اعتماد الاقتصاد العراقي على الدولار النفطي يعني سهولة التحكم به من قبل الولايات المتحدة لمعاقبة خصومها الاقليميين والدوليين سواء ايران، كما اوضح ذلك ترامب في تصريحاته الاخيرة بخصوص منع استيراد الكهرباء والغاز من ايران؛ او روسيا او غيرهم. كذلك سهولة التحكم به من قبل الشركاء التجاريين الذين يعتمد...

في الوقت الذي يمتلك العراق الكثير من الموارد التي تؤهله لبناء اقتصاداً قوياً الا انه لايزال يعاني من سرعة الاستجابة لأي أزمة داخلية أو خارجية وذلك بحكم الهشاشة الاقتصادية.

بمعنى ان هشاشة الاقتصاد العراقي هي التي تستقبل الازمات وتساعد على استفحالها وليس الازمات هي من تتسبب هشاشة الاقتصاد العراقي، من حيث اولوية التشخيص.

هذا ما يدفعنا للبحث عن المشاكل المتأصلة التي تجعل الاقتصاد العراقي هشا وغير قابل للصمود أمام الازمات الداخلية والخارجية على حدٍ سواء، بل وسريع الاستجابة لها.

يمكن القول، هناك مجموعة العديد من المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد العراقي، لكن هناك مشاكل متأصلة وأخرى متوالدة؛ كالفساد مثلاً؛ مما ينبغي التركيز على الاولى لتختفي الثانية تلقائياً، فما هي المشاكل المتأصلة؟ وماهي تمظهراتها؟

تتمثل المشاكل المتأصلة في ثلاثة وهي:

اولاً: النظام الاقتصادي

بمعنى ان معالم النظام الاقتصادي في العراق غير واضحة على ارض الواقع، فعلى الرغم من تحول العراق من نظام التخطيط المركزي الى اقتصاد السوق إلا انه لازال يعاني من الفوضى الاقتصادية.

حيث انسحبت الدولة من النشاط الاقتصادي من ناحية إلا إنها لم تفتح الباب بشكل رحب أمام القطاع الخاص من ناحية ثانية، فظل الاقتصاد العراقي متعثر الاداء.

لانه من المفترض في ظل التحول الاقتصادي ان تتحقق امور عديدة منها:

الاول، انخفاض حجم الموازنة 

في حين ارتفع حجم الموازنة من 50 تريليون دينار عام 2006 الى اكثر من 198 تريليون دينار عام 2023.

الثاني، غياب او انخفاض العجز 

في حين ارتفع العجز المالي من 5 تريليون دينار عام 2006 الى 64 تريليون عام 2023.

الثالث، انخفاض التوظيف الحكومي

بينما ارتفع التوظيف الحكومي من 1900 الف موظف عام 2006 الى 4 ملايين موظف عام 2023

الرابع، ملكية عناصر الانتاج وأهمها الارض والمال

أي أن تكون النسبة الأكبر من عناصر الانتاج بيد القطاع الخاص(افراد وشركات) لا الدولة، بينما الواقع هو العكس.

ثانياً: الثقافة الاقتصادية

بمعنى ان المجتمع العراقي يفضل الدولة والقطاع العام على قيادة الاقتصاد من القطاع الخاص وذلك بحكم استمرار الدولة والريع النفطي لمدة طويلة مما أسهم في تغذية المجتمع دون ان يكون له مسؤولية مباشرة، هذا ما ادى الى الغاء ثقافة العمل الحر بعيداً عن الدولة.

ما عقّد الأمر أكثر، هو سوء ادارة التحول المزدوج عام 2003 وبالخصوص التحول الاقتصادي، حيث لم يتم العمل على بناء ثقافة اجتماعية تنسجم والتوجه الجديد، بل تم تطبيقه بشكل مباشر لا تدريجي، وهذا ما دفع بالمجتمع على عدم تقبله وعدم التفاعل معه.

لذلك ثقافة القطاع العام تمثل مشكلة متأصلة تقف كعائق أمام تحول الاقتصاد العراقي مما تسبب في تعثر اداءه.

ثالثاً: ضعف المؤسساتية

اتجه العراق نحو المؤسساتية بعد 2003 إلا انها لازالت شكلية وغير قادرة على اخذ دورها بشكل حقيقي، مما اثرت بشكل كبير على اداء الاقتصاد العراقي.

حيث تعد المؤسساتية في العراق حديثة العهد، أي تفتقد لمسيرة تاريخية طويلة من الاداء المؤسسي نظراً لاستمرار الحكم الاستبدادي في الامد القريب والمشاكل والانقلابات في الامد المتوسط والاحتلال الخارجي في الامد البعيد.

ان وجود مؤسسات قوية قادرة على القيام بوظائفها وتحقيق اهدافها بشكل مستقل بعيداً عن اي تقاطعات فيما بينها وترفض أي تدخل في عملها سواء من الداخل او الخارج، تكون كفيلة بتحسين اداء الاقتصاد وتجنب أو امتصاص الارتدادات سواء كانت داخلية أم خارجية.

وبما ان المؤسساتية في العراق لازالت حديثة النشأة من حيث الاداء المؤسسي وليس الوجود المؤسسي؛ الى جانب التأثير السياسي والاجتماعي، فهي مشكلة حقيقية لايمكن تجاوزها. 

لان عدم وجود مؤسسات قوية يعني عدم القدرة على تشريع القوانين الاقتصادية، وعدم القدرة على حماية ثروات المواطنين، وعدم القدرة على ارجاع الحقوق بشكل عام والاقتصادية بشكل خاص وعدم القدرة على كشف الفساد ومحاربته.

بعبارة اخرى، النظام يمثل القاعدة التي يسير عليها الاقتصاد.. قواعد اللعبة.

الثقافة تمثل نظرة المجتمع للاقتصاد وطبيعة تفاعلهم داخل النظام.

المؤسسات تمثل الحكم الذي يرعى ضبط ايقاع التفاعل الاقتصادي داخل النظام.

مظاهر المشاكل المتأصلة 

تمظهرت المشاكل المتأصلة أعلاه في اختلال بنية الهياكل الاقتصادية وكما هي أدناه:

- اختلال الهيكل الانتاجي، وذلك بحكم هيمنة القاع النفطي على الناتج المحلي الاجمالي قبل وبعد 2003 مقابل تواضع مساهمة القطاعات الانتاجية فيه.

- اختلال الهيكل المالي، وذلك بحكم ارتفاع النفقات العامة مقابل تواضع الايرادات العامة، نظراً لتدخل الدولة في الاقتصاد.

- اختلال الهيكلي التجاري، استمرار تنوع الاستيرادات السلعية من العالم الخارجي مقابل استمرار تركز الصادرات السلعية للعالم الخارجي.

- اختلال الهيكل النقدي، حيث نلاحظ هناك فرق بين السعر الرسمي والسعر الموازي لسعر الدولار، علماً ان كلا السعرين غير حقيقيين ولا يعبران عن حقيقة الاقتصاد بفعل الدعم الاقتصادي.

- اختلال هيكل العمل، حيث ان الطلب على الوظائف الحكومية أكبر من الطلب على العمل في القطاع الخاص.

الارتدادات المتكررة

نظراً للهشاشة الاقتصادية التي اتضحت من خلال مظاهر المشاكل المتأصلة، أصبح الاقتصاد العراقي معتمد على النفط ومرتبط من خلال الاخير بالعالم الخارجي، وان أي ما يطرأ على النفط داخلياً او خارجياً؛ ينسحب بسرعة تلقائياً على الناتج والمالية والتجارة والنقد والعمل.

ان اعتماد الاقتصاد العراقي على الدولار النفطي يعني سهولة التحكم به من قبل الولايات المتحدة لمعاقبة خصومها الاقليميين والدوليين سواء ايران، كما اوضح ذلك ترامب في تصريحاته الاخيرة بخصوص منع استيراد الكهرباء والغاز من ايران؛ او روسيا او غيرهم.

كذلك سهولة التحكم به من قبل الشركاء التجاريين الذين يعتمد عليهم في تلبية طلبه المحلي، وهذا حصل أكثر من مرة حين تمنع الكهرباء او امدادات الغاز الطبيعي للعراق من ايران سواء بقصد او بغير قصد.

الخلاصة،

 المشاكل المتأصلة أسهمت في استمرار اختلال بنية الهياكل الاقتصادية مما جعل العراق يعاني من الهشاشة الاقتصادية ويتأثر سريعاً بالأزمات.

مما يتطلب العمل على معالجة المشاكل المتأصلة نظامياً وثقافياً ومؤسساتياً، وهذا سينعكس في تصحيح الاختلالات الاقتصادية وتحسين المناعة الاقتصادية ويكون أكثر قدرة على الصمود في مواجهة الأزمات.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2025

www.fcdrs.com

اضف تعليق