تصوير الجبروت الصيني بهذا الشكل يبرر الخطوات العاجلة التي اتخذتها واشنطن لإعادة الاستثمار في القدرة التنافسية، وضمان قدرة الولايات المتحدة على التصدي للإنفاق الدفاعي الصيني، وإحكام القواعد المتساهلة مع الشركات الأميركية التي تستغلها بكين لتحقيق مكاسب استراتيجية. ولكن عدم طرح الأسئلة حول سردية الحتمية في بروز الصين وانهيار الولايات المتحدة...
بقلم: دانيال إتش روزين
في ديسمبر (كانون الأول) 2017، حدثت الولايات المتحدة استراتيجية الأمن القومي خاصتها، فأدخلت تعديلين بارزين: [أولهما] توصيف الصين وعديد من البلدان غير الليبرالية بأنها قوى منافِسة استراتيجية، [وثانيهما] الاعتراف بأن المنافسة الاقتصادية تشكل عنصراً محورياً في التنافس بين القوى العظمى.
ومنذ ذلك الوقت، استخدمت واشنطن الأدوات الاقتصادية بقدر متزايد من الجرأة في تعاملاتها التجارية والأمنية مع الصين – واستخدمتها بشكل أقوى في رد فعلها على الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا. وأشار هذا الاستعداد الجديد للتفكير في الانفصال عن قوى كبرى أخرى –في قلب لاتجاه بدا عنيداً نحو مزيد من الترابط– إلى نهاية المشاركة المتساهلة مع هذه القوى باعتبار هذه المشاركة الموقف الأميركي المفترض، لا سيما في المجال الاقتصادي. والآن، يقع على عاتق القطاع الخاص عبء إثبات أن التفاعلات الاقتصادية مع الصين حميدة في الأساس.
ولحشد الدعم لهذا التحول الاستراتيجي، أكد مسؤولون ومحللون أمنيون أميركيون على الجوانب الأكثر تهديداً في سلوك الصين وخطابها، واصفين بكين بأنها "التهديد المتسارع" للولايات المتحدة في المجالات كلها. وقدم قادة الصين وموظفوهم الأدلة اللازمة كلها لإثبات حس المنافسة. فقد تعهد الحزب الشيوعي الصيني بالحفاظ على معدل نمو اقتصادي سنوي يتراوح بين ستة وثمانية في المئة، ما يسمح للصين بتجاوز الولايات المتحدة بسهولة في مجال حجم الناتج المحلى الإجمالي بحلول نهاية عشرينيات القرن الحادي والعشرين. وأوضح الحزب أن هذا النمو الاقتصادي سيدعم في شكل مباشر زيادة كبيرة في الإنفاق الدفاعي.
ومن ناحية أخرى، تهدف مبادرة الحزام والطريق الصينية وغيرها من برامج التمويل الخارجية إلى جر 100 بلد إلى مدار بكين باعتبارها مركزاً للجاذبية الاقتصادية. وستستمر بكين في إرغام الشركات الصينية على إتقان التكنولوجيات المهمة استراتيجياً ومحلياً كلها، بهدف القضاء على الاعتماد على القدرات الأجنبية في غضون بضع سنوات.
إن تصوير الجبروت الصيني بهذا الشكل يبرر الخطوات العاجلة التي اتخذتها واشنطن لإعادة الاستثمار في القدرة التنافسية، وضمان قدرة الولايات المتحدة على التصدي للإنفاق الدفاعي الصيني، وإحكام القواعد المتساهلة مع الشركات الأميركية التي تستغلها بكين لتحقيق مكاسب استراتيجية. وخطت الولايات المتحدة وغيرها من الدول الديمقراطية الليبرالية خطوات واسعة على مدى العقد الماضي في الاعتراف بطموحات الصين وما يترتب عنها من عواقب على توازن القوى الاقتصادية العالمية. ولكن عدم طرح الأسئلة حول سردية الحتمية في بروز الصين وانهيار الولايات المتحدة، هو مجرد تسويق أميركي لا داعي له للحزب الشيوعي الصيني.
