لماذا أصبح نظامنا العالمي في حاجة إلى إعادة تصميم، ونعترف بأن عقودا من تعميق العلاقات التجارية حققت نموا اقتصاديا سريعا ولكنه متفاوت. وهناك تصور قوي في كثير من الاقتصادات المتقدمة بأن العولمة أفضت إلى إحلال غير عادل لكثير من الوظائف في قطاعات الصناعات التحويلية المحلية. وتنطوي هذه الشكاوى...
بقلم: بيير–أوليفييه غورينشا

في ظل التوترات التجارية وزيادة عدم اليقين بشأن السياسات، ستحدد طريقة التصدي للتحديات واغتنام الفرص المسار في المرحلة القادمة.

إن النظام الاقتصادي العالمي الذي عمل معظم البلدان في إطاره على مدى الثمانين عاما الماضية يُعاد ضبطه، إيذانا بدخول العالم حقبة جديدة. فالقواعد الحالية تواجه تحديات، في حين لم تظهر قواعد جديدة حتى الآن. ومنذ أواخر يناير، بلغت موجة التعريفات الجمركية التي أعلنتها الولايات المتحدة، التي بدأت بكندا والصين والمكسيك وقطاعات مهمة، ذروتها بفرض رسوم جمركية على معظم بلدان العالم تقريبا في 2 إبريل. وقد تجاوزت معدلات التعريفات الفعلية التي فرضتها الولايات المتحدة المستويات التي بلغتها في الماضي إبّان الكساد الكبير، في حين أدت ردود الفعل المضادة من الشركاء التجاريين الرئيسيين إلى ارتفاع هائل في المعدل العالمي.

ويشكل ما نتج عنها من عدم يقين مبني على أسباب معلومة وعدم إمكانية التنبؤ بالسياسات دافعا رئيسيا للآفاق الاقتصادية. ففي حالة استمرارها، ستؤدي هذه الزيادة المفاجئة في التعريفات الجمركية وما يصاحبها من عدم اليقين إلى تباطؤ كبير في النمو العالمي. وانعكاسا لما تشهده اللحظة الحالية من تعقيدات وتقلبات، يقدم تقريرنا مجموعة من التنبؤات للاقتصاد العالمي.

ويتضمن التنبؤ المرجعي الوارد في تقرير آفاق الاقتصاد العالمي إعلان الولايات المتحدة التعريفات الجمركية في الفترة بين 1 فبراير و4 إبريل، والتدابير المضادة التي اتخذتها البلدان الأخرى. وهو يخفض تنبؤاتنا للنمو العالمي إلى 2,8% للعام الجاري، و3% للعام القادم، وهو تخفيض تراكمي بمقدار 0,8 نقطة مئوية تقريبا مقارنة بما ورد في عدد يناير 2025 من تقرير مستجدات آفاق الاقتصاد العالمي. ونقدم أيضا تنبؤا عالميا مع استبعاد التعريفات الجمركية التي أُعلنت في 2 إبريل (تنبؤ ما قبل 2 إبريل). وفي إطار هذا المسار البديل، كان النمو العالمي سيشهد تخفيضا تراكميا طفيفا بمقدار 0,2 نقطة مئوية فقط لعام 2025، وصولا إلى 3,2 نقطة مئوية لعام 2026.

وأخيرا، فإننا ندرج تنبؤات قائمة على النماذج تضم التصريحات بعد 4 إبريل. وعلى مدار تلك المدة، أوقفت الولايات المتحدة مؤقتا تطبيق معظم التعريفات الجمركية في حين زادت التعريفات على الصين إلى مستويات بالغة الارتفاع. ولا يؤدي هذا التعليق، حتى وإن استمر لأجل غير مسمى، إلى تغيير ملموس في الآفاق العالمية مقارنة بالتنبؤ المرجعي. ويُعزى هذا الأمر إلى أن معدل التعريفة الفعلي الكلي في الولايات المتحدة والصين لا يزال مرتفعا حتى وإن كانت بعض البلدان التي فُرضت عليها تعريفات جمركية مرتفعة في البداية ستستفيد الآن، في حين لم يتراجع عدم اليقين الناجم عن هذه السياسات.

