ينطلق تحليل الثقة والمعاملة بالمِثل في علم الاقتصاد السلوكي من منطلق الفكرة التي تقول إن الناس بصفةٍ عامةٍ لا يحبون رؤية النتائج غير المتساوية. لا يحب الأشخاص أن يتلقَّوا معاملةً غير منصفة، ويشعرون بعدم الراحة عندما يرون الآخرين يتعرضون لعدم الإنصاف. وإذا شعرنا أننا نتعرض للإجحاف، فستقل ثقتنا بالآخرين...

تنطلق معظم النظريات الاقتصادية من فرضية أننا مخلوقات مستقلة وأنانية، لا تعتمد على الآخرين عند اتخاذ القرارات. وفي ظل الظروف العادية، تُعتبر الأسواق المجهولة أفضلَ طريقة لتنظيم النشاط الاقتصادي وضمان حصول المستهلكين والمنتجين على أفضل صفقات ممكنة، والتي تعود بالنفع على الطرفين.

الافتراض السائد في الاقتصاد هو أننا نتصرف جميعًا كما لو أن الآخرين لا وجود لهم كأفراد. وأننا لا نتأثر بهم إلا بشكلٍ غيرِ مباشر؛ لأن قراراتهم فيما يخصُّ العرض والطلب هي المحرك لأسعار السوق. وهذا الافتراض يُغفِل بُعدًا مهمًّا من حياة الناس الاقتصادية. فالأسعارُ غيرُ شخصية، وعندما يركِّز الاقتصاديون عليها دون غيرها في تحليلهم الاقتصادي، سيغفُلون بسهولة عن أهمية العلاقات الإنسانية والتفاعلات الاجتماعية في عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية. هناك طرقٌ كثيرة تتأثر من خلالها خياراتنا الاقتصادية بالآخرين من حولنا. وتساعد أدبيات علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع في إظهار أسباب ذلك وكيفية حدوثه. في هذا الفصل، سنستعرض بعض الطرق الرئيسية التي من خلالها يتأثر السلوك الاقتصادي بالتفاعلات الاجتماعية.

الثقة والمعاملة بالمِثل والنفور من عدم الإنصاف

قد نكترث بأمر الآخرين أو لا نكترث؛ وقد يكترث الآخرون بأمرنا أو لا يكترثون. لكننا نحرص على الإنصاف، ونفضِّل النتائج المنصِفة على النتائج غير المنصِفة. كما نجد في أنفسنا الميل إلى الثقة في الآخرين في بعض المواقف، وكذلك الآخرون. وعندما نجد الآخرين جديرين بالثقة ويُحسنون معاملتنا، تزداد احتمالية أن نبادلهم الثقة بمثلها، وأن نكون أهلًا لثقتهم أيضًا. على سبيل المثال، إذا ساعدني زملائي في التدريس والمهام الإدارية، فسأرغب في مساعدتهم في التدريس والمهام الإدارية كذلك. وهذا التفاعل بين الثقة والمعاملة بالمِثل عاملٌ مهم في كثير من الأنشطة التعاونية المشتركة التي نباشرها كل يوم بشتى صورها؛ بدايةً من التعاون بين فريق العمل في أثناء العمل أو الدراسة، وانتهاءً إلى الإيثار الذي نظهره عند التبرع إلى المؤسسات الخيرية، والتضافر الذي لا بد منه للنجاح في الحياة الأسرية، والمشاريع المجتمعية، والحركات السياسية.

ينطلق تحليل الثقة والمعاملة بالمِثل في علم الاقتصاد السلوكي من منطلق الفكرة التي تقول إن الناس بصفةٍ عامةٍ لا يحبون رؤية النتائج غير المتساوية. لا يحب الأشخاص أن يتلقَّوا معاملةً غير منصفة، ويشعرون بعدم الراحة عندما يرون الآخرين يتعرضون لعدم الإنصاف. وإذا شعرنا أننا نتعرض للإجحاف، فستقل ثقتنا بالآخرين ولن نقدر على رد الإحسان بالإحسان. هذا العنصر المهم في تفاعلاتنا الاجتماعية، يرْبط ميلنا للإنصاف بتصورنا لوضعنا الاجتماعي مقارنة بالآخرين. فنحن نُبغِض المواقف التي يبدو فيها الآخرون أفضل أو أسوأ من وضعنا؛ لأننا لا نحب النتائج غير المتساوية. يسمِّي علماء الاقتصاد السلوكي ذلك الميل «النفور من عدم الإنصاف».

