لو أن تكنولوجيا المعلومات تسببت بالفعل في زيادة التركز، مع ما لها من عواقب سلبية على نمو الإنتاجية، فإن أي زيادة في القوة السوقية سوف تضر بالمستهلكين، ليس فقط من خلال ارتفاع الأسعار، بل من خلال تباطؤ الابتكار والنمو أيضا. ولا شك أن هذا سيزيد الرهان على قانون التنافس...
بقلم: مايكل بيترز
تباطؤ نمو الإنتاجية في أكبر اقتصاد في العالم يهدد بتردد أصدائه في جميع أنحاء العالم
تبدو الشركات القائمة الكبيرة محصنة أكثر فأكثر من المنافسة
يعاني الاقتصاد الأمريكي من مشكلة بتريليونات الدولارات. إنها مشكلة التباطؤ الكبير في نمو الإنتاجية على مدار العقدين الماضيين. ففي الفترة بين عامي 1947 و2005، حققت إنتاجية العمالة في الولايات المتحدة نموا بمعدل سنوي قدره 2,3% في المتوسط. ولكن هذا المعدل انخفض بعد عام 2005 إلى 1,3%. غير أن مثل هذه الفروق التي تبدو ضئيلة لها عواقب كبيرة بدرجة مثيرة للدهشة: فقد أفاد مكتب إحصاءات العمل الأمريكي بأنه لو استمرت زيادة الناتج الاقتصادي لكل ساعة عمل بنسبة 2,3% بين عامي 2005 و2018 لكان بوسع الاقتصاد الأمريكي أن يحقق زيادة في إنتاج السلع والخدمات بقيمة قدرها 11 تريليون دولار مقارنة بالإنتاج الفعلي.
وهذا النمط جزء من الاتجاه العام واسع النطاق عبر الاقتصادات المتقدمة. فنمو الإنتاجية في أوروبا لا يزال أكثر بطئا مقارنة بالولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، تراجعت أوروبا بدرجة ملحوظة عن اللحاق بركب الولايات المتحدة من حيث متوسط نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي. فالإنتاجية محرك رئيسي لتوسع النشاط الاقتصادي، ويهدد أداؤها الضعيف في أكبر اقتصاد في العالم بانتقال تبعاته المتتالية إلى جميع أنحاء العالم وإلى الاقتصادات النامية، حيث يمثل النمو العامل الرئيسي لانتشال ملايين البشر من براثن الفقر.
فما السبب في هذا التوقف العنيد في نمو الإنتاجية في الولايات المتحدة والاقتصادات المتقدمة الأخرى؟
تشير البحوث إلى اثنين من التطورات: أولهما أن سرعة استخدام تكنولوجيا المعلومات المتقدمة ساعدت منشآت الأعمال الكبيرة القائمة على حساب الشركات البادئة الأصغر. والتطور الآخر هو تراجع النمو السكاني وتغير الخصائص الديمغرافية، مما خفض سرعة تكوين منشآت الأعمال الجديدة. وأدى هذان العاملان معا إلى تراجع وتيرة الهدم الخلاق، وهو أحد عناصر الابتكار المهمة حسب تعريف الاقتصادي جوزيف شومبيتر في أوائل القرن العشرين. وترتب على ذلك استنزاف الديناميكية من الاقتصاد الأمريكي.
وهناك مقياسان رئيسيان لنمو الإنتاجية يرتبط كلاهما بالآخر ارتباطا وثيقا. الأول هو إنتاجية العمالة، أو الحساب البسيط للناتج الحقيقي لكل ساعة عمل. والثاني هو الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج، التي تأخذ في الاعتبار كذلك التغيرات في كثافة استخدام رأس المال واستغلال الطاقة الإنتاجية.
وقد تطورت إنتاجية العمالة والإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج على نحو متزامن منذ أربعينات القرن الماضي (راجع الرسم البياني 1). فتباطأت مكاسب إنتاجية العمالة من نطاق يتراوح بين 3% و3,5% سنويا في الستينات والسبعينات إلى حوالي 2% في الثمانينات. وفي أواخر التسعينات من القرن الماضي وأوائل العقد الأول من القرن الحالي شهد الاقتصاد الأمريكي طفرة كبيرة لكنها مؤقتة في الإنتاجية حيث انتعش نمو الإنتاجية ليصل إلى 3%. ومنذ عام 2003 تقريبا أصبحت مكاسب الإنتاجية باهتة، حيث تباطأت إنتاجية العمالة إلى معدل نمو متوسط أقل من 1,5% خلال العقد الذي أعقب "الركود الكبير". وقد أثرت الصدمات الاقتصادية الأخيرة، مثل جائحة كوفيد-19 وتزايد أسعار الطاقة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، تأثيرا ملحوظا على ديناميكية التوظيف والتضخم. غير أن نمو الإنتاجية لم يتأثر نسبيا وظل منخفضا. وتمثل التغيرات في الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج انعكاسا دقيقا لتقلبات نمو إنتاجية العمالة. وبينما يتجاوز نمو إنتاجية العمالة دائما نمو الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج بسبب زيادات كثافة استخدام رأس المال، فإن انخفاض نمو الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج يقود التراجع في مكاسب إنتاجية العمالة.
