، وكثيرا ما يخالف البنك المركزي تحت رئاسة محافظه الحالي طارق عامر توقعات المحللين ورجال الأعمال في قرارات أسعار الفائدة، وعلى العكس من العديد من المصنعين ورجال الأعمال يرى هاني جنينة الخبير الاقتصادي أن "قرار رفع الفائدة جاء في وقته تماما، وأضاف أنه هناك ثلاث مراحل للإصلاح النقدي والمالي هي :
- المرحلة الأول الخاصة بمعالجة التشوه في سعر الصرف من خلال طريقة الصدمة بتحرير سعر الصرف في نوفمبر (تشرين الثاني).
- المرحلة الثانية خاصة بإعادة تراكم الاحتياطي النقدي والتي تستغرق من عام إلى عام ونصف العام.
- المرحلة الثالثة والتي نستهدف فيها تراجع التضخم إلى 13 بالمئة خلال الربع الأخير من 2018 وحينها سنبدأ في دعم النمو الاقتصادي من جديد.
وزاد احتياطي مصر من النقد الأجنبي إلى 31.305 مليار دولار في نهاية يونيو حزيران من 31.125 مليار في مايو أيار ومن 16.423 مليار دولار في نوفمبر تشرين الثاني 2015 حينما تولى عامر رئاسة البنك المركزي، في ظل ذلك طرح عدد من البنوك المحلية أوعية ادخارية بفائدة تصل إلى 20 بالمئة في نوفمبر تشرين الثاني بعد قرار تحرير سعر الصرف ورفع أسعار الفائدة 300 نقطة أساس.
ويرى محمد بدراوي عضو اللجنة الاقتصادية بمجلس النواب إن المركزي رفع أسعار الفائدة ست مرات خلال نحو عام ونصف العام وكان يبرر القرار كل مرة باستهداف التضخم لكنه لم يحقق هدفه في أي من المرات السابقةـ وان رفع الفائدة يؤدي لزيادة تكلفة الانتاج وارتفاع أسعار السلع وبالتالي لا يحقق الهدف المرجو في تخفيض التضخم، والاقتصاد المصري ليس في حالة ركود إذ نما 4.3 بالمئة في الربع الثالث من السنة المالية الحالية 2016-2017 بعد نمو 3.8 بالمئة و3.4 بالمئة في الربعين الثاني والأول على الترتيب، لكن الاقتصاد يعاني من تداعيات عزوف السياح والمستثمرين عقب انتفاضة 2011 التي أطاحت بحكم حسني مبارك، الا ان استثمارات الأجانب في أدوات الدين الحكومية زادت بنحو 9.8 مليار دولار في 2016-2017 من 1.1 مليار في 2015-2016.
في حين ذكر مصرفيون إن توافر الدولار لدى البنوك المصرية دفع بعضها إلى توفيره للأفراد دون التقيد بمستندات لإثبات الحاجة إلى العملة الصعبة لكن على استحياء، حيث بلغ إجمالي التدفقات الدولارية على النظام المصرفي أكثر من 57 مليار دولار في ثمانية أشهر منذ تحرير سعر الصرف في نوفمبر تشرين الثاني، ولدى المركزي المصري والبنوك العاملة في البلاد وفرة من الدولار نتجت عن بيع الأفراد ما بحوزتهم عندما كانت هناك مخاوف لبعض الوقت من تراجع سعره ومن تحويلات المصريين في الخارج وشراء الأجانب المكثف لأدوات الدين المصرية وسط ارتفاع أسعار الفائدة، حيث زادت تحويلات المصريين في الخارج 11.1 بالمئة إلى 9.3 مليار دولار منذ نوفمبر تشرين الثاني وحتى نهاية أبريل نيسان وذلك مقابل 8.3 مليار قبل عام وفقا لبيانات البنك المركزي.
ويرى العديد ان ارتفاع قيمة الاستثمار الأجنبى المباشر لهذا العام، لتبلغ 7.8 مليار دولار، مؤشر إيجابي نحو تحسن مناخ الاستثمار فى مصر، وهو الأمر الذى يلقى بظلاله على تحسن أوضاع الاقتصاد المصري خلال الفترة المقبلة، في المقابل يقترح العديد من المحللين أن طوق النجاة الوحيد للاقتصاد المصري يتمثل في عدة مصادر بينها زيادة معدلات الإنتاج، وبين مصادرة قيمة أراضي الدولة المستردة من أيدي مغتصبيها، أو التصالح مع رجال أعمال أو مسؤولي النظام السابق في قضايا كسب غير مشروع، وأن نقطة الانطلاق الأولى هي الشفافية بحصر مستمر لهذه الإيرادات من مصادرها المتنوعة، وأن يتم تشكيل لجنة من مستشارين وخبراء في الاقتصاد لوضع خطة لإدارة هذه الأموال، على ان تكون الأولوية لمشروعات التنمية وإيجاد فرص عمل وأن تكون هذه الأموال نواة لصندوق سيادي يوجه للاستثمار، والشركات التي تعاني مشكلات جسيمة أدت إلى تعثرها، حتى وأن كانت أكثر من 50 % من شركات قطاع الأعمال العام خاسرة، فضلاً عن دعم المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر والكبيرة والمتوسطة في منظومة متكاملة يغذي بعضها البعض، فالإنتاج يقابله زيادة في الأجور وبالتالي يتم حل مشكلة عجز الدخول عن ملاحقة التضخم.
اضف تعليق