هناك نوعان من النفور من عدم الإنصاف، يمكن استيعاب كليهما، من خلال تصور مسئولٍ بنكي يلتقي بمشرَّد في شوارع لندن. ربما يحزن المسئول البنكي برؤية شخصٍ يعاني من الفقر، ويتمنى لو كانت ظروف المعيشة أكثر تكافؤًا؛ إذا كان الأمر كذلك، فإن ما يشعر به يسمَّى «نفورًا من عدم الإنصاف نابعًا من الأفضلية». إذ يأتي المسئول البنكي من وضعٍ أوفر حظًّا، لكنه ربما لا يحب رؤية الآخرين يعانون من تدنِّي ظروف المعيشة، وسيرغب في رؤية المشرَّد في وضعٍ أكثر إنصافًا. وكذلك الشخص المشرَّد لا يريد أن يعاني من عدم الإنصاف. وسيتمنى لو أنه يمتلك المال الكافي ليقدر على توفير مكانٍ آمن ومريح يأويه؛ ولذا فإن وضعه العصيب غير منصف، وسوف يشعُر بما يسمَّى «نفورًا من عدم الإنصاف نابعًا من الحرمان»؛ فهو يعيش في حرمان، ولا يرغب في أن يكون أسوأ حالًا ممن حوله.

فهما وإن كانا يتشاركان في كراهتهما للنتائج غير المتكافئة، إلا أنه يغلب أن يكون الشحَّاذ المشرَّد أكثر انزعاجًا من وضعه غير المتكافئ من المسئول البنكي؛ فالناس يتضرَّرون من عدم الإنصاف النابع من الحرمان أكثر من تضرُّرهم من عدم الإنصاف النابع من الأفضلية. ويغلب على الظن أن يشعر المسئول البنكي بانزعاجٍ بسيط من رؤية المشرَّد بلا مأوًى، لكن المشرَّد سيشعر ببؤسٍ شديد من وضعه المجحف.

ويمكن أن يفسِّر ميلَنا للإنصاف أيضًا شعورُنا بالإيثار، الذي يدفعنا على سبيل المثال إلى التطوع أو التبرع للمؤسسات الخيرية. قد نفعل ذلك لأننا نستمتع بالسخاء، ولأننا في بعض الأحيان نستقي الشعور بالدفء من سخائنا. غير أن بعض التجارب تُظهِر أن تلك الأفعال الإيثارية لا تنبع دائمًا من السخاء البحت، إنما تكون في بعض الأحيان طريقتنا في إعلام الآخرين بأننا مواطنون صالحون وكرماء. حيث يميل الناس إلى التبرع أكثر عندما تُذاع أعمالهم السخية على الملأ.

