الادّعاء بأن جاذبية الدولار تشكل عبئا باهظا وليس امتيازا باهظا غير مقنع، وخاصة عندما يكون أولئك الذين يسوقون مثل هذه الحجج عازفين تماما عن التخلي عن هذا العبء. الأسواق منزعجة إزاء العقاب الذي ترغب الإدارة الأميركية، المقتنعة بأن الولايات المتحدة ضحية، في إنزاله بحلفائها المقربين. وإذا كان مثل...
بقلم: راغورام ج. راجان

نيويورك ــ ذات مرة، أخبرني أحد خبراء الاقتصاد البارزين أن المناقشات المتعلقة بسياسات الاقتصاد الكلي تدور حول المحرك الرئيسي الذي تستجيب له متغيرات أخرى. وأوضح أن المعنى الضمني وراء ذلك هو أننا "قادرون على عكس وصفات السياسة ببساطة عن طريق المطالبة بمتغير قسري مختلف". تفعل هذا على وجه التحديد ورقة بحثية مقدمة من ستيفن ميران، والتي نُشِـرَت قبل تعيينه لرئاسة مجلس مستشاري الرئيس الأميركي دونالد ترمب للشؤون الاقتصادية. وبما أن وجهات نظره تعكس في الأرجح وجهات نظر الإدارة الأميركية، فمن المؤكد أنها تستدعي اهتماما وثيقا.

تتلخص وجهة النظر التقليدية حول سبب عجز الولايات المتحدة التجاري المزمن في إنفاقها المفرط، ويرجع هذا بدرجة كبيرة إلى عجزها المالي (المتغير القسري). لكن المتغير القسري الحقيقي، كما يزعم ميران، يتمثل في تعطش بقية العالم للأصول المالية الأميركية، وخاصة سندات الخزانة. فالأجانب يرغبون في الحصول على مدد لا ينتهي من سندات الخزانة الأميركية لتعظيم احتياطياتهم من العملات الأجنبية وتعزيز معاملاتهم المالية، وكان لزاما على الولايات المتحدة إدارة عجز مالي كبير لتلبية هذا الطلب الباهظ. تؤدي تدفقات رأس المال إلى الداخل نتيجة لهذا إلى الإبقاء على قوة الدولار المفرطة لتمكين المصدرين الأميركيين من المنافسة، وهذا يؤدي بدوره إلى عجز تجاري مستمر.

هذه الحجة غير مقنعة لعدة أسباب. أولا، لنضع في اعتبارنا عنصر التوقيت. بدأت الولايات المتحدة تعاني من عجز تجاري ثابت في منتصف سبعينيات القرن العشرين. وبدأت تدير عجزا ماليا ثابتا في الوقت ذاته تقريبا، باستثناء أواخر التسعينيات، عندما سجلت ضرائب الأرباح الرأسمالية والاستهلاك الخاص ارتفاعا شديدا بسبب طفرة الدوت كوم، الأمر الذي أدى بشكل مؤقت إلى تحويل مركز الإنفاق الأميركي المفرط من الحكومة إلى الأُسَـر.

في حين ظل الأجانب يشترون الأصول المالية الأميركية لفترة طويلة، وكانت الكيانات الأمريكية تَـرُد المجاملة، فإن التأثير "القسري" المترتب على تكديس الدولار من قبل بنوك مركزية أجنبية لم يبدأ فعليا إلا بعد الأزمة المالية الآسيوية في عام 1997، عندما عملت اقتصادات شرق آسيا، بعد أن أرهقتها الشروط القاسية التي فرضها عليها صندوق النقد الدولي، على بناء احتياطيات للحماية من توقف التمويل على نحو مفاجئ. ومرة أخرى، التوقيت غير مناسب.

علاوة على ذلك، لا تدير الولايات المتحدة عجزا تجاريا موحدا. بل إنها تعاني من عجز تجاري في السلع وفائض صاف في الخدمات (ما يقرب من 300 مليار دولار في عام 2024). عندما يواجه الاقتصاديون مثل هذا النمط، فإنهم يرون كيف تعمل الميزة النسبية التقليدية، وهذا يعود بالفائدة على الولايات المتحدة. تجني شركة أبل (Apple) هوامش ربح كبيرة من بيع جهاز آيفون (iPhone) المصمم بشكل ممتاز (ومحتواه البرمجي) للعالم، بينما تحصل شركة فوكسكون (Foxconn) على هوامش ربح ضئيلة من تصنيع أجهزة آيفون في الصين والهند. وبرغم أن الأرقام التجارية الإجمالية قد تعكس عجزا كبيرا، فإن الولايات المتحدة أبعد ما تكون عن كونها ضحية.

تتمثل مشكلة أخرى في حقيقة مفادها أن أي طلب زائد على سندات الخزانة الأميركية من بقية العالم يجب أن يظهر في علاوة فائضة ضخمة على السندات الأمريكية. مع ذلك، يشكو ميران من أن أسعار الفائدة على السندات الأميركية لا تعكس مثل هذه العلاوة، فيعود هذا على الولايات المتحدة بفائدة ضئيلة من إنتاج الأصول المالية المطلوبة بدرجة عالية. وهذا يبدو غريبا. فلماذا قد يؤدي مثل هذا الطلب إلى دعم الدولار في حين لا يدفع أسعار الفائدة على السندات الأميركية إلى الانخفاض؟

التفسير الأبسط هو أن الكونجرس الأمريكي ينفق كما يشاء، معتمدا على إقبال بقية العالم على شراء سندات الخزانة لتمويل ما لا تستطيع الإيرادات المحلية تغطيته. هل حدث من قَـبل قَـط أن قال أي عضو في الكونجرس إن الولايات المتحدة يجب أن تدير عجزا لتلبية حاجة العالم لسندات الخزانة؟ إذا كان الطلب الزائد على الأصول المالية الأمريكية يمثل مشكلة حقيقية، فبوسع الكونجرس الأمريكي أن يدير ببساطة عجزا أقل، ويجعل الأجانب يتدافعون لشراء الإصدار الأصغر من سندات الخزانة، وبالتالي يتمكن من تنظيم أسعار فائدة أميركية أقل (وإنتاج أميركي أعلى).

علاوة على ذلك، إذا كان إنشاء أصول احتياطية يمثل عبئا باهظا إلى هذا الحد، فلماذا لا نسمح لبلدان أخرى بتحمله؟ بعيدا عن التفكير في هذا الاحتمال، هَـدّد ترمب مؤخرا مجموعة البريكس التي تضم اقتصادات ناشئة كبرى لمجرد تجرؤها على التفكير في ترتيبات دفع منفصلة بغير الدولار. وعلى الرغم من اعترافه بأن الولايات المتحدة تحتاج بالفعل إلى أموال أجنبية لتمويل عجزها المالي (ربما يكون هذا اعترافا ضمنيا بأن العجز المالي هو بالفعل المتغير القسري الأساسي)، يقترح ميران سببا آخر لحمل الأجانب على شراء أصول الولايات المتحدة المالية واستخدام نظامها المالي: القيام بذلك يعطي الولايات المتحدة مزيدا من الطرق لمعاقبة الدول الأجنبية التي تخرج عن الخط، وهذا يشمل على نحو مزعج فرض ضريبة انتقائية على مدفوعات فوائد الخزانة.

إذا كانت الولايات المتحدة غير راغبة في التخلي عن أعبائها الباهظة، فهل من الممكن أن تساعد الرسوم الجمركية على الواردات المصنعين الأميركيين على التغلب على الدولار المبالَغ في تقدير قيمته؟ كما يشير ميران، فإن التعريفات الجمركية سَـيُـعَـوَّض عنها جزئيا من جانب الدولار الأقوى، كما كانت الحال في الفترة 2018-2019، عندما فرضت الولايات المتحدة تعريفات شاملة على الصين. لكن الدولار الأقوى سيضر بالصادرات الأميركية، وإذا لم تتغير أسعار المنتجات المستوردة بالدولار كثيرا، فمن الصعب أن نرى كيف قد يصبح المصنعون الأميركيون أكثر قدرة على المنافسة.

على هذا، يضع ميران نصب عينيه خفضا منضبطا لقيمة الدولار، مدعوما بتدخلات من جانب البنوك المركزية غير الأميركية التي "ستقتنع" تحت تهديد الرسوم الجمركية أو سحب الدعم الدفاعي الأميركي. ولكن حتى لو كانت مثل هذه التدخلات فعّالة، فسوف يكون لزاما على البنوك المركزية الأجنبية بيع سندات الخزانة الأمرييكة وشراء السندات المحلية، وهذا كفيل بزيادة صعوبة تمويل العجز المالي الأميركي.

الواقع أن ميران يستحق الإشادة لمحاولته تفسير سبب انقلاب الولايات المتحدة على النظام الذي بنته. من المؤكد أن العجز المالي الأميركي ليس المتغير القسري الوحيد. إذ يساهم نقص الاستهلاك الصيني أيضا في الاختلالات التجارية العالمية. علاوة على ذلك، تفرض الولايات المتحدة تعريفات جمركية أقل من بعض شركائها التجاريين، وبعض هؤلاء الشركاء يقدمون إعانات الدعم للأعمال التجارية بدرجة أكبر مقارنة بالولايات المتحدة، وقد أظـهـر بعض منهم قدرا ضئيلا من الاحترام لحقوق الملكية الفكرية. ولكن من الأفضل معالجة هذه القضايا من خلال المفاوضات (ربما بدعم من تهديدات ضمنية).

ليس من الواضح إلى أين من المفترض أن يؤدي مسار "الصدمة والرعب" الذي تسلكه إدارة ترمب حاليا. إن الادّعاء بأن جاذبية الدولار تشكل عبئا باهظا وليس امتيازا باهظا غير مقنع، وخاصة عندما يكون أولئك الذين يسوقون مثل هذه الحجج عازفين تماما عن التخلي عن هذا العبء. الأسواق منزعجة إزاء العقاب الذي ترغب الإدارة الأميركية، المقتنعة بأن الولايات المتحدة ضحية، في إنزاله بحلفائها المقربين. وإذا كان مثل هذا السلوك يقلل من جاذبية الدولار، فربما يتحول بالفعل إلى عبء باهظ. لكن هذا ليس المستقبل الذي ينبغي لأي أميركي أن يرغب فيه.

* راغورام ج. راجان، محافظ سابق لبنك الاحتياطي الهندي وكبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، وهو أستاذ المالية في كلية بوث لإدارة الأعمال بجامعة شيكاغو والمؤلف المشارك (مع روهيت لامبا) لكتاب "كسر القالب": طريق الهند غير المطروق نحو الازدهار

https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق