من خلال توليد حالة من عدم اليقين، من الممكن أن يدمر التضخم بسهولة كيانات سياسية ضخمة ومعقدة. نحن نعلم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن يعتقد أن تفكك الاتحاد السوفييتي كان الكارثة السياسية الأكبر في القرن العشرين. وربما يعتقد أيضا أن تضخم أسعار الطاقة والغذاء والجهود الحكومية...
بقلم: هارولد جيمس

برينستون ــ يبدو الأمر وكأن البلدان الصناعية الغربية انزلقت إلى حلقة زمنية متكررة بلا نهاية، حيث لا يعيد التضخم المرتفع على نحو غير متوقع ذكريات من سبعينيات القرن الماضي فحسب، بل وأيضا مناقشات تلك الحقبة السياسية والشكوك السياسية التي صاحبتها. هل يُـعَـد التضخم دائما وفي كل مكان ظاهرة نقدية، كما أصر ميلتون فريدمان؟ أو أنه نتيجة للتوسع المالي المفرط ــ أو مجرد عَـرَض من أعراض اختلال وظيفي ديمقراطي أكثر شمولا؟

لم تكن مناقشات السبعينيات تدور فقط حول المسائل الفنية المرتبطة بإدارة الاقتصاد الكلي. بل أثارت أيضا الشكوك حول استدامة وشرعية نموذج الديمقراطية الغربي. كان العالم محاطا بانعدام الاستقرار الجيوسياسي، وقد أيدت الجمعية العامة للأمم المتحدة الدعوات التي طالبت بنظام اقتصادي دولي جديد. والآن بعد أن اشتعلت مرة أخرى العديد من ذات القضايا السياسية والجيوسياسية، يعمل التضخم كمقياس لدرجة الحرارة. مع تزايد حجم الأموال التي تسعى وراء كم أقل من السلع، ترتفع الأسعار ــ ويصبح الاقتصاد محموما.

مع ذلك، خلال فترات الإبداع النقدي، تزداد صعوبة التعرف على ماهية النقود. لن يجادل أحد في حقيقة مفادها أن الإبداع النقدي كان يتقدم بخطى شديدة السرعة على مدار العقد الأخير. ولكن ينبغي لنا أن نتذكر أن السبعينيات شهدت أيضا ثورة مالية، والتي زادت من عدم وضوح الفوارق التي كان من الصعب تمييزها في السابق بين المال وغير المال. كان هذا جزئيا نتيجة للتضخم، وهو ما دفع عملاء البنوك إلى الفرار من الحسابات الجارية التي لا تحمل فائدة إلى بدائل مثل شهادات الإيداع أو الحسابات في البنوك غير التقليدية.

كان فريدمان راشحا بالازدراء لكل الناخبين والساسة المحافظين الذين تصوروا أن السياسة المالية كانت مسؤولة عن التضخم. لكن هذا الازدراء لم يكن في محله، نظرا لوجود صِـلة حقيقية بين السياسة المالية والسياسة النقدية: كان العجز الحكومي المرتفع يمول من خلال البنك المركزي. وفي كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، أصبح أصحاب المصلحة ينظرون إلى الخزانة والبنك المركزي على أنهما "سلطة تنفيذية موحدة للاقتصاد الكلي". كل من البلدين يعتبر نفسه قوة مهيمنة عالميا، وعلى هذا فقد سعى كل منهما إلى استخدام سيادته النقدية لتأمين مزايا على حساب بقية العالم.

في هذه الحالة، انتهت الحال بالولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى مستويات تضخم أعلى مقارنة بمعظم البلدان الصناعية الأخرى، ويتجلى ذات التمييز مرة أخرى في عام 2022. في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بلغ التضخم أعلى مستوياته بين بلدان مجموعة السبع، وكل من البلدين أقر أيضا حزم تحفيز مالي ضخمة بمساعدة البنك المركزي في الاستجابة لصدمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19).

تُـعَـد المملكة المتحدة مثالا مثيرا بشكل خاص على هذا. في السنة المالية الأولى من جائحة كوفيد-19، اشترى بنك إنجلترا 99.5% من الدين الحكومي ــ وأكثر من 100% في العام التالي. في ظل هذه الظروف، ليس من المعقول أن نزعم أن البنك المركزي مستقل.

ينطبق ذات المنطق في الولايات المتحدة، حيث كان أكبر أخطاء صناع السياسات متمثلا في تعليق آمالهم على أن التضخم المرتفع "مؤقت". استمر هذا حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2021، حيث مارست إدارة بايدن الضغوط على بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لحمله على الإبقاء على تساهل السياسة النقدية من خلال تأخير ترشيح أو إعادة ترشيح مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي. كان هذا التدخل السياسي واضحا بقدر وضوح الجهود التي بذلها ريتشارد نيكسون في الضغط على رئيس الاحتياطي الفيدرالي آرثر بيرنز في سبعينيات القرن العشرين.