أكدَت العديد من الأبحاث التجريبية أن النفور من عدم الإنصاف يُعد نزعةً قوية، وهي ليست موجودةً لدى البشر في معظم البلدان والثقافات فحسب، وإنما لدى الرئيسيات أيضًا. ثمة لعبةٌ تجريبيةٌ بسيطة تُستخدم لاختبار نفورنا من عدم الإنصاف، تسمَّى «الإنذار الأخير». تتألف هذه اللعبة، في أبسط شكل لها، من لاعبَين. يتلقى اللاعب (أ) الذي سنطلق عليه «مقدم العرض»، مبلغًا من المال —لنقُل مائة جنيه إسترليني— ويكون له مطلق الحرية في إعطاء أي جزء منه إلى اللاعب (ب)، الذي سنطلق عليه «المستجيب للعرض». إذا رفض المستجيب ما يمنحه له مقدم العرض، فلن يحصل أي منهما على أي مال، وسيتعيَّن على مقدم العرض إعادة المائة جنيه إسترليني إلى القائم على التجربة. على الأرجح سيفترض علماء الاقتصاد التقليدي أن المشاركَين سيلعبان هذه اللعبة بأنانية تامة، وسيسعيان للحصول على أكبر قدْرٍ ممكن من المال، في ضوء ما يفترضه كلٌّ منهما عن استراتيجيات الآخر. سيفترض اللاعب (أ) أن اللاعب (ب) سيفضِّل الحصول على جنيهٍ إسترليني على ألَّا يحصل على شيء على الإطلاق. ولذا سيعرض اللاعب (أ) على اللاعب (ب) عرضًا بقيمة جنيهٍ إسترليني معتقدًا أنه سيقبله. إذا كان اللاعب (ب) لا يكترث بما يعتقده اللاعب (أ) أو بما يفعله، فسيفضِّل الحصول على جنيهٍ إسترليني بدلًا من عدم الحصول على أي شيء، وبالتالي سيقبل عرض اللاعب (أ). هكذا، افترض اللاعب (أ) أن اللاعب (ب) سيتصرف بهذه الطريقة؛ ومن ثَم عرض عليه جنيهًا إسترلينيًّا، واستأثر بالتسعة والتسعين.

تُعتبر لعبة «الإنذار الأخير» من أكثر التجارب الشائعة في الاقتصاد السلوكي، وقد خضعَت للتعديلات حتى تختبر استجابات المشاركين للمبالغ المالية المختلفة، وتنظر في مختلف الاستجابات عَبْر كثير من البلدان والثقافات. كما استُخدمَت اللعبة في تجاربَ أُجريَت على الحيوانات أيضًا. وأظهرَت قرود الشمبانزي التي تلعب بهدف الفوز بالعصير والفاكهة، سلوكًا مشابهًا للسلوك البشري. لكن النتيجة المشتركة بين كل هذه الدراسات هي أن سلوك المشاركين في العالم الواقعي يختلف تمام الاختلاف عما قد يتوقعه معظم علماء الاقتصاد؛ إذ غالبًا ما يتصرف مقدم العرض بسخاءٍ كبير فيعرض مبلغًا أكبر بكثير من جنيهٍ إسترليني أو ما يعادله، في حين يرفض المستجيب العروض في كثير من الأحيان حتى في حال عُرض عليه أربعون بالمائة أو أكثر من إجمالي المبلغ المتاح.

يرى بعض علماء الاقتصاد السلوكي أن كراهتنا الظلم هو نوعٌ من الانفعالات الاجتماعية. قد تثير أوضاعُنا الاجتماعية انفعالات معيَّنة في نفوسنا، مثل الحسد والغيرة والاستياء، ومن المحتمل أن يكون للانفعال دورٌ عندما يتعرض المشاركون للظلم في لعبة «الإنذار الأخير». على سبيل المثال، إذا شعر المستجيب (اللاعب ب) بالاستياء من مقدم العرض (اللاعب أ) لأنه قدَّم له عرضًا مجحفًا، فقد لا يمانع أن يتخلى عن أربعين جنيهًا إسترلينيًّا أو أكثر نظير معاقبته. وقد استخدم علماء الأعصاب دراساتٍ تضمن تصوير الدماغ لمحاولة اكتشاف ما يحدث داخل أدمغتنا. قامت إحدى هذه الدراسات بتصوير أدمغة القائمين بدور المستجيب في لعبة «الإنذار الأخير». وأظهرَت الاستجابات الدماغية للمشاركين أن المناطق العصبية التي تنشط عندما يتعرضون للظلم في لعبة «الإنذار الأخير»، هي نفسها التي تنشط عندما يشعرون بالاشمئزاز من رائحةٍ كريهة على سبيل المثال. يرى بعض علماء الأعصاب وعلماء الاقتصاد العصبي هذه النتائج دليلًا على أننا نشعر بنوعٍ من الاشمئزاز الاجتماعي عندما يعاملنا الآخرون بإجحاف.

