لم تنجح اجراءات البنك المركزي العراقي ولا اجراءات الحكومة في اعادة اسعار الصرف الى معدلاتها الرسمية رغم تنوع السياسات المتخذة لخفض الدولار في اسواق الصرف المحلية. اذ يتطلب نظام سعر الصرف الثابت، والمعتمد رسميا وعمليا في العراق، الاستجابة الكاملة للطلب على الدولار اذا ما رغب البنك المركزي تحقيق...
اعتمد العراق بعد العام 2003 نظام سعر الصرف الثابت لضمان استقرار مستويات الاسعار في الاسواق المحلية نظرا لكون العراق يعتمد على الاستيراد في تلبية معظم احتياجاته من السلع المتنوعة. نهاية عام 2020 اختارت الحكومة العراقية خفض سعر صرف الدينار العراقي بقرابة (22%) لتغطية العجز المالي الذي تضاعف نتيجة انهيار اسعار النفط الى دون (20) دولار للبرميل وانحسار الايرادات النفطية الى الربع في بعض الشهور.
ورغم ان خفض سعر صرف الدينار لم يكن الخيار الامثل، نظرا لان هبوط اسعار النفط كان مؤقتا، الا ان تداعيات تغيير سعر الصرف كانت دون المتوقع واستطاع الاقتصاد العراقي امتصاص الصدمة بشكل مناسب. وحتى ارتفاع الاسعار الذي شهدته الاسواق اواخر عام 2021 ومطلع عام 2022، لم تكن بسبب تغير اسعار الصرف فقط بل نتيجة اساسية لارتفاع اسعار السلع عالميا بسبب ارتفاع تكاليف الشحن وقيود سلاسل الامداد والحرب الروسية الاوكرانية فضلا على ارتفاع الطلب العالمي مقارنة بضمور العرض الذي لم يتعافى جيدا من جائحة كوفيد-19.
اواخر عام 2022 ومطلع عام 2023 شهدت اسواق الصرف صدمة جديدة نتيجة تشديد الرقابة والتدقيق على مبيعات نافذة العملة الاجنبية، فقد قيدت الولايات المتحدة عمليات البنك المركزي في تمويل الحوالات الخارجية بحجة مكافحة التهريب وغسيل الاموال. الامر الذي ادى الى تقلص المبيعات اليومية للبنك المركزي العراقي من الدولار ما بين (50%-75%)، وهو رقم صعب على اسواق الصرف العراقية حيث يعد البنك المركزي محتكر للعملة الاجنبية والعارض شبه الوحيد للدولار في الاسواق.
ولان سعر الصرف خاضع لقوى العرض والطلب، ونظرا لانحسار مبيعات البنك المركزي بشكل تدريجي (جانب العرض)، مع استمرار الطلب على الدولار بمعدلات عالية تقارب (200 مليون دولار يوميا كمتوسط)، بدأت الفجوة تتسع بين سعر الصرف الرسمي (1470) وسعر الصرف السوقي/ الموازي، والذي بدأ بالارتفاع التدريجي خلال الاسابيع الماضية نتيجة استمرار الفجوة ما بين الكميات المطلوبة والكميات المعروضة في الاسواق.
وما زاد من شحة الدولار في الاسواق اثارة التوقعات بسبب تصريحات اعلامية غير موفقة من جهة وسحب الدولار من الاسواق بهدف تمويل حوالات التجار الخارجية التي تعثرت نتيجة اجراءات المنصة التدقيقية من جهة اخرى.
اجراءات البنك المركزي لتحقيق الاستقرار
تم اعتماد العديد من الاجراءات من قبل البنك المركزي العراقي للحد من ارتفاع سعر صرف الدولار وتحقيق الاستقرار النقدي في العراق، كان أبرزها:
1- حث التجار على مراجعة المصارف مباشرة وعدم اللجوء إلى الوسطاء والمضاربين لتلافي تحميل استيراداتهم عمولات ومصاريف لا موجب لها، استنادا الى قرار مجلس الوزراء المرقم (351) لسنة 2022 القاضي بعدم استيفاء الرسوم الكمركية ومبالغ الأمانات الضريبية مسبقاً، لتقليل الحلقات الزائدة وتخفيف الإجراءات وإزالة الكلف الناتجة عن مشاكل الترسيم المسبق.
2- تشجيع التجار على تمويل استيراداتهم من خلال الاعتمادات المستندية بدلا عن الحوالات، حيث قرر البنك تخفيض سعر صرف الدولار للمستفيد ممن يمول استيراداته للاعتمادات المستندية ليكون بواقع (1465) دينارا للدولار بدلا من (1470) دينار. واشار البنك المركزي بانه سيبيع الدولار للمصرف لأغراض الاعتمادات المستندية بمبلغ (1455) دينار للدولار، بدلا من (1460).
3- قرار البنك المركزي العراقي برفع المبيعات النقدية من الدولار للمواطن المسافر الى (5000) دولار خلال الشهر الواحد. وتم تحديد قرابة (20) مصرف لتعزيز مبادرة توفير الدولار الرخيص للمسافرين.
