إن مبادئ المُساءلة، والاقتصاد، والمنافسة، والحوافز، والاستثمار، والفرصة، والرعاية الاجتماعية؛ تسري على جميع الشعوب وعلى جميع الدول. دَعْ كلَّ فردٍ يفعل ما يشاء طالما كان ما يفعله آمنًا. إن دَور الحكومة في كل دولةٍ هو حفظ السلام والدفاع عن حق كل فردٍ في الحياة، والحرية، والملكية. والحكومة...
بقلم: مارك سكاوزن

خلال كتابتي عن الاقتصاد على مدار العقود الماضية، اندهشت من الطرق الفعالة والمتنوعة التي يستطيع من خلالها التحليلُ الاقتصاديُّ التأثيرَ على عوالم الماليات، وإدارة الأعمال، والقانون، والدين، والسياسة، والتاريخ، والعلوم الاجتماعية الأخرى؛ فبإمكان الاقتصاد أن يُغيِّر حياةَ الأفراد والدول إلى الأفضل أو إلى الأسوأ، اعتمادًا على مدى الْتزامه الدقيق بالمبادئ الأساسية أو انتهاكه لها؛ فمن الممكن أن تُغيِّر السياسةُ الاقتصادية مسارَ التاريخ.

ما هذه المفاهيم الأساسية؟ فيما يلي سبعة مبادئ أساسية يمكنها أن تُغيِّر العالمَ حالَ تطبيقها على مجموعةٍ متنوعةٍ من المشكلات:

(١) المُساءلة: تُعَدُّ المُساءلة جوهرَ الاقتصاد. ففي أي اقتصادِ سوقٍ، ينبغي أن يدفع المستفيدون من ثمار العمل مُقابلها؛ ففكرة تحمُّل المستخدِم التكلفةَ تُشجِّع الانضباطَ والصناعةَ والتوفيرَ وغيرها من الفضائل الأخرى. أما إذا دفع شخصٌ آخر، فإن المستخدِم لا يُعير التكلفةَ انتباهًا. وحين لا يدفع المستهلِكون مقابلَ المنتجات التي يستخدمونها، تكون النتائجُ تكاليفَ مرتفعة، وإهدارًا، واحتيالًا؛ لذلك تُعتبر حقوق الملكية أساسيةً للمُساءلة؛ فليس هناك أحد يُنفق أموالَ غيره بحرصٍ مثلما يُنفق أمواله؛ فأنت تميل إلى الحرص على ما يخصك، أما ما يخص شخصًا آخر، أو لا يخص أحدًا، فقد يصاحبه إهمال أو إتلاف أو فرط استعمال. وكما يقول ويليام جراهام سمنر: «الأحمق أكثر حكمةً في منزله من الحكيم في منزل رجلٍ آخر.» وينطبق هذا المبدأ على المنزل، والعمل، وقاعات الحكومة.

(٢) الاقتصاد وتحليل التكلفة-الفائدة: في عالمٍ من الندرة والاختيار، لا بد للمرء أن يكون مقتصدًا. وأنجح البيوت والشركات والحكومات هي تلك التي تستثمر من أجل غدٍ أفضل، وتعيش في حدود مواردها، وتتجنَّب الديونَ المفرطة؛ فالاقتصاد فضيلة، والمنافسة ودافع الربح هما أفضل النُّظُم التي ابتُكِرَت على الإطلاق لخفض التكاليف وتجنُّب الخسائر؛ فقياس التكاليف والفوائد يساعد على تحديد الاستخدام الأمثل والأكثر كفاءةً للموارد.

(٣) الادِّخار والاستثمار: يُعَدُّ الادخار والاستثمار عنصرين بالغَيِ الأهمية في تحقيق النجاح على المدى الطويل في العمل والحياة بشكلٍ عام. وكما تقول لافتة معلَّقة على باب إحدى الشركات: «لا يمكنك أن تعمل اليومَ بآلات الأمس إذا كنت تريد أن تستمر في عالم الأعمال غدًا.» لقد حان الوقت لتثبيط عقلية الديون المفرطة، والإنفاق الزائد، والإهدار لدى المستهلك-المجتمع، وتشجيع الاقتصاد، والاستخدام المثمر للموارد الاستثمارية.

