البتكوين عملة إلكترونية يمكن مقارنتها بالعملات الأخرى مثل الدولار أو اليورو، لكن مع عدة فوارق أساسية، من أبرزها أن هذه العملة هي عملة إلكترونية بشكل كامل تتداول عبر الإنترنت فقط من دون وجود فيزيائي لها، كما تختلف عن العملات التقليدية بعدم وجود هيئة تنظيمية مركزية تقف خلفها، لكن يمكن استخدامها كأي عملة أخرى للشراء عبر الإنترنت أو حتى تحويلها إلى العملات التقليدية، ويرى القائمون على بِتْكُويْن إن الهدف من هذه العملة التي طرحت للتداول للمرة الأولى في العام 2009 هو تغيير الاقتصاد العالمي بنفس الطريقة التي غيرت بها الويب أساليب النشر.
الا انه هناك حالة من الارتياب تحيط بعملة الإنترنت "البِتكوين". فهل هي فقاعة مضاربة؟ وهل هي فعلاً عملةٌ ذات طبيعة مجهولة كما يدعي معارضوها؟ وبالطبع، كل هذه تساؤلات مثيرة ومهمة، لكنها تصرف الانتباه عن النقاشات الأهم حول قدرة البِتكوين على تحفيز تحديث القطاع المالي، البِتكوين في الحقيقة فكرة مبتكرة للغاية، فهي -بعيداً عن كسرها الأشكال التقليدية للعملة- تجاوزت الأيديولوجيات الحزبية. ويكفي أن الاقتصادي بول كروغمان الحائز على جائزة نوبل، والرمز البارز في حزب الشاي الأميركي رون بول، رغم اختلافهما على طول الخط حول أي قضية تقريبا، توحدت آراؤهما حول البِتكوين (فكلاهما يمقتها بشدة).
لكن كان حريِاً بمعارضي البِتكوين أن يسألوا عن كيفية تطبيق الأفكار الحديثة التي تميز هذه العملة على إصلاح النظام المالي العالمي، فبالرغم من أن الأزمة المالية عام 2008 كشفت عن عيوب مؤسسية، فإن الاستجابة لها -بما في ذلك الإجراءات التنظيمية المشددة مثل قانون دود-فرانك الذي صدر عام 2010 في الولايات المتحدة الأميركية ومعايير بازل 3 المصرفية- فشلت في إحداث التحول المنشود، كذلك أفرزت الحركات الاحتجاجية مثل "احتلوا وال ستريت" -التي تهدف إلى زيادة الوعي بالثقافة المالية ومن ثمّ إصلاحها- نتائج مختلطة، لكن الحقيقة أنه باستثناء زمرة المضاربين الماليين الذين استفادوا بشكل كبير من حزم الإنقاذ الممولة من دافعي الضرائب، لا ينبغي لأحد أن يكون راضياً بالنظام الحالي لسبب مهم وهو أنه من المنطقي توقع أزمة أخرى مصحوبة على الأرجح بمزيد من حزم إنقاذ البنوك في المستقبل غير البعيد.
التفكير في نظام مالي سيكون ناقصاً إذا تجاهل البِتكوين
وإذا كان التوقيت الدقيق للانهيار الاقتصادي التالي غير معلوم، فهناك شيء واحد مؤكد وهو أن أي تفكير في نظام مالي من شأنه أن يخدم العالم على أفضل وجه في القرن الـ21 سيكون ناقصاً إذا تجاهل البِتكوين، فرغم كل شيء، تستطيع التكنولوجيا التي تقوم عليها هذه العملة أن تساعد ليس فقط في تقليل مخاطر النظام المصرفي العامة بتوفير ضمانات تحمي نظام المدفوعات من أنشطة مالية تعد مفيدةً لكنها غير متوقعة، بل بوسعها أيضاً لعب دور مهم في تعزيز النمو الاقتصادي الذي نحتاجه بشدة، تقوم المؤسسات المالية في الأساس بدور الوسيط، فتكون بمثابة همزة الوصل بين المستثمرين والمقترضين والمدخرين، كما تسجل ممتلكات الأشخاص وديونهم. وفي مقابل هذه الخدمات يحصل الاختصاصيون الماليون على أجور سخية للغاية، لذا، فإن السؤال عن مدى عدالة رواتب المصرفيين هو في الحقيقة سؤال عن حجم القيمة الناتجة عن الوساطة المالية، وهو سؤال إجابته ليست بسيطة. والأمر الواضح هو أن صناعة الخدمات المالية الأكثر كفاءة وفعالية تسهم في تعزيز النمو الاقتصادي من خلال السماح بتوجيه نسبة أكبر من ثروة أي اقتصاد نحو الاستثمار والأنشطة الاقتصادية المنتجة.