التعاون والعقاب والأعراف الاجتماعية

تمثل الأعراف الاجتماعية نوعًا آخر من التأثيرات الاجتماعية التي تحرِّك سلوكياتنا، وغالبًا ما يعززها ضغط الأقران. وبالنظر إلى أننا كائناتٌ اجتماعية، فإننا نُكافِئ (ونكافَأ على) السلوكيات المحابِية للمجتمع بشكلٍ عام؛ إذا قلَّد المراهقون أقرانهم في اختياراتهم وعاداتهم على سبيل المثال، فسيُدعون إلى أروع الحفلات على الأغلب. فالانصياع له تأثيره القوي، ويلعب دورًا مهمًّا في عاداتنا وتقاليدنا وممارساتنا الدينية. لكن عندما يكون الانصياع أعمى، لا تكون التأثيراتُ الاجتماعية محمودةَ العواقب دائمًا، مثلما يحدث عندما تتشكل الطوائف. وتُعتبر الطوائف الدينية المتشددة مثالًا متطرفًا على السلوك الاجتماعي الهدَّام، ومع ذلك للانصياع قوةٌ لا يُستهان بها في السياقات الطبيعية أيضًا. فكثيرًا ما نقارن سلوكنا بسلوك الآخرين؛ إذ يوفِّر لنا سلوك الآخرين ما يسمِّيه علماء الاقتصاد السلوكي «النقاط المرجعية الاجتماعية»؛ أي إننا نتخذ قراراتنا بالرجوع إلى ما نعتقد أنه القرار السائد في المجموعة. وتستخدم الكثير من المؤسسات —من صانعي السياسات الحكوميين إلى العاملين في مجال التسويق— المعلومات المتعلقة بنقاط مرجعيتنا الاجتماعية للحث على السلوك البنَّاء على سبيل المثال، أو لجني المزيد من الأرباح.

وتساعد الأعراف الاجتماعية في شرح الكيفية والأسباب وراء تطوُّر البشر ليكونوا نوعًا متعاونًا، لكن كيف نضمن عدم استغلال أحد لسخاء الآخرين دون مقابل؟ يُجيب عن هذا السؤال علماء الاقتصاد السلوكي الذين يدرسون مجموعة من الألعاب تُعرف باسم «ألعاب المنفعة العامة»، وهي عبارة عن أداةٍ تجريبية لدراسة ميلنا الفطري للتعاون، وكذلك دور الجزاءات والعقوبات الاجتماعية في الحفاظ على السلوك البشري التعاوني. وقد نشأَت ألعاب المنفعة العامة من المفهوم الاقتصادي للمنفعة العامة. وتُعرَّف المنفعة العامة، في أتم صورها، بالشيء الذي يمكن للجميع الوصول إليه بالمجَّان وبكل سهولة، ولا يُمنع من الاستفادة منه أحد، مما يعني أنه من الصعب تحويله إلى الملكية الخاصة.

 والمثال النموذجي للمنفعة العامة هو المنارة؛ إذ يمكن لأي مارٍّ أمام المنارة الانتفاع من ضوئها، لكن ليس من السهل فرضُ رسومٍ على كل فردٍ ينتفع منها. ولذلك أي شخصٍ يرغب في التربُّح من مشروعٍ تجاريٍّ خاص، لن يستثمر أمواله على الأغلب في منارة؛ لأنه يعلم أنه ليس من السهل التربُّح منها. من ثَم، لا بد من وجود دافعٍ آخر لتوفير المنافع العامة مثل المنارات. وقد وجد علماء الاقتصاد أن للمجتمعات المحلية دورًا مهمًّا في ضمان توفير المنافع العامة وصيانتها.