(٤) الحوافز: للحوافز أهميتها. ويُبيِّن قانون مُنحنى الطلب المنحدر لأسفل أنك إذا شجَّعتَ شيئًا، تحصل على المزيد منه، وإذا عزفت عن تشجيع شيء، تحصل على قَدْرٍ أقل منه. إن دافع الربح يُعزِّز النموَّ الاقتصاديَّ عن طريق إيجاد منتجاتٍ أفضل بأسعارٍ أرخص. كذلك تُعتبر المنظومةُ السعريةُ التنافسيةُ بشكلٍ حُرٍّ هي الحلَّ الأمثلَ لأي أزمةٍ اقتصادية؛ فأزمات النقص والعجز يتم القضاء عليها بسرعةٍ أكبر؛ لأن ارتفاع الأسعار يُثبِّط الاستهلاكَ ويُشجِّع نَشْرَ مواردَ وإمداداتٍ جديدةٍ بشكلٍ تلقائيٍّ دون تدخُّل الحكومة. يمكن أيضًا أن يكون للضرائب تأثير ملحوظ على الحوافز. وكما قال كالفن كوليدج: «لا يمكن أن تَزيد الرخاءَ عن طريق النجاح ضريبيًّا.»

(٥) المنافسة والاختيار: تؤدي الحرية الاقتصادية إلى الاختيار والفرص؛ حرية التحرك، والحصول على تعليمٍ أفضل، والمنافسة في مشروعٍ تجاريٍّ جديد، وإيجاد وظيفةٍ جديدة، والتعيين والفصل، والشراء والبيع. وأفضل وسيلةٍ لتحقيق الرخاء هي إنتاج ما يحتاج إليه الناس. والعبارة المعبِّرة عن ذلك في اللاتينية هي do ut des، بمعنى «أنا أُعطي لكي يتعين عليك أن تُعطي». وأسرع طريقةٍ لمزيد من الربح هي إنتاج المزيد مما يحتاج إليه الناس، سواءٌ كعاملٍ أم كرائد أعمال.

أما الاحتكار، فيؤدي إلى أسعارٍ أعلى وخدمةٍ أقل؛ فالمنافسة تخلق بيئةً من تكافؤ الفرص؛ إذ تؤدي إلى انخفاض الأسعار، بل ونشر مبدأ «سعر واحد»، أي أن يدفع الجميع نفس السعر المنخفض مقابل منتجٍ ما، مهما كان وضعك المالي أو الاجتماعي (وهو المبدأ المعروف بمبدأ عدم التمييز). إن السر في إنهاء الفقر والقضاء عليه هو تكافؤ الفرص، وليس تكافؤ الثروة أو الدخل المفروض من قِبل الدولة؛ فالأحرار ليسوا متكافئين في الثروة أو الدخل، والمتكافئون ليسوا أحرارًا. وكما قال ونستون تشرشل ذات مرة: «إن النقيصة الملازمة للرأسمالية هي المشاركة غير المتكافئة في النِّعَم؛ والفضيلة الملازمة للاشتراكية هي المشاركة المتكافئة في المآسي.»

(٦) ريادة الأعمال والتجديد: يعتمد النجاح بالنسبة إلى الأفراد وكذلك الدول على المهارات والاستراتيجيات التجارية التي عادةً ما تتعارض مع الحكمة السائدة. من أين ستنشأ التطوُّرات التكنولوجية؟ يدَّعي جوزيف شومبيتر عن حكمةٍ أنَّ «التقدُّم الاقتصادي، في مجتمعٍ اشتراكي، يعني الاضطراب»؛ أي «التدمير الخلَّاق» للسوق؛ ورائد الأعمال هو مَن يؤدي هذه الوظيفة الأساسية بحثًا عن المزيد من الأرباح. لا بد أن يتقبَّل المجتمعُ التغيير، الذي أحيانًا ما يكون تغييرًا جوهريًّا يأتي مع مهارات التجديد وريادة الأعمال.