النتيجة هي أن البنوك المركزية ليست مستقلة بقدر ما تَـدَّعي. في كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة، استجابت الحكومة والبنك المركزي للضغوط السياسية التي نشأت بفعل انقسامات مجتمعية مستعصية في الظاهر. يثير مثل هذا الاستقطاب الشديد تساؤلات حول ما إذا كان بوسع الاتحاد السياسي أن يستمر. ومن ثَـمّ فإن الجدال من زمن السبعينيات حول عدم قابلية المملكة المتحدة للحكم يعود إلى الظهور الآن، حيث تتطلع كل من اسكتلندا وأيرلندا الشمالية إلى مسارات للخروج حتى يتسنى لها العودة إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. الأمر الأكثر شؤما كان ذلك العدد الكبير من الكتب التي تنبأت بحرب أهلية في الولايات المتحدة.

بطبيعة الحال، تواجه أوروبا أيضا تهديدات بالتفكك. كان البنك المركزي الأوروبي أبطأ من بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أو بنك إنجلترا في رفع أسعار الفائدة. يرجع هذا جزئيا إلى اختلاف طبيعة التضخم، ولأن حرب روسيا في أوكرانيا دفعت تكاليف الطاقة إلى الارتفاع. تتمتع أسواق العمل الأوروبية أيضا بحيز أكبر للاسترخاء بعض الشيء (وإن كانت بعض الاقتصادات الأوروبية تعاني من ذات النقص الكبير في العمالة الماهرة الذي نراه في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة).

لكن السبب الرئيسي وراء تردد البنك المركزي الأوروبي هو خوفه من أن تفسر الأسواق ارتفاع تكاليف الاقتراض على أنه تهديد لاستقرار الحكومة والخدمات المصرفية في بلدان منطقة اليورو الجنوبية الأكثر استدانة. الواقع أن أي زيادة في تكاليف الاقتراض الحكومية من الممكن أن تؤدي إلى اللعنة المزدوجة (أو "حلقة الهلاك") التي كان كثيرون أثناء أزمة الديون الأوروبية التي اندلعت قبل عشر سنوات يخشون حدوثها. إذا كان لزاما على الحكومات المدينة أن تدفع علاوات مخاطر أعلى وإذا كانت مهددة بالإفلاس، فسوف تنخفض قيمة سنداتها بشدة، مما يقوض الميزانيات العمومية للبنوك التي تحتفظ بهذه السندات.

كانت إحدى العبارات الشائعة أثناء أزمة اليورو هي أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تتمتعان بوضع أقوى كثيرا مقارنة بأوروبا لأن كلا منهما لديها حكومة واحدة وبنك مركزي واحد. ورغم أن الهشاشة البنيوية التي تعيب منطقة اليورو عملت منذ ذلك الحين على توليد تحرك مؤقت نحو اتحاد مالي محدود، فإن ذلك العمل يظل منقوصا. علاوة على ذلك، ذَكَّـرَت الجائحة والأزمة الجيوسياسية التي اندلعت هذا العام الجميع بأن حتى الدول الموحدة ماليا ليس لديها كل الإجابات والحلول ومن الممكن أن تصبح عُـرضة للتفكك.

الواقع أن التاريخ عامر بأمثلة على التضخم المرتفع الذي يُـفضي إلى انهيارات جهازية. من خلال محاولة ربط المجتمعات بالنقود، نثرت البنوك المركزية مرارا وتكرارا بذور التفكك السياسي والاجتماعي على نطاق أوسع. في الدول الفيدرالية، مثل ألمانيا في أوائل عشرينيات القرن العشرين، أو الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا في أواخر التسعينيات، تسبب التضخم في تغذية ديناميكية الطرد المركزي والانفصالية. وقد ساورت جماهير الناس شكوك مزعجة في أن المركز (برلين، وموسكو، وبلجراد) كان يمارس سيطرة سياسية غير عادلة على أدوات التوزيع. وفي الجمهوريات الفيدرالية، أصبح الانفصال والاستقلال النقدي أكثر جاذبية على نحو متزايد.

من خلال توليد حالة من عدم اليقين، من الممكن أن يدمر التضخم بسهولة كيانات سياسية ضخمة ومعقدة. نحن نعلم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن يعتقد أن تفكك الاتحاد السوفييتي كان الكارثة السياسية الأكبر في القرن العشرين. وربما يعتقد أيضا أن تضخم أسعار الطاقة والغذاء ــ والجهود الحكومية المبذولة لتخفيف التأثير من خلال زيادة إعانات الدعم ــ من شأنه أن يدمر الاتحادات البريطانية والأميركية والأوروبية.

* هارولد جيمس، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية بجامعة برينستون، وهو زميل أقدم في مركز الابتكار الدولي للحكم ومتخصص في التاريخ الاقتصادي الألماني والعولمة، ومؤلف مشارك لكتاب: اليورو ومعركة الأفكار ومؤلف كتاب إنشاء وتدمير القيمة: دورة العولمة
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق