على مدى عقود من الزمان، كان الدرس المستفاد من تكرار أزمات الديون هو أن الدين الخارجي خطير بطبيعته وكان يبدو أن تجنب تدفقات رأس المال القصيرة الأجل التي يقودها الهوس المؤقت يعتبر ضروريًا لحماية رفاهية البلدان المقترضة وسلامة النظام الاقتصادي الدولي. لحسن الحظ، يبدو أن هناك بديلًا أكثر...
بقلم: هارولد جيمس
برينستون - إن الارتفاع التضخمي الحالي يستلزم إعادة تقييم سياسات الدين العام، فمع ارتفاع أسعار الفائدة في جميع أنحاء العالم، يجب علينا إعادة تقييم أنواع الديون التي يُنظر إليها على أنها مستقرة ومستدامة، وتلك التي من المحتمل أن تسبب عدم الاستقرار الاقتصادي والتقلبات السياسية.
لقد قام بنك إنجلترا والبنك المركزي التركي في يونيو الماضي برفع أسعار الفائدة بشكل دراماتيكي، وفي حين رفع بنك إنجلترا سعره بنسبة 0.5٪، كان البنك المركزي التركي أكثر جرأة، حيث ضاعف سعر الفائدة تقريبا وذلك من 8.5٪ إلى 15٪. إن من المثير للاهتمام أن هذه الإجراءات لم تسفر عن تحسن كبير في أسعار الصرف والذي عادة ما يأتي في أعقاب ارتفاع أسعار الفائدة. ومع ذلك، فمن المرجح أن يتم توجيه اللوم الى محافظي البنوك المركزية على المتاعب الناتجة عن ذلك. لكن في كلا البلدين، تعثرت السياسة النقدية بسبب المخاوف بشأن الاستقرار المالي ومستويات الديون.
على مدى السنوات الأربعين الماضية، تركز الكثير من اهتمام صانعي السياسات على الأعباء الناتجة عن الدين الخارجي حيث ليس من الصعب معرفة سبب ذلك، فكل أزمات الديون الأكثر دراماتيكية في القرن العشرين كانت مرتبطة بالاقتراض الخارجي. إن هناك خيط مشترك يربط أزمة بارينج عام 1890 - أزمة تخلف الأرجنتين عن سداد ديونها والتي كادت أن تؤدي إلى انهيار بنك بريطاني كبير – بالكساد العظيم بالإضافة الى أزمة ديون أمريكا اللاتينية في أوائل ثمانينات القرن الماضي وأزمة شرق آسيا في آواخر تسعينات القرن الماضي وتخلف الارجنتين عن السداد في أوائل القرن الحالي . لقد ارتبطت حالات الذعر تلك في الغالب بالاقتراض السيادي الذي ثبت أنه غير مستدام وذلك إما بسبب انخفاض أسعار السلع الأساسية الرئيسية كما حدث في الكساد الكبير، أو بسبب ارتفاع أسعار الفائدة الدولية وذلك كما حصل في أوائل ثمانينات القرن الماضي.
عادة ما تضمنت الاستجابة لمثل هذا النوع من الأزمات شكل من أشكال إعادة هيكلة الديون، وفي نهاية المطاف، كان لابد من التوفيق بين المطالبات المالية الكبيرة التي تراكمت من قبل الأجانب في لحظات التفاؤل الشديد بشأن آفاق نمو البلدان المقترضة وبين الواقع.
لكن يبدو أن أزمة الديون الحالية مختلفة، وفي الوقت الذي كانت فيه المملكة المتحدة وتركيا تواجه صعوبات مرتبطة بالزيادات الأخيرة في أسعار الفائدة، اجتمع قادة العالم في باريس لحضور قمة " من أجل ميثاق تمويل عالمي جديد " في 22-23 يونيو وذلك من أجل مناقشة سبل تخفيف أعباء ديون البلدان منخفضة الدخل التي تواجه صدمات مختلفة في وقت واحد بما في ذلك جائحة كوفيد-19 واضطرابات سلسلة التوريد وغزو روسيا لأوكرانيا.
على مدى عقود من الزمان، كان الدرس المستفاد من تكرار أزمات الديون هو أن الدين الخارجي خطير بطبيعته وكان يبدو أن تجنب تدفقات رأس المال القصيرة الأجل التي يقودها الهوس المؤقت يعتبر ضروريًا لحماية رفاهية البلدان المقترضة وسلامة النظام الاقتصادي الدولي. لحسن الحظ، يبدو أن هناك بديلًا أكثر استدامة وصحة، فعلى عكس الدين الخارجي، كان يُنظر إلى الدين المحلي تقليديًا على أنه أداة فعالة تمنح المواطنين حصة في النظام السياسي لبلدهم وطبقا لهذه الرؤية فإن المقرضين في هذه الحالة يكونوا مرتبطين بالالتزام المدني والوطنية.
لقد نشأ هذا النموذج في دول المدن الإيطالية في أواخر العصور الوسطى، ولا سيما مدينة جنوة التجارية البارزة، وحتى أن مكيافيلي أشاد بكاسا دي سان جورجيو، وهو بنك عام تأسس عام 1407 لتوحيد ديون المدينة نيابة عن عدد كبير من المواطنين.
بحلول أواخر القرن السابع عشر، تبنت إنجلترا نموذج جنوة للحكم البلدي ونفذته على نطاق أوسع بكثير مما أدى إلى إنشاء بنك إنجلترا، وكما لاحظ علماء السياسة والاقتصاديون المعاصرون وذلك من دوغلاس نورث وباري وينغاست إلى دارون أسيموغلو وجيمس روبنسون، فإن الدين القومي تحتفظ به مؤسسة مملوكة لمواطنين يوجد ممثلين عنهم في البرلمان حيث يمكن لممثليهم المنتخبين التصويت على كيفية تخصيص الإيرادات والتحقق من أن الحكومة تقوم بخدمة ديونها للبنك المركزي بانتظام.
وهكذا ارتبط تراكم الدين المحلي بالدستورية. لقد استلهم ألكسندر هاملتون، أول وزير خزانة للولايات المتحدة الأمريكية تجربة بنك إنجلترا عندما أعلن أن الدين العام "مثل الاسمنت أي بمثابة دعامة قوية لاتحادنا".
طبقًا لهذا التصور يعتبر الاقتراض من الخارج خيارًا احتياطيًا تلجأ إليه الحكومات والبلدان عندما تحتاج إلى موارد لا يرغب مواطنوها في توفيرها أو لا يستطيعون توفيرها. ووفقًا لهذا المنطق، فإن تطوير الأسواق المالية المحلية سيمكّن الحكومات من الإفلات من الفخ الناجم عن الديون الخارجية والاقتراض بشكل أساسي من مواطنيها وذلك بعملاتها الوطنية.
في السنوات الأخيرة، اقترح بعض المدافعين عن النظرية النقدية الحديثة وجهة نظر بسيطة تتعلق بالميزانية العامة تعتبر جميع الديون الوطنية التي يتم الاحتفاظ به محليًا مفيدة علمًا أنه من خلال جعل مسؤولية الدولة من الأصول التي يمتلكها المواطن، فإن المزيد من الديون يمكن أن تؤدي إلى جعل الجميع أكثر ثراءً، لكن حدثين حديثي العهد نسبيًا –حدثان مختلفان ولكنهما مرتبطان بجائحة كوفيد-19 – شكلا تحديًا بشكل متزايد للمفهوم الشائع بأن الاقتراض المحلي ليس له سلبيات.
إن الحدث الأول هو أزمة الديون المصغرة التي هزت المملكة المتحدة في سبتمبر 2022. بتكلفة تقديرية بلغت 45 مليار جنيه إسترليني (57 مليار دولار)، بدت خطة رئيسة الوزراء آنذاك ليز تراس والتي تم التخلي عنها لاحقًا لإلغاء معدل ضريبة الدخل الأعلى بنسبة 45٪ محدودة مقارنة بالدين، لكن هذه الخطة أدت إلى ارتفاع مفاجئ في أسعار الفائدة وانخفاض في قيمة الدين الحكومي طويل الأجل، وقد أدى هذا بدوره إلى بيع السندات الحكومية وأصبحت الأمور تدور في حلقة مفرغة بينما قامت المؤسسات وخاصة الصناديق التقاعدية ببيع أصولها.
الحدث الثاني هو تخلف غانا عن سداد ديونها في أواخر عام 2022. لقد كانت غانا تعاني من أجل خدمة ديونها بعد أن تسببت الجائحة في انخفاض الإيرادات وزيادة الإنفاق، وعليه بدأت البلاد في إعادة هيكلة الديون الخارجية وأطلقت برنامج تبادل الديون المحلية، ولكن مع ارتفاع أسعار الفائدة والتضخم، ارتفعت أيضًا الديون بالعملة المحلية مما أدى إلى توجيه المزيد من عائدات الضرائب في البلاد إلى خدمتها. نظرًا إلى أن ثلاثة أرباع هذه المدفوعات ذهبت إلى المواطنين الغانيين، فإن الخطة الأولية للحكومة لفرض تخفيضات كبيرة فيما يتعلق بتلك الديون أدت إلى ردة فعل سلبية كبيرة من الشعب وهو أمر يمكن تفهمه.
لقد أدى ارتفاع أسعار الفائدة العالمية إلى تحطيم الوهم الكبير بأن الاقتراض المحلي هو أقل استقطابًا واثارة للانقسامات مقارنة بالدين الخارجي، وفي حين أن هاملتون ربما نظر إلى الديون كوسيلة لترسيخ سلطة الدولة، فإن تشبيهه للوضع بالأسمنت هو تشبيه يحمل أكثر من معنى، فمثل الأسمنت فإن وجود فائض يزيد عن الحد من الديون يشكل عبئًا سياسيًا ويشل الحكومات ويثقل كاهل الاقتصادات.
اضف تعليق