كشف علماء الاقتصاد السلوكي بعضَ العوامل التي تؤثِّر في سلوكنا تجاه المنافع العامة، من خلال ألعاب المنفعة العامة. وفي واحدةٍ من هذه الألعاب، يُجمع عدد من المشاركين في التجربة، ويُطالَبون بالمساهمة في صندوقٍ مالي، سيُقسَّم بينهم بالتساوي فيما بعدُ. تُشبه هذه اللعبة ما سيفعله المجتمع المحلي إذا أراد تدبير صندوقٍ مالي لإنشاء حديقةٍ عامة على سبيل المثال. ويفترض الكثير من الاقتصاديين أن معظم المشاركين في التجربة لن يتبرَّعوا بأي مبلغٍ مالي؛ لأن الصندوق المالي سيُقسَّم بين المشاركين بالتساوي، سواء شاركوا فيه أم لا. لذا فإن أفضل طريقة يحقِّق بها الفرد أقصى استفادة ممكنة هو أن يحصل على حصته من الصندوق المالي دون المساهمة فيه. المُشكِل في طريقة التفكير هذه هي أنه إذا تبناها الجميع، قاصدين استغلال سخاء الآخرين دون بذل أي مقابل، فلن يكون هناك مالٌ لمقاسمته، ولن تُوجَد منافعُ عامة على الإطلاق. وهُنا سيخلق الأفراد الأنانيون نتيجةً تضُر بمصلحة الجماعة.

لكن لحسن الحظ، وجد علماء الاقتصاد السلوكي والتجريبي أن المشاركين في تجارب ألعاب المنفعة العامة يُظهِرون سخاءً غير مسبوق، مثلما فعل المشاركون في لعبة «الإنذار الأخير». إذ يتبرَّع معظم المشاركين بسخاء بدلًا من الامتناع عن المشاركة تمامًا. وتكشف النسخ المختلفة من تجارب ألعاب المنفعة العامة أنه عندما يلاحظ طرفٌ ثالثٌ تصرفَ البعض بأنانية، فإنه يكون على استعداد لبذل مقابل كي ينالَ المشاركين غير المتعاونين عقابٌ، وتُعرف هذه الظاهرة باسم «العقاب الإيثاري». تنص هذه الظاهرة على أن أفراد المجتمع يُظهِرون استعدادًا للتخلي عن منافعهم الشخصية من أجل معاقبة الآخرين على انتهاك الأعراف الاجتماعية مثل السخاء والتعاون.

 وهذا في حد ذاته شكلٌ من أشكال التعاون؛ لأنه يرسخ السلوك التعاوني لأولئك الذين يتبرَّعون بسخاء، ويردَع السلوك الأناني لأولئك الذين يرغبون في استغلال سخاء الآخرين دون بذل مقابل. ولقد عكف علماء الاقتصاد العصبي وعلماء الأعصاب على دراسة ظاهرة العقاب الإيثاري في ألعاب المنفعة العامة. ووجدوا أن المشاركين في التجربة الذين يطبِّقون العقاب الإيثاري تُظهِر أدمغتهم نشاطًا عصبيًّا في مراكز المكافأة، مما يعني أننا نشعُر بالمتعة عندما نُعاقِب الآخرين على انتهاك الأعراف الاجتماعية.

تلعب ظاهرة العقاب الإيثاري دورًا مهمًّا في تطور سلوك التعاون. فالعقاب الإيثاري يُسهِم في عالمنا المعاصر في تفسير سبب تسرُّعنا في إدانة السلوكيات غير المقبولة اجتماعيًّا على الملأ. وهو ما سهَّلَته وسائل التواصل الاجتماعي رغم ما ينتُج عن ذلك من تبعاتٍ سيئة، مثل انتشار المنشورات التحريضية على تويتر. لكن بصفةٍ أعم، تفسِّر هذه الميول للتعاون وترسيخ الأعراف الاجتماعية، كونَ المعلومات الاجتماعية أداةً شديدة الفاعلية في التأثير على السلوك. وأحد الأمثلة على ذلك هو نتائج استهلاك الطاقة؛ فعند اطلاع المستهلكين على تقارير استهلاك جيرانهم، كانوا يعدِّلون استهلاكهم للطاقة للتوافق مع النقطة المرجعية الاجتماعية لاستهلاك أصدقائهم وجيرانهم. وبالمثل، عندما أرسلَت هيئة الضرائب في المملكة المتحدة، «إدارة الإيرادات والجمارك»، إلى المتخلفين عن دفع الضرائب رسائل تحتوي على بعض المعلومات الاجتماعية حول سلوك أقرانهم، مما يخبرهم بأن سلوكهم شاذٌّ اجتماعيًّا لأن معظم أقرانهم دفعوا فواتيرهم في الموعد المحدد، دفع ذلك أغلبهم (لا كلهم!) لسداد الضرائب المتأخرة، أسرع من المتأخرين عن السداد الذين تلقَّوا رسائل لا تحتوي على أي معلوماتٍ اجتماعية حول سلوك أقرانهم.

