يتحدث عدد أكبر كثيرا من المعلقين فجأة عن الركود التضخمي في الولايات المتحدة، فبسبب سلوك ترمب المتقلب العدواني، لن تقف الدول الأخرى مكتوفة الأيدي ببساطة. كما أشرت الشهر الماضي، يدرك صناع السياسات في كثير من البلدان ــ وخاصة في أوروبا، ولكن أيضا في الصين ــ أنهم يجب أن...
بقلم: جيم اونيل
لندن ــ برغم أنني لم أعد أعيش وأتنفس الأسواق على أساس يومي، فإنني لم أنسَ قَـط بعض الدروس الأساسية التي تعلمتها في وقت مبكر كخبير اقتصادي يعمل في القطاع المالي: أن تكون مخطئا أسهل كثيرا من أن تكون على صواب.
لنتأمل هنا إحدى المفاجآت الكبرى المبكرة في عام 2025. في أواخر العام الماضي، بعد فوز دونالد ترمب في الانتخابات، كان الدولار الأميركي في ارتفاع مضطرد، على نحو يعكس توقعات واسعة الانتشار بنمو اقتصادي أميركي قوي نسبيا، وحوافز مالية إضافية، وتعريفات جمركية جديدة أو أعلى بعض الشيء ومن المفترض أن تعزز الدولار بدرجة أكبر. ولكن بدلا من ذلك، شهد الدولار تراجعا حادا.
تعلمت شيئا آخر في وقت مبكر: نظرا لحجم وعمق سوق الصرف الأجنبي ــ حيث تؤثر كل المعلومات المعروفة على الأسعار بسرعة كبيرة ــ من المفيد أن تكون متشككا في الآراء الـمُـجـمَـع عليها بشكل ساحق. في كثير من الأحيان، يتبين أن بعض عناصر التوقعات الـمُـجمَـع عليها موضع شك إلى حد ما. على سبيل المثال، وجدت أنه من الغريب أن كثيرا من المتنبئين رأوا أن الرسوم الجمركية تدعم الدولار ومن غير المرجح أن تكون مُـعَـطلة بدرجة مفرطة للاقتصاد الأميركي، على الرغم من تأثيرها السلبي الصافي على المستهلكين الأميركيين.
من المعلوم أيضا أن بعض مستشاري ترمب الاقتصاديين المقربين منه تحدثوا صراحة عن الحاجة إلى أن تكون العملات الأخرى أكثر قوة. لهذا السبب كانوا يروجون لنسخة جديدة من اتفاق بلازا الشهير لعام 1985، الذي بموجبه وافقت اليابان وألمانيا على تقوية عملتيهما مقابل الدولار لاسترضاء الولايات المتحدة. والمفترض أن يحقق ما يسمى اتفاق مار-أ-لاجو الغرض ذاته.
ما يبدو واضحا في اعتقادي هو أن إدارة ترمب تركز على التصنيع الأميركي وتعريفها الخاص للقدرة التنافسية، ولا يوفر أي من الأمرين أساسا يُـذكَـر لتوقع دولار متزايد القوة. صحيح أن الحجة المضادة المعتادة تتلخص في أن التعريفات الجمركية ضرورية لأن قوة الدولار المتزايدة لا يمكن وقفها، نظرا لمزايا الاقتصاد الأميركي الفريدة "الاستثنائية". أميركا "استثنائية". فهي تتباهى بأسواق مالية سائلة عميقة، وتكنولوجيا فائقة، وهي بارزة في المسائل الأمنية ومتفوقة على أقرانها من حيث النمو الإجمالي.
إذا كان ضعف الدولار النسبي في عام 2025 مجرد تصحيح للأسعار، فمن المرجح أن تعود هذه الحجج العصرية للظهور وتدفعه إلى الارتفاع مرة أخرى. ومع ذلك، لا يخلو الأمر من عوامل دورية، وبنيوية، بل وحتى جهازية قد تجعل استمرار ضعف الدولار أكثر ترجيحا.