(٧) الرعاية الاجتماعية: ينصُّ مبدأ المنفعة العامة على ضرورة أن تحاول مساعدة هؤلاء الذين هم بحاجةٍ إلى المساعدة. وهذا هو المبدأ القويم لجميع الأديان الجيدة، والاقتصاديين الجيدين. وقد طبَّق محمد يونس الحائز جائزةَ نوبل هذا المبدأ بشكلٍ عمليٍّ من خلال قروض بنك جرامين الخاص به. ولكنها لم تكن صدقات؛ فلا بد ألا ننسى الجانب الآخر لمبدأ المنفعة العامة؛ ألا وهو: إن على المسئولين التزامًا ﺑ «عدم» مساعدة هؤلاء الذين لا يحتاجون إلى المساعدة. فمساعدة المستقلين تعني تدمير روح المبادرة لديهم. وتسري هذه السياسة على المنازل، والكنائس، والبرامج الحكومية؛ فإذا أنشأتْ حكومةٌ ما برنامجًا للرعاية الاجتماعية للجميع، بصرف النظر عن حالتهم المادية، فإن ذلك يفتح الطريقَ أمام المجتمع لسلوكٍ يتَّسم بالخمول، ولإجراءاتٍ مكلفةٍ وغيرِ فعالةٍ على نطاقٍ هائل. تخيَّل لو أن كلَّ شخصٍ في إحدى الأبرشيات، غنيًّا كان أو فقيرًا، كان مستحقًّا لمساعدات الكنيسة! إن أي برنامجٍ حكوميٍّ يُركِّز على مساعدة المحتاجين يُظهر مجتمعًا عطوفًا، ولكن البرنامج الذي يُقدِّم فوائد للجميع مجانًا أو بتكلفةٍ منخفضةٍ للغاية إنما يُخمد روحَ الانضباط ويفاقم الأمور.

إن مبادئ المُساءلة، والاقتصاد، والمنافسة، والحوافز، والاستثمار، والفرصة، والرعاية الاجتماعية؛ تسري على جميع الشعوب وعلى جميع الدول. وكما قال ليونارد إي ريد، مؤسس مؤسسة التعليم الاقتصادي: «دَعْ كلَّ فردٍ يفعل ما يشاء طالما كان ما يفعله آمنًا.» إن دَور الحكومة في كل دولةٍ هو حفظ السلام والدفاع عن حق كل فردٍ في الحياة، والحرية، والملكية. والحكومة الجيدة تُنفِّذ العقود، وتمنع الظلم، وتوفِّر منظومةً نقديةً وماليةً مستقرَّة، وتُشجع إقامة علاقاتٍ جيدةٍ مع جيرانها. وقد علَّق بنجامين فرانكلين، وهو تعليق صائب في محله، قائلًا: «لا توجد دولة على الإطلاق دمَّرتْها التجارة.»

 علاوةً على ذلك، لا يمكن إقامة اقتصادٍ سليمٍ على منظومةٍ نقديةٍ غير سليمة. وفي ذلك قال كينز عن حقٍّ: «لا توجد طريقةٌ أدقُّ ولا أضمنُ لهدم أساسٍ قائمٍ من أُسُسِ المجتمع من إغراق العملة.» تتطلَّب السياسة الرشيدة أيضًا قيامَ المسئولين الحكوميين بدراسة اقتصاديات التشريع على جميع الناس على المدى الطويل، وليس على المدى القصير فقط. وقد لاحظ فريدريك باستيا قائلًا: «إن الدول التي تتمتَّع بأرقى مستويات السِّلْم والسعادة والرخاء هي تلك التي يتعارض فيها القانون مع الشئون الخاصة بأقل قدرٍ ممكن.» وأشار الفيلسوف الصيني العظيم لاو تزو بحكمةٍ قائلًا: «حكم دولةٍ كبيرةٍ كَقَلْي سمكةٍ صغيرة؛ إنك تُفسدها بكثرة النخس.»

هذه المبادئ السبعة الرائعة؛ تشكِّل قوةَ التفكير الاقتصادي. والمستقبل ينتمي إلى علم اقتصادٍ سليم.

* مقتطف من كتاب: قوة الاقتصاد: كيف يُغيِّر جيل جديد من الاقتصاديين العالم، لمؤلفه: مارك سكاوزن، نشر مؤسسة هنداوي

اضف تعليق