وبعبارة أخرى، يمكن النظر إلى صناعة الخدمات المالية على أنها نوع من الضريبة على بقية مكونات الاقتصاد، ونظراً للتكاليف العالية للأنظمة المالية البالية المكلفة غير الفعالة -في لندن على سبيل المثال- يجب إرسال الشيكات الورقية عينياً من مصرف إلى آخر، ما يعني أن تحويل الأموال يستغرق من خمسة إلى ستة أيام، فكلما كان النظام المالي أصغر، كان ذلك أفضل للجميع، ولا يقتصر عجز النظام المالي على كونه نتيجة للقواعد والهياكل العتيقة، فهناك أيضاً عامل أساسي وهو السعي وراء الربح، ورغم إعلان السلطات البريطانية مؤخراً أنها ستلغي التحويل العيني للشيكات، يبقى تقليد إرجاء مقاصة الشيكات ليومين قائما. وبالنظر إلى سهولة إرسال صور الشيكات الملتقطة بالماسح الضوئي إليكترونياً وبشكل فوري تقريبا، فلا يمكن تفسير هذا التأجيل المتعمد إلا بوصفه شكلاً من أشكال "المطابَقة"، بمعنى الفائدة المكتسبة بإبقاء المال لأطول فترة ممكنة.
والمطابقة ليست إلا طريقة من طرق كثيرة تلجأ إليها صناعة الخدمات المالية لانتزاع موارد من الاقتصاد. فرسم 3 إلى 5% الذي تفرضه شركات البطاقات الائتمانية يُفضي إلى أرباح سنوية بمئات المليارات من الدولارات لشركات مثل فيزا وماستر كارد. بل إن الرسوم التي تُدفع لإرسال التحويلات إليكترونياً أو صرف العملات قد تقفز إلى 10% أو أكثر لكل عملية، مع إمكانية حدوث معوقات أو إجراءات معقدة تجعل تكلفة مثل هذه الخدمات أعلى من ذلك.
بالبتكوين يمكن التخلص من رسوم ومماطلات الخدمات المالية
لكن رغم ذلك، لا يزال هناك ما يدعو للأمل، فمع ظهور وسائل مبتكرة للتعامل وفي طليعتها البِتكوين، يمكن التخلص بصورة كبيرة من الرسوم والمماطلات وغير ذلك من مظاهر التعامل الأخرى غير الفعالة التي لا تخدم سوى جيوب العاملين في صناعة الخدمات المالية، وقبل جلسات الاستماع التي عقدها مجلس الشيوخ الأميركي في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كتب رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي بن برنانكي خطاباً إلى أعضاء المجلس قال فيه إن البِتكوين قد "تحمل مستقبلاً مبشراً على الأمد البعيد خاصةً إذا أسهمت الابتكارات في تطوير نظام دفع أسرع وأكثر أماناً وفعالية".
ومن المؤكد أن البِتكوين -بفضل طبيعتها المجهولة- قادرة على جعل النظام المالي العالمي أكثر أماناً وتوفير هذا العناء الكبير والمصروفات الهائلة على المستهلكين والشركات، وهي تقدم في ذات الوقت مخزناً بديلاً للقيمة، كما أن استخدامها كأداة للتبادل ينمو بوتيرة ثابتة، لكن، لعل الإبداع الأكثر إثارةً في استخدام البِتكوين هو تطبيق البلوك تشين (block chain)، وهو برنامج لتبادل الملفات والبيانات مباشرةً بين الأجهزة المتناظرة، يقوم بحفظ سجل لكل المعاملات مع جدول إحصائي بأسماء المالكين وممتلكاتهم، ويؤدي هذا التطبيق في الأساس وظيفة دفتر الأستاذ التي تؤديها المصارف حاليا، ولكن بنسبة ضئيلة للغاية من التكلفة التي تفرضها البنوك على المستهلكين والشركات.
ولأنها تعتمد على "لوغرتمات" أو حلول حسابية مفتوحة المصدر، ومتاحة لكل من يختار تنزيل البرنامج المجاني، تمثل عملة البِتكوين عودة إلى أسلوب قائم في التعامل مع الأموال والعمل المصرفي، مع كون الخدمات المالية أقرب اتصالاً بمستخدميها، وقد يكون بوسعنا الاستغناء عن جهات الإدارة الضخمة الوسيطة، مثل مصارف اليوم التي توصف بأنها "كبيرة لدرجة تستعصي على الفشل". وأعتقد حقاً أنه مع وجود برنامج مثل "البلوك تشين" يدعم إقامة هيكل مالي جديد، سيؤول دور المصارف فعلياً إلى "الناس"، ولا تزال عملة البِتكوين ونظامها البيئي في طور النضوج، والوقت وحده هو الذي سيبين إذا ما كانت مستويات الأسعار الحالية تعكس فقاعة مضاربة. لكن الابتكارات الحديثة وفي طليعتها البِتكوين بوسعها -ولذا ينبغي لها- أن تلعب دورا تحويلياً في بناء نظام مالي أكثر أماناً وفعاليةً وأقل تكلفةً.
اضف تعليق