على الصعيد الدوري، تشير البيانات الضخمة العالية التذبذب مؤخرا إلى ضعف الاقتصاد الأميركي في الأمد القريب، حيث يتوقع متتبع الناتج المحلي الإجمالي الآن التابع لبنك الاحتياطي الفيدرالي في أتلانتا، والذي يحظى بمتابعة لصيقة، أن يكون النمو سلبيا في الربع الأول من هذا العام. بالطبع، من السابق للأوان أن نُـجزِم بما إذا كان هذا ليتحقق. ولكن في حين قد يكون ذلك مجرد تأثير زائف مؤقت أو تقني للبيانات الحالية، فإنه ليس علامة التحذير الوحيدة، حيث تثير أحدث استطلاعات الرأي للشركات وثقة المستهلك القلق أيضا.
علاوة على ذلك، أصبح حتى الناس خارج القطاع المالي أكثر انزعاجا إزاء توقعات التضخم في المستقبل. يُظهر أحدث استطلاع من جامعة ميشيجان لتوقعات التضخم لخمس سنوات (أحد المؤشرات المفضلة لديّ) ارتفاعا إلى 3.9% ــ وهو أعلى مستوى في أكثر من 30 عاما. وإذا استمر هذا الاتجاه، فاحذروا.
يزعم بعض المحللين أن هذا المؤشر لم يعد جديرا بالثقة كما كان من قبل، بسبب التغييرات في منهجية الاستطلاع والشك في أن الناخبين الديمقراطيين أكثر ميلا من الجمهوريين والمستقلين للاستجابة. لكن المحترفين من القائمين على استطلاعات الرأي يعرفون كيف يضعون مثل هذه التباينات في الحسبان، وما لم تكن الحسابات الفعلية أكثر انحيازا بشكل أو آخر لصالح الديمقراطيين، فإن هذه الحجة غير مقنعة.
على أية حال، يتحدث عدد أكبر كثيرا من المعلقين فجأة عن الركود التضخمي في الولايات المتحدة، فبسبب سلوك ترمب المتقلب العدواني، لن تقف الدول الأخرى مكتوفة الأيدي ببساطة. كما أشرت الشهر الماضي، يدرك صناع السياسات في كثير من البلدان ــ وخاصة في أوروبا، ولكن أيضا في الصين ــ أنهم يجب أن يعكفوا على إجراء تغييرات لتقليل اعتماد اقتصاداتهم على الولايات المتحدة.
كل هذه التطورات في الولايات المتحدة وعلى الصعيد العالمي ربما تفسر انخفاض الدولار مؤخرا. لكن الأمر ينطوي أيضا على مشكلة أكثر جوهرية بعيدا عما قد يكون انخفاضا "دوريا" لولا ذلك. فإذا استمر ترمب في فرض الرسوم الجمركية، فتسببت بالفعل في زيادة التضخم في الولايات المتحدة وخلق تداعيات غير مباشرة في الاقتصاد الحقيقي، فمن المرجح أن تكون قيمة توازن الدولار الأطول أمدا أقل مما كانت لتصبح عليه لولا ذلك. هذا أيضا من شأنه أن يبرر إجراء تعديل لسعر الدولار ــ وربما يكون تعديلا كبيرا، إذا استمر ترمب في إصراره على نهجه الحالي.
يقودنا هذا إلى الـبُـعد الجهازي. يدور منذ أمد بعيد جدال أكاديمي حول السبب وراء استمرار قوة الدولار طول هذه الفترة، حيث يزعم بعض المراقبين أن قيمته مرتبطة بشدة بقوة الولايات المتحدة باعتبارها ضامنا للأمن واللاعب المهيمن في مؤسسات ما بعد الحرب العالمية الثانية المتعددة الأطراف. وإذا كانت الولايات المتحدة تتخلى الآن عن هذه الأدوار، فسوف يضطر آخرون إلى الدفاع عن أنفسهم، وقد تبلغ هيمنة الدولار المطلقة منتهاها أخيرا.
اضف تعليق