وعلى الرغم من تباطؤ النمو العالمي، فإنه لا يزال أعلى كثيرا من مستويات الركود. ورُفعت توقعات التضخم العالمي بمقدار 0,1 نقطة مئوية تقريبا لكل عام، إلا أن تباطؤ معدل التضخم لا يزال مستمرا. وقد اتسمت التجارة العالمية بالقدرة على الصمود حتى الآن، وهو ما يُعزى جزئيا إلى أن الشركات تمكنت من إعادة توجيه مسارات تدفقات التجارة حين اقتضت الحاجة. وقد يصبح هذا الأمر أصعب في هذه المرة. ونتوقع أن ينخفض نمو التجارة العالمية أكثر من الناتج، إلى 1,7% في عام 2025 - وهو تخفيض كبير للتوقعات منذ عدد يناير 2025 من تقرير مستجدات آفاق الاقتصاد العالمي.

ومع هذا، تحجب التقديرات العالمية تباينا هائلا عبر البلدان. فالتعريفات الجمركية تشكل صدمة سلبية في العرض للبلدان التي تطبقها، لأن الموارد يُعاد تخصيصها لإنتاج سلع أقل تنافسية بما ينتج عن هذا الأمر من خسائر في الإنتاجية الكلية، وارتفاع تكاليف الإنتاج. وعلى المدى المتوسط، يمكن أن نتوقع أن تؤدي التعريفات إلى الحد من المنافسة والابتكار وزيادة السعي للكسب الريعي، مما يزيد التأثير على الآفاق الاقتصادية.

وفي الولايات المتحدة، كان الطلب يتراجع بالفعل قبل التصريحات الأخيرة الخاصة بالسياسات، مما يعكس حالة أكبر من عدم اليقين بشأن السياسات. وفي إطار التنبؤ المرجعي الذي حددناه في 2 إبريل، خفضنا تقديرنا للنمو الأمريكي لهذا العام إلى 1,8%. ويعني هذا انخفاضا بمقدار 0,9 نقطة مئوية عن التقدير في يناير، وتُعزى 0,4 نقطة مئوية من هذا الانخفاض إلى التعريفات الجمركية. وقد رفعنا أيضا تنبؤاتنا بشأن التضخم في الولايات المتحدة بمقدار نقطة مئوية واحدة تقريبا، ارتفاعا من 2%.

وبالنسبة للشركاء التجاريين، تشكل التعريفات الجمركية في الغالب صدمة سلبية للطلب الخارجي، مما يدفع العملاء الأجانب إلى عدم الإقبال على منتجاتهم، حتى وإن تمكن بعض البلدان من الاستفادة من تحويل مسارات التجارة. واتساقا مع هذه الدفعة الانكماشية، خفضنا تنبؤاتنا للنمو في الصين لهذا العام إلى 4%، مما يعني انخفاضا بمقدار 0,6 نقطة مئوية، في حين خُفضَّت تقديرات التضخم بنحو 0,8 نقطة مئوية.

وبالإضافة إلى هذا، خُفضَّت تقديرات النمو في منطقة اليورو، التي فُرضت عليها معدلات تعريفات فعلية أقل نسبيا، بمقدار 0,2 نقطة مئوية، لتبلغ 0,8%. وفي كل من منطقة اليورو والصين، ستوفر دفعة تنشيطية أقوى من المالية العامة بعض الدعم في العامين الجاري والقادم. وقد يواجه كثير من الأسواق الصاعدة حالات تباطؤ كبيرة تتوقف على المكان الذي ستستقر في التعريفات. وقد خفضنا تنبؤاتنا للنمو فيها بمقدار 0,5 نقطة مئوية، لتبلغ 3,7%.

ويمكن أن تؤدي كثافة سلاسل الإمداد العالمية إلى تفاقم تأثيرات التعريفات وعدم اليقين. فمعظم السلع المتداولة عبارة عن مدخلات وسيطة تعبر الحدود عدة مرات قبل أن تتحول إلى منتجات نهائية. ويمكن للاضطرابات أن تنتشر في جميع أنحاء شبكة المدخلات والمخرجات العالمية بما قد تُحدثه من تأثيرات مُضاعِفة كبيرة، على غرار ما شهدناه إبَّان الجائحة. ومن المحتمل أن تلجأ الشركات التي تواجه عدم اليقين بشأن قدرتها على النفاذ إلى الأسواق إلى التوقف عن العمل على المدى القريب، وتخفيض حجم الاستثمارات، والحد من الإنفاق. وبالمثل، ستُعيد المؤسسات المالية تقييم مدى تعرض المقترضين منها للمخاطر. ويمكن أن تسود حالة عدم اليقين المتزايد وتشديد الأوضاع المالية بشكل كبير على المدى القصير، مما يؤثر على النشاط الاقتصادي، على النحو الذي يعكسه الانخفاض الحاد في أسعار النفط.