لتفهم أسباب هذا التباطؤ الاقتصادي
وهناك أهمية بالغة لتفهم أسباب هذا التباطؤ الاقتصادي لما فيه من مصلحة اقتصادية كبيرة، وهو أمر حيوي أيضا لتحديد ما إذا كانت الحكومات والبنوك المركزية لديها أدوات السياسات الفعالة لمعالجة هذه المسألة أو إذا كان يتعين عليها التأهب لفترة مطولة من النمو المنخفض.
الهدم الخلاق
تشير دراسة بحثية أجريت مؤخرا إلى أن التغيرات التي طرأت على عملية الهدم الخلاق وإعادة توزيع الموارد بين مختلف منشآت الأعمال ربما تحمل في طياتها التفسير اللازم لتفهم طبيعة تباطؤ الإنتاجية. ونظرا لأن مجموع الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج يعكس وضع التكنولوجيا وكفاءة توزيع الموارد في الاقتصاد، فمن البديهي أن تنخفض الإنتاجية الكلية بسبب عدم كفاءة التكنولوجيا التي تستخدمها المؤسسات أو لأن بعض منشآت الأعمال ربما تحظى بالتقنيات الإنتاجية، ولكن قصور السوق يحول دون إحلالها محل المؤسسات المنافسة الأقل كفاءة. فنمو الإنتاجية يمكن أن يتحقق نتيجة ظهور تكنولوجيات جديدة وأفضل أو نتيجة إعادة توزيع الموارد من الشركات غير المنتجة إلى الشركات المنتجة.
وهناك أدلة متزايدة في الوقت الحالي على أن الاقتصاد الأمريكي لا يتمتع بنفس القدر من الديناميكية كسابق عهده. ويعد تكوين منشآت أعمال جديدة من أهم جوانب ديناميكية الأعمال، وهو ما يقاس غالبا بمعدل دخول الأعمال الجديدة، أو بنسبة المؤسسات التي بدأت العمل في سنة معينة. وقد انخفض معدل الدخول من 13% في عام 1980 إلى 8% في عام 2018، وفقا لبيانات "مكتب التعداد الأمريكي". كذلك، ازداد حجم منشآت الأعمال الأمريكية بدرجة كبيرة، مع ارتفاع متوسط عدد الموظفين من 20 في عام 1980 إلى 24 في عام 2018. ومن ثم، نجد أن الشركات الأقدم والأكبر تمثل حصة أكبر كثيرا في النشاط الاقتصادي مقارنة بحصتها في السابق. وتشير هذه الاتجاهات العامة إلى تراجع الديناميكية بصورة ملحوظة في الاقتصاد الأمريكي على مدار أربعة عقود تقريبا.
ويثير هذا الأمر تساؤلين بالغي الأهمية: أولا، لماذا يرتبط تراجع ديناميكية الأعمال بتباطؤ نمو الإنتاجية؟ وثانيا، ما هي العوامل الأساسية التي تقود هذه الاتجاهات العامة؟
الأسباب المباشرة
تحتل الرابطة بين الإحلال الإنتاجي المستمر (productive churn) وإعادة التوزيع بين منشآت الأعمال والنمو الكلي موضع الصدارة في مفهوم الهدم الخلاق عند شومبيتر حيث تقوم المؤسسات الجديدة بتطوير تكنولوجيات مبتكرة بهدف إزاحة المنتجين القائمين والحصول على حصتهم السوقية. ومن ثم فإن نمو الإنتاجية الكلية وعلامات ديناميكية الأعمال، مثل نسبة مغادرة الوظائف ودوران العمالة على مستوى الشركات، هما وجهان لعملة واحدة.