الهُوية

الهُوية هي جانبٌ آخر تتجسد فيه طبائعنا الاجتماعية، وهي تُعد من جوانب كثيرة نوعًا خاصًّا من الإشارات الاجتماعية، تشبه في ذلك الدور الذي يؤديه دافع السُّمعة في التبرعات الخيرية، كما ناقشنا في الفصل الثاني. إذا نظرنا إلى أنفسنا نجد أننا نشعُر بالألفة والميل تجاه بعض الجماعات دون غيرها، وهو ما يرتبط بالدراسة المبكرة التي أجراها عالم النفس الاجتماعي هنري تايفل على التحيز والتمييز. كان غرض تايفل من هذه الدراسة هو فهم سبب انبهار كثيرٍ من المواطنين البسطاء بهتلر والحزب النازي. وركَّز في دراسته على العلاقات بين الجماعات، التي يشعُر أفرادها بالانتماء إليها، ويكونون على استعدادٍ لتحدي الجماعات الأخرى والدخول في صدام معها، كأنها عدو لهم. 

ولاحظ تايفل أيضًا أن أفراد الجماعة الواحدة يميلون بعضهم لبعض، ويقرِّرون إنشاء علاقةٍ مستمرة من المحاباة المتبادلة لأبسط الأسباب. إذ يمكن لتفضيلاتٍ بسيطة مثل تفضيل أنواعٍ معيَّنة من الفن، أو حتى نتائج إلقاء عملةٍ معدنية، أن تفصل جماعةً عن الأخرى. كما أننا على استعدادٍ لتحمُّل تكاليف مقابل الانتماء لجماعة بعينها؛ على سبيل المثال، لا يمانع معجَبو نجوم البوب مثل كيتي بيري إنفاقَ آلاف الجنيهات أو الدولارات في السنة للشعور بالانتماء لمعجَبي كيتي بيري الآخرين. هذا وترتبط استنتاجات تايفل عن الجماعات بدراسات علماء الاقتصاد السلوكيين عن الهُوية. ولقد حلَّل عالما الاقتصاد السلوكي جورج أكرلوف وراشيل كرانتون مفهوم الهُوية؛ ولاحظا أن السلوكيات التي تبدو في ظاهرها منحرفة، مثل إلحاق الأذى بالنفس المتمثل في دق الوشوم والثقوب في الجسم، هي محاولاتٌ من أصحابها للإشارة لجماعتهم بأنهم ينتمون إليها.

وتلعب الهوية دورًا محوريًّا في السياسة. إذ يشعر معظمنا بحاجةٍ ملحة للانتماء إلى الآخرين اجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا. في أعقاب تصويت المملكة المتحدة بشأن مغادرة الاتحاد الأوروبي في يونيو ٢٠١٦، لاحظ المعلقون أن كثيرًا من الذين صوَّتوا لصالح «الانفصال» كان يسيطر عليهم الشعور بضياع الهوية أو غيابها، بسبب ازدياد عدد المهاجرين من الاتحاد الأوروبي. وللمفارقة، أن أكثر المتحمسين لقرار «الانفصال» من عامة الشعب —الذين كانوا يشعرون بخطر المهاجرين— كانوا يعيشون في مناطق تشهد معدلات هجرة منخفضة، مع بعض الاستثناءات الجديرة بالذكر (مثل مدينة بوسطن في لينكونشر). ربما اعتبروا المهاجرين جماعةً منفصلةً عنهم، دون الاستناد في ذلك إلى أي خبرة مباشرة، وهي ظاهرة لم تكن لتُثير دهشة تايفل.

* مقتطف من كتاب: الاقتصاد السلوكي: مقدمة قصيرة جدًّا، المؤلف: ميشيل باديلي، نشر

مؤسسة هنداوي.

اضف تعليق