ومن جهة أخرى، يتسم تأثير التعريفات الجمركية على أسعار الصرف بالتعقيد. فقد تشهد الولايات المتحدة، بوصفها البلد الذي يفرض هذه التعريفات الجمركية، انخفاض قيمة عملتها على غرار ما حدث في فترات سابقة. وعلى الرغم من هذا، فإن زيادة عدم اليقين بشأن السياسات، وضعف آفاق النمو في الولايات المتحدة، والتعديل في الطلب العالمي على الأصول الدولارية - الذي اتسم بالتنظيم حتى الآن - يمكن أن تؤثر على الدولار كما رأينا منذ الإعلان عن التعريفات الجمركية. وعلى المدى المتوسط، قد تنخفض قيمة الدولار بالقيمة الحقيقية إذا تُرجمت التعريفات الجمركية إلى انخفاض في الإنتاجية في قطاع ﺍﻟﺴﻠﻊ القابلة للتداول في الولايات المتحدة، مقارنة بشركائها التجاريين.

وقد ازدادت المخاطر التي تواجه الاقتصاد العالمي، ويمكن أن يؤدي تفاقم التوترات التجارية إلى مزيد من كبح النمو. ويمكن تشديد الأوضاع المالية بشكل أكبر لأن رد فعل الأسواق على تراجع آفاق النمو وزيادة عدم اليقين جاء سلبيا. وعلى الرغم من أن البنوك لا تزال تحتفظ بمستويات جيدة من رأس المال بشكل عام، قد تواجه الأسواق المالية اختبارات أكثر صعوبة.

ومع هذا، فإن آفاق النمو يمكن أن تتحسن مباشرة إذا اتخذت البلدان خطوات لتيسير موقف سياساتها التجارية الحالية وصياغة اتفاقات تجارية جديدة. ومن خلال معالجة الاختلالات المحلية يمكن، على مدار فترة تمتد سنوات، موازنة المخاطر الاقتصادية وزيادة الناتج العالمي مع المساهمة بشكل كبير في التغلب على الاختلالات الخارجية. وفي أوروبا، يعني ذلك إنفاق المزيد على البنية التحتية لتعجيل وتيرة نمو الإنتاجية. ويعني ذلك أيضا زيادة دعم الطلب المحلي في الصين، والمُضي قُدُما في ضبط أوضاع المالية العامة في الولايات المتحدة.

وتدعو توصياتنا بشأن السياسات إلى توخي الحذر والتعاون بشكل أفضل. وينبغي أن تأتي في طليعة الأولويات استعادة استقرار السياسة التجارية وصياغة اتفاقات تحقق المنفعة المتبادلة. فالاقتصاد العالمي في حاجة إلى نظام تجاري واضح يمكن التنبؤ به، يعالج الفجوات طويلة الأمد في القواعد التجارة الدولية، بما في ذلك انتشار استخدام الحواجز غير الجمركية أو تدابير أخرى تشوه التجارة. وهذا الأمر سيقتضي تحسين التعاون.

وسوف يتعين كذلك أن تظل السياسة النقدية مرنة. وقد تواجه بعض البلدان مفاضلات أشد حدة بين التضخم والناتج. وفي بلدان أخرى، قد تصبح ركيزة التوقعات التضخمية أقل ثباتا، مع مواجهة صدمة تضخم جديدة عقب الصدمة السابقة بفترة وجيزة. أما في البلدان التي تواجه عودة الضغوط على الأسعار، سوف يقتضي الأمر تشديدا قويا للسياسة النقدية. وفي بلدان أخرى، ستكون صدمة الطلب السلبية مبررا لتخفيض أسعار الفائدة الأساسية. ومصداقية السياسة النقدية مهمة في كل الحالات، كما لا تزال استقلالية البنوك المركزية أحد الركائز المهمة.

وقد يكون من الصعب على الأسواق الصاعدة اجتياز بيئة من التقلبات الخارجية المتزايدة الناجمة عن تعديل التعريفات وربما تجنب المخاطر لفترة مطولة. فيؤكد إطار السياسات المتكامل الذي وضعناه أهمية السماح بتعديل العملات حينما يكون ذلك مدفوعا بعوامل أساسية، كما هو الحال في الوقت الراهن، ويبين على وجه التحديد الأوضاع التي يُحبَّذ فيها تدخل البلدان.

وتواجه سلطات المالية العامة مفاضلات أشد مع ارتفاع الديون وانخفاض النمو وزيادة التكاليف المالية. ولا يزال معظم البلدان لا يملك سوى حيز مالي محدود للغاية ويحتاج إلى تنفيذ خطة تدريجية وذات مصداقية للضبط المالي، في حين أن بعض أفقر البلدان المتضررة كذلك من انخفاض المساعدة الرسمية، قد يواجه حالة من المديونية الحرجة.

وتظل احتياجات الإنفاق الجديدة تؤثر على أوجه الهشاشة في المالية العامة. وسوف تتزايد طلبات الحصول على الدعم لأولئك المعرضين لمخاطر الاختلالات الحادة بسبب الصدمات. وينبغي أن يظل هذا الدعم موجها في نطاق ضيق وأن يتضمن بنود الانقضاء الموقوت الآلي. وتشير التجربة على مدار الأربعة أعوام الماضية إلى أن فتح الباب لتقديم الدعم من المالية العامة أسهل من إغلاقه.

وهناك بعض البلدان، في أوروبا تحديدا، التي تواجه زيادات جديدة ودائمة في الإنفاق المرتبط بالدفاع. كيف ينبغي تمويلها؟ في حالة البلدان التي لديها حيز مالي كافٍ، ينبغي أن يقتصر التمويل بالدين على الجزء المؤقت من هذه النفقات الإضافية، أي الدعم المؤقت للمساعدة على التكيف مع البيئة الجديدة أو الطفرة الأولية في الإنفاق لإعادة بناء القدرات الدفاعية. وفيما يخص جميع البلدان الأخرى، ينبغي تعويض احتياجات الإنفاق الجديدة بتخفيض الإنفاق على نواحٍ أخرى أو تحقيق إيرادات جديدة.

وينبغي لنا ألا نغفل الحاجة إلى تحقيق نمو أقوى. وينبغي أن تواصل الحكومات الانخراط في تنفيذ الإصلاحات المالية والهيكلية التي تساعد على تعبئة الموارد الخاصة والحد من سوء توزيع الموارد. وينبغي لها كذلك الاستثمار في البنية التحتية الرقمية والتدريب اللازم للاستفادة من التكنولوجيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي.

وأخيرا، ينبغي أن نسأل أنفسنا لماذا أصبح نظامنا العالمي في حاجة إلى إعادة تصميم، ونعترف بأن عقودا من تعميق العلاقات التجارية حققت نموا اقتصاديا سريعا ولكنه متفاوت. وهناك تصور قوي في كثير من الاقتصادات المتقدمة بأن العولمة أفضت إلى إحلال غير عادل لكثير من الوظائف في قطاعات الصناعات التحويلية المحلية. وتنطوي هذه الشكاوى على بعض المزايا، حتى وإن كانت نسبة الوظائف في قطاع الصناعات التحويلية في الاقتصادات المتقدمة أخذت تتراجع بشكل مطرد في البلدان ذات الفوائض التجارية، مثل ألمانيا، أو ذات العجز، مثل الولايات المتحدة.

والقوة الأعمق الكامنة وراء هذا التراجع هي التقدم التكنولوجي والأتمتة، وليس العولمة، فقد ظلت حصة الصناعة التحويلية في الناتج مستقرة في كلا البلدين. وتحقق القوتان منافع في نهاية المطاف، غير أنهما يمكن أن تتسببا في اضطراب بالغ للأفراد والمجتمعات. إنها مسؤولية جماعية، أن نضمن تحقيق التوازن الصحيح بين وتيرة التقدم أو العولمة ومعالجة الاختلالات المصاحبة لها.

ويقتضي ذلك من صناع السياسات التفكير جيدا فيما هو أبعد من النظرة المتكررة لتحويل التعويضات بين "الفائزين" و"الخاسرين"، سواء كانت الثورات التكنولوجية أو العولمة. وفي هذا الصدد، لسوء الحظ لم تُبذَل جهود كافية، وهو ما يدفع كثيرين إلى تبني نظرة عالمية ذات محصلة صفرية لا تتحقق فيها مكاسب البعض إلا على حساب الآخرين. وبدلا من ذلك، من المهم تكوين فهم أفضل لهذه الأسباب الجذرية حتى نتمكن من بناء نظام تجاري أفضل يتيح مزيدا من الفرص. وهو هدف منصوص عليه في اتفاقية تأسيس الصندوق، يدعونا إلى "تيسير التوسع والنمو المتوازن في التجارة الدولية، مما يسهم في زيادة فرص العمل ورفع مستوى الدخل الحقيقي بصفة مستمرة".

فالتكامل العالمي ليس هدفا في حد ذاته. إنما هو وسيلة لتحقيق غاية، وسيلة مهمة طالما ظلت تدعم تحسين مستويات المعيشة للجميع.

https://www.imf.org/

اضف تعليق