4- قيام البنك المركزي العراقي بفتح منفذ جديد لبيع الدولار نقداً للمسافرين في مطار بغداد الدولي عن طريق المصرف العراقي للتجارة (TBI) وبحد أقصى (5000) دولار امريكي.
5- زيادة الحصة الأسبوعية للمبيعات النقدية من الدولار الى شركات الصيرفة فئات (A-B-C). لتحقيق الاستقرار في المستوى العام للأسعار وأسعار الصرف وتلبية الطلب على العملة الأجنبية في الأسواق المحلية.
6- حث المصارف لتحمل مسؤولياتها في تسهيل الإجراءات لزبائنها وتسريعها لضمان وصولهم الى التمويل بأفضل الممارسات المصرفية وبأقل قدر من الحلقات مع مراعاة المتطلبات القانونية المقررة.
7- التشديد على مكاتب الصيرفة للحد من المضاربة واحتكار الدولار عبر تدخل فرق من الامن الاقتصادي لأسواق الصرف الرئيسة في بغداد وبعض المحافظات.
اجراءات الحكومة لتهدئة اسواق الصرف
لم تنجح اجراءات البنك المركزي، المذكورة في اعلاه، في تقليص الفجوة بين السعر الرسمي والسعر السوقي، على العكس من ذلك، ارتفعت الفجوة بين السعرين بشكل مضاعف ليصل سعر صرف الدولار الى (1650) دينار سعر موازي، مقارنة (1470) دينار سعر رسمي. مما حدا بالحكومة العراقية اتخاذ جملة من الاجراءات اهمها:
1- اعفاء محافظ البنك المركزي مصطفى غالب مخيف واعادة تكليف المحافظ السابق على العلاق بإدارة البنك بالوكالة، من اجل ايجاد حلول بديلة وتطمين الاسواق بجدية الحكومة في اعادة الاستقرار لأسعار الصرف في الاسواق.
2- فتح نافذة جديدة لبيع العملة الأجنبية لصغار التجّار عبر المصرف العراقي للتجارة (TBI)
3- تمويل البنك المركزي للمصرف العراقي للتجارة (TBI) بمبلغ إضافي قدره (500) مليون دولار أميركي لغرض فتح الاعتمادات المستندية لصغار التجار، والاكتفاء بالفاتورة الأولية ورقم حساب المستفيد الأخير من الاعتماد.
4- إطلاق استيراد السلع والبضائع للشركات المسجلة لدى دائرة تسجيل الشركات في وزارة التجارة الاتحادية بجميع أنواع الشركات والمصانع المسجلة لدى المديرية العامة للتنمية الصناعية والمشاريع الاستثمارية بجميع أنواعها المرخصة أصولياً من هيئات الاستثمار، والمكاتب العلمية المسجلة أصولياً والأفراد والمكاتب المسجلين لدى الغرف التجارية العراقية (المشمولة بشرط إجازة الاستيراد أو غير المشمولة).
5- تسهيل إجراءات الاستيراد وتقليص متطلبات فتح الاعتمادات المستندية، وإلغاء إعمام الهيئة العامة للضرائب الخاص بفرض غرامات تأخيرية على المستوردين وباقي المكلفين بالهيئة العامة للضرائب.
لماذا لم يتراجع سعر صرف
لم تنجح اجراءات البنك المركزي العراقي ولا اجراءات الحكومة في اعادة اسعار الصرف الى معدلاتها الرسمية رغم تنوع السياسات المتخذة لخفض الدولار في اسواق الصرف المحلية. اذ يتطلب نظام سعر الصرف الثابت، والمعتمد رسميا وعمليا في العراق، الاستجابة الكاملة للطلب على الدولار اذا ما رغب البنك المركزي تحقيق التطابق بين السعر الرسمي والسعر السوقي للدولار، والحد من ارباح المصارف والشركات الناتجة عن فرق السعرين. اما تقييد المبيعات وطول اجراءات التدقيق والتحكم فهي اسباب مباشرة واساسية في اتساع الفجوة واضطراب اسواق الصرف في العراق.
من جانب اخر فان طلب الاسواق على الدولار في تأرجح مستمر، صعودا ونزولا، تبعا للعديد من العوامل منها التوقعات، والدخل وتوسع أو تحجيم الإنفاق الحكومي وانعكاساته المضاعفة في الطلب الكلي ومنه إلى الدخل، مما يقتضي، وللحفاظ على السعر السوقي قريبا من مستواه الرسمي المثبت، تكييف الكميات المباعة من الدولار لمعدلات الطلب المتغيرة لضمان استقرار اسعار صرف الدولار عند معدلاتها المثبتة.
ومن المحتم ان تبوء جميع السياسات والاجراءات الرامية الى تقنين مبيعات الدولار والتشدد في طلب المعلومات بالفشل الذريع كما يرى الدكتور احمد بريهي، وليس أمام الحكومة سوى الإصرار على الاستجابة التامة للطلب على العملة الأجنبية اذا ما ارادت ان ترجع اسعار صرف الدولار لمعدلاتها السابقة عند (1470) دينار لكل دولار امريكي.
اضف تعليق