ومن هذا المنظور، فإن تباطؤ تكوين منشآت الأعمال الجديدة وتوسع دور الشركات الأكبر والأقدم هما بالضبط ما يمكن توقعه في أوقات نمو الإنتاجية المنخفض. فانخفاض معدل الدخول هو دلالة على احتمال تباطؤ وصول التكنولوجيات الجديدة. ونظرا لأن الداخلين الجدد هم بالتأكيد أصغر سنا، وأصغر حجما، في المتوسط، من منشآت الأعمال القائمة، فإن أي تراجع في معدل الدخول من الطبيعي أن يؤدي إلى حدوث زيادة في حجم الأعمال وارتفاع في درجة التركز.
وهناك مجموعة كبيرة ومتزايدة من البحوث تقدم أدلة إضافية على ذلك. أولا، هناك أدلة على أن ارتفاع تركز الشركات يتزامن مع توسع القوة السوقية. فقد ارتفع متوسط نسبة الربح المضافة إلى التكلفة في الشركات الأمريكية المطروحة للاكتتاب العام من 20% في عام 1980 إلى 60% في الوقت الحالي. ومن ثم تبدو الشركات القائمة الكبيرة محصنة أكثر فأكثر من المنافسة، مما يسمح لها برفع الأسعار وتوسيع هامش ربحيتها.
وتوضح مجموعة ثانية من البحوث الجانب الآخر لتزايد القوة السوقية للشركات، وهو تزايد ضعف مركز العمالة التفاوضي. فمنذ عام 1980، انخفضت حصة العمل في الاقتصاد الأمريكي بحوالي 5 نقاط مئوية. وكان الهبوط أسرع في الصناعات التي شهدت ازدياد التركز، حيث حققت الشركات المرموقة الكبيرة مثل: غوغل، أبل، أمازون، وولمارت، أكبر قدر من النمو - وفقا للمعلومات الموثقة في دراسة ديفيد أوتور من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وشركائه في العمل البحثي.
ثالثا، هناك تراجع مطرد في إعادة توزيع الموارد بين منشآت الأعمال منذ ثمانينات القرن الماضي، وفقا لما يتضح في سلسلة من الدراسات التي أعدها جون هالتيوانغر وباحثون آخرون. وهذا يعني أن عملية انتقال العمالة من منشآت الأعمال المتراجعة إلى المؤسسات المتوسعة ليست بنفس السلاسة والديناميكية التي كانت عليها من قبل.
وتتسق هذه الأنماط مع وجهة النظر بتراجع عملية الهدم الخلاق وانخفاض ديناميكية الأعمال ونمو الإنتاجية الكلية نتيجة لذلك. فإذا واجهت منشآت الأعمال القائمة منافسة أقل من الداخلين الجدد ستكون أمامها فرصة أسهل لبناء مركز مهيمن في السوق. وسوف يتيح لها ذلك زيادة نسبة أرباحها المضافة إلى التكلفة، وهامش أرباحها، و(في نهاية المطاف) تقييم الشركات. ونظرا لأن ارتفاع الأرباح يخفض حصة الناتج المدفوعة للعمالة، فسوف يترتب على ذلك حدوث انكماش في حصة العمل في الاقتصاد، وخاصة في الصناعات الأكثر تركزا.
الأسباب الأساسية
حتى لو اقتنع المرء بأن تباطؤ الإنتاجية والتراجع في ديناميكية الأعمال مدفوعان بانخفاض وتيرة الهدم الخلاق، فإن السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هو لماذا؟ والإجابة عن هذا السؤال تشكل أهمية خاصة بالنسبة لصناع السياسات الذين يبحثون عن إشارات تفيد بما يمكنهم فعله لتحويل مسار هذه الاتجاهات العامة.
وفي هذا الشأن نظر الباحثون في أربعة تفسيرات عامة:
- بدء عصر تكنولوجيا المعلومات وما ترتب عليه من وفورات الحجم
- التغيرات في عملية نشر المعرفة
- الخصائص الديمغرافية وتراجع النمو السكاني
- التغيرات في السياسات، مثل التكاليف التنظيمية لدخول الأعمال الجديدة أو الحوافز الضريبية للبحوث والتطوير
ورغم أن هذه التفسيرات ليست أحداثا متعاقبة الوقوع - والأرجح أنها جميعا لها أهميتها النسبية في الواقع العملي - فمن المفيد مناقشتها بصفة مستقلة.
تكنولوجيا المعلومات ووفورات الحجم:
في سياق مناقشة ديناميكية الإنتاجية في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، فإن بدء عصر تكنولوجيا المعلومات هو الحدث الكبير الذي يتحاشى الجميع مناقشته. فهل من الممكن أن يكون توافر مثل هذه التكنولوجيات قد تسبب في تراجع الديناميكية وفي طبيعة نمو الإنتاجية التي اتسمت بدورات الانتعاش والكساد؟ وتذهب دراستان صدرتا مؤخرا إلى أن الإجابة هي "نعم" وأن وفورات الحجم لها دور مهم في هذا الشأن. وتفترض دراسة الاقتصادي الفرنسي "فيليب أغيون" وزملائه البحثيين (2003) أن تكنولوجيا المعلومات المتقدمة تسهل الأمر على منشآت الأعمال لتكثيف عملياتها عبر العديد من أسواق المنتجات. وتذهب دراسة الاقتصادي مارتن دي ريدر من كلية لندن لعلوم الاقتصاد (2024) إلى أن تكنولوجيا المعلومات تسمح للمؤسسات بخفض التكلفة الحدية لإنتاجها على حساب زيادة التكلفة الثابتة.
والعامل المشترك في هذين التفسيرين هو أن اعتماد مثل هذه التكنولوجيات يشكل قيمة عالية على وجه الخصوص للشركات ذات الإنتاجية العالية. وهذا يعني أن مثل تلك الأعمال أفادت من تطورات تكنولوجيا المعلومات في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، وأن الاقتصاد شهد طفرة أولية في الإنتاجية. ومما يثير المزيد من الدهشة أن الباحثين يرون أن وجود هذه المؤسسات العملاقة قد يكون له تكلفة ديناميكية على المدى الطويل. فإذا كانت الأعمال الجديدة (مثل شركة بادئة جديدة في مجال تكنولوجيا المعلومات) تتوقع أنها ستواجه صعوبات في منافستها للمؤسسات القائمة التي تنتج على نطاق واسع (مثل أمازون أو مايكروسوفت أو غوغل)، فسوف تنكمش حوافزها لدخول السوق. ونتيجة لذلك، قد يتراجع النمو الكلي وتنخفض وتيرة الهدم الخلاق، وتستفيد الشركات القائمة من هذا الوضع عن طريق رفع نسبة الربح المضافة إلى التكلفة.
التغيرات في نشر المعرفة:
هناك مسار بحثي مستقل يفيد بحدوث تغيرات في عملية نشر المعرفة بعدة طرق أساسية. وعلى وجه الخصوص، حسبما تذهب إليه هذه البحوث، فإن الشركات المتأخرة عن اللحاق بالركب التكنولوجي في العقود الأخيرة واجهت صعوبات أكبر في اعتماد تكنولوجيا الشركات المنافسة عند أقصى حدود الإنتاجية. وقد يكون لهذا التغير طابع تكنولوجي، فربما تكون الشركات مثل غوغل أو أبل قد بلغت مستويات متقدمة من التكنولوجيا لدرجة يستحيل ببساطة اعتمادها في الشركات الأصغر المنافِسة. وفي الوقت نفسه، قد تكون له أيضا أصول قانونية، نظرا لأن المؤسسات الكبيرة يتزايد انخراطها في تجميع براءات اختراع دفاعية لحماية ريادتها التكنولوجية عن طريق إنشاء حشد متداخل من براءات الاختراع. وتماشيا مع هذه الفرضية، فإن دراسة (Ufuk Akcigit and Sina Ates 2023) توثق حدوث ارتفاع كبير في تركز براءات الاختراع بين الشركات المرموقة وتشير في تقديراتها إلى أن التغيرات في مدى اعتماد التكنولوجيا يمكن أن تفسر أسباب تراجع الديناميكية، وتمتع المؤسسات القائمة بريع اقتصادي غير تنافسي، وهبوط نمو الإنتاجية.
تباطؤ النمو السكاني:
وبينما يلاحظ أن تلك التفسيرات تربط التغيرات في الهدم الخلاق وتباطؤ نمو الإنتاجية بالتغيرات في البيئة التكنولوجية على نحو وثيق، فإن بعض الدراسات الأخيرة تقترح تفسيرا مختلفا كل الاختلاف. ويذهب هؤلاء الباحثون إلى أن التباطؤ في مكاسب الإنتاجية والتراجع في الديناميكية على السواء يعكسان تراجع النمو السكاني في الولايات المتحدة.
فقد انخفض معدل النمو السكاني في الولايات المتحدة منذ ستينات القرن الماضي وبلغ أدنى مستوى بالمعايير التاريخية في السنوات الأخيرة. وتعد فرضية انخفاض نمو الإنتاجية نتيجة انخفاض النمو السكاني السمة المميزة لمعظم نظريات التوسع الاقتصادي. وقد أوضحت أنا وزميلي كونور وولش في عام 2021 أن تباطؤ النمو السكاني يخفض أيضا وتيرة الهدم الخلاق وديناميكية الأعمال بالتسبب في انخفاض معدل دخول الأعمال الجديدة. وقد جمع باحثون آخرون أدلة تجريبية مباشرة على العلاقة بين النمو السكاني ومعدل تكوين منشآت الأعمال الجديدة وما ينتج عنهما من ديناميكية الأعمال.
تغيرات السياسات:
وختاما، قد يتبادر إلى الأذهان أن كثيرا من التغيرات في السياسات يحتمل أن تكون وراء التراجع في تكوين منشآت الأعمال وبالتالي تراجع وتيرة النمو والهدم الخلاق والديناميكية. ومن الأمثلة عن ذلك التغيرات في التنظيم، مثل متطلبات الترخيص؛ وإعانات دعم البحث والتطوير التي تعود بالنفع على المؤسسات القائمة وليس الداخلين الجدد المحتملين؛ والتغيرات في ضرائب الشركات.
ورغم أن مثل تلك السياسات قد تبدو مهمة لصناعات معينة، فلا يرجح على ما يبدو أن يكون لها مبرر كبير على المستوى المجمل. فالبحوث الأخيرة توضح أن التغيرات الملحوظة في مثل تلك السياسات لا يمكن أن تعبر بالمعايير الكمية عن تباطؤ الإنتاجية وتراجع الديناميكية. والأهم من ذلك، أن ظاهرتي تباطؤ الإنتاجية وتراجع الديناميكية لا تقتصران على الولايات المتحدة؛ فقد حدثتا أيضا بدرجات متباينة في معظم الاقتصادات المتقدمة.
شفرة أوكام (Occam's razor)
مبدأ "شفرة أوكام" الذي يعود إلى القرن الرابع عشر -ويقضي بأن التفسير الأبسط هو الأرجح- يشير إلى ضرورة التركيز على التغيرات التي طرأت على المستوى العالمي بدلا من تغيرات السياسات ذات الصلة خصيصا بالولايات المتحدة. فتطور تكنولوجيا المعلومات المتقدمة والتراجع في النمو السكاني هما تفسيران ملائمان تماما في هذه الحالة والأرجح أن يكونا قد ساهما بدور مهم في هبوط ديناميكية الأعمال وتباطؤ نمو الإنتاجية.
وتبرز هذه التطورات كذلك إمكانات سياسات معينة لمكافحة تلك الاتجاهات العامة. وفيما يتعلق بالتغيرات في الخصائص الديمغرافية، فإن صناع السياسات حول العالم يدركون تماما حقيقة تزايد تكاليف شيخوخة السكان. وبينما تتركز المناقشات حول هذا الأمر غالبا على المشاغل المتعلقة بالاستدامة المالية، فإن العواقب الاقتصادية يمكن أن تصبح أكثر فداحة بكثير إذا أدى تراجع النمو السكاني بالفعل إلى تراجع نمو الإنتاجية. ونظرا للنجاح المحدود الذي حققته السياسات الرامية إلى وقف تراجع الخصوبة، فمن المرجح أن تكون رافعة السياسات الأساسية المتاحة في الأجل القصير إلى المتوسط هي سياسة الهجرة.
وفي المقابل، نجد أن خيارات السياسات المرتبطة بتداعيات طفرة تكنولوجيا المعلومات هي الأكثر وضوحا ويذهب الاعتقاد إلى أنها مرتبطة مباشرة بإنفاذ إجراءات مكافحة الاحتكار. فلو أن تكنولوجيا المعلومات تسببت بالفعل في زيادة التركز، مع ما لها من عواقب سلبية على نمو الإنتاجية، فإن أي زيادة في القوة السوقية سوف تضر بالمستهلكين، ليس فقط من خلال ارتفاع الأسعار، بل من خلال تباطؤ الابتكار والنمو أيضا. ولا شك أن هذا سيزيد الرهان على قانون التنافس لأن كيفية مكافحة تباطؤ النمو هي، بالمعنى الحرفي، قضية التريليون دولار بالنسبة لصناع السياسات.
* مايكل بيترز، أستاذ مشارك لعلوم الاقتصاد في جامعة ييل، وزميل باحث في المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، وباحث منتسب في مركز بحوث السياسات الاقتصادية.
اضف تعليق