والواقع أن بروز الصين ليس محتماً، لا سيما أن تباطؤاً اقتصادياً طويل الأمد بدأ يلوح في الأفق. وبدلاً من تجاهل هذه الحقيقة عمداً، يتعين على الولايات المتحدة أن تتحدث عنها. فقد أخذ صانعو السياسات حول العالم صمت واشنطن حول مخاطر المستقبل الاقتصادي الصيني كدليل على صحة كلام الرئيس الصيني شي جين بينغ حين يفيد بأن الحزب الشيوعي الصيني مسيطر ولديه خطة تمتد على مئة سنة لرفع الصين إلى القمة. ومن شأن التحدث عن حقيقة الوضع البعيد عن هذا التوصيف الوردي، أن يخفف من جاذبية الصين في نظر القوى الوسطى كشريك أمني جدير بالثقة، وأن يلفت الانتباه إلى المخاطر الاقتصادية الشاملة المترتبة عن الشراكة مع الصين في المشاريع التنموية. فذلك النوع من الإقراض الذي توفره الصين للبلدان النامية يهدد بتقويض الحوكمة، وإثقال كاهل البلدان بالديون، والتعتيم على الدروس التي عانت الدول لتستخلصها عن التحرير الاقتصادي.
بروز الصين ليس محتماً
تريد واشنطن من البلدان الأخرى أن تقاوم الجاذبية الاستبدادية التي تتمتع بها بكين لأسباب جيوسياسية. لكن خبراء الاقتصاد في مختلف أنحاء العالم – بما في ذلك الصين – يتخذون الموقف نفسه: إن عودة الحزب الشيوعي الصيني إلى نموذج الدولة المركزية أمر بالغ الخطورة. ولا يوجد أساس للاعتقاد بأنه في مقدور الصين، أو أي بلد، تحقيق أهداف نمو عالية ومحددة سياسياً إلى الأبد من دون استكمال إصلاحات أساسية على صعيد المالية العامة والقطاع المالي وغير ذلك من جوانب السوق. وتشكل الإشارة إلى ضعف النموذج الاقتصادي الصيني والمخاطرة التي يتسم بها المسار الذي اختاره الحزب الشيوعي الصيني فرصة للولايات المتحدة لإثبات زعامتها الجيوسياسية التي يمكن لبلدان شريكة ذات تفكير مماثل أن تتبعها.
الفكرة المتفائلة
انظروا في الرياح المعاكسة التي تواجهها الصين عام 2022. في الاجتماع السنوي للمؤتمر الشعبي الوطني في مارس (آذار)، أعلن قادة الصين أن نمو الناتج المحلي الإجمالي عام 2022 سيكون 5.5 في المئة، أي إلى المستويات المحققة عام 2019، قبل جائحة "كوفيد-19"، عندما كان النمو 5.9 في المئة. وتمسك القادة بهذا الهدف على الرغم من مجموعة من التحديات الاقتصادية الجديدة.
من أين يمكن أن يأتي نمو كهذا؟ هناك ثلاثة مصادر محتملة: استثمار الشركات، والاستهلاك الأسري والحكومي، والفوائض التجارية. وطبقاً للأرقام الرسمية، بلغ حجم الاقتصاد الصيني 17.7 تريليون دولار عام 2021، أي أن النمو بنسبة 5.5 في المئة سيعني نحو تريليون دولار إضافية عام 2022. وباعتماد النمو عام 2019 أساساً للمقارنة، سيحتاج استثمار الشركات في الصين إلى المساهمة بنحو 1.5 نقطة مئوية في اتجاه النمو البالغ 5.5 في المئة الذي تعد به بكين هذا العام. ولأن من المرجح أن يكون صافي الصادرات سلبياً ومن المرجح أن ينخفض الاستهلاك، سيحتاج الاستثمار إلى مساهمة أكبر – نحو 2.5 في المئة – في النمو هذا العام. لكن ما يقرب من نصف النمو كله في استثمار الشركات في السنوات الأخيرة كان مرتبطاً بقطاع العقارات. وتسامحت السلطات مع هذا الإفراط في الاستثمار على الرغم من المخاطر التي تحيط بتحقيق مستهدفات النمو السياسي، الأمر الذي أدى إلى ترك أكبر مطوري العقارات في أزمات عجز عن تسديد الديون. ولا توجد طريقة منطقية يمكن للاستثمار من خلالها إضافة 1.5 نقطة إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي عام 2022، ناهيك عن 2.5 في المئة. وفي قطاعات التكنولوجيا الفائقة "المشرقة"، كانت سلسلة من الإجراءات التنظيمية الجديدة غير المتوقعة سبباً في ترويع المستثمرين. فقد نضب معين إطلاق الشركات الجديدة من قبل رواد أعمال وهذه الشركات في منطقة سلبية جداً.
ومن المفترض زيادة الاستهلاك الأسري والحكومي معاً بحوالى 3.5 نقطة مئوية عام 2022 لبلوغ هدف النمو المفترض وقدره 5.5 في المئة. ولكن، أدى فرض إجراءات الإغلاق بسبب تفشي فيروس "كوفيد-19"، على 100 مليون مستهلك تقريباً إلى التسبب بجمود نشاط البيع بالتجزئة. ومن جهتها، تسرح الشركات الواعدة في قطاع التكنولوجيا الفائقة، التي يفترض بها أن تولد فرص عمل الموظفين بسبب تدخلات حكومية ترمي إلى السيطرة، الأمر الذي يحد من نمو الدخل، بالتالي القدرة على الاستهلاك. ومن جهة أخرى، تواجه الحكومات المحلية تقلصاً في قواعد الموارد المتاحة لها، التي تستخدمها لدعم إنفاقها، فقد أُمِرت بالتوقف عن بيع الأراضي إلى شركات التطوير العقاري في حين لا يحق لها تعويض تلك العوائد المفقودة من خلال زيادة الضرائب المفروضة أو فرض ضرائب جديدة. اليوم، يُطلَب إلى المسؤولين المحليين أن يفعلوا ما كان مداناً قبل وقت ليس بالبعيد: إصدار سندات خاصة بسرعة من دون تأمين كيفية سدادها. لكن حتى نهم الاستدانة البلدية لا يمكن أن يعوض عن انحسار فقاعة الإسكان وتباطؤ الاستهلاك الناتجين من "كوفيد-19". ويبدو أن مجرد تكرار قاعدة الإنفاق الاستهلاكي الخاصة بالعام الماضي، ناهيك عن زيادتها بمئات المليارات من الدولارات، سيكون صعباً.
أما عن الفائض التجاري الصيني، فهناك أسباب واضحة تدفع إلى توخي الحذر في شأن النمو. أولاً، مع بلوغ الصادرات إلى مستويات مرتفعة تاريخية بسبب الظروف الاستثنائية التي لا تحدث سوى مرة كل قرن والتي أنتجتها الجائحة، لا يوجد اتجاه محتمل غير التراجع. ثانياً، ساءت محددات التجارة الصينية (نسبة أسعار التصدير إلى أسعار الاستيراد) بسبب حرب روسيا على أوكرانيا وغير ذلك من التوترات الجيوسياسية التي تؤثر في الأسعار، وهذا يدفع فواتير الواردات الصينية إلى الارتفاع. ثالثاً، في أماكن أخرى من العالم، يتراجع "كوفيد-19"، وتعاود المصانع التي أُغلِقت أبوابها مؤقتاً إلى العمل، في حين تواجه مناطق التصدير في الصين مثل شنتشن وشنغهاي أزمات "كوفيد-19" الأكثر حدة التي شهدتها الصين منذ بدأت الجائحة.
إذا أخذنا هذه العناصر كلها بعين الاعتبار، سيكون من الصعب على الصين الحفاظ على نمو بنسبة اثنين في المئة هذا العام. ومع استمرار بكين في الإبلاغ عن نتائج تبدو أفضل بكثير من ذلك، كما فعلت في الفصل الأول من عام 2022، ستُضرَب مصداقية الحزب الشيوعي الصيني. فالشكوك في أرقام الصين تخيف بالفعل المستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء بعيداً من أسواق الصين، ولا ينبغي لنا أن نستبعد هذا العام نمواً صفرياً أو حتى انكماشاً اقتصادياً في حال قيس النمو بدقة.
لا إصلاح سريعاً
على النقيض من اليابان في تسعينيات القرن العشرين، إذ كانت البلاد واحدة من أكثر بلدان العالم ثراء وفق نصيب الفرد عندما انتكست إلى نمو منخفض، تُعَد الصين فقيرة نسبياً. فنصيب الفرد من الدخل في الصين يعادل حوالى 20 في المئة من نظيره في الولايات المتحدة، أي حوالى 12 ألف دولار سنوياً. ولا يعيش 900 مليون مواطن صيني بعد حياة مدنية مريحة وهم ينتظرون دورهم. وفي ضوء هذه الإمكانات غير الملباة، كان المرء ليتوقع عودة الصين إلى معدل أسرع للنمو بعد عام سيئ مثل عام 2022. لكن المشكلات التي تسهم في الوعكة الحالية ستؤثر سلباً في اقتصاد الصين لسنوات.
والأمر الأكثر لفتاً للنظر هو التحدي الديموغرافي الذي يواجه البلاد. لقد شهدت الصين انخفاضاً في النمو السكاني لسنوات، وهو اتجاه ليس غير معتاد مع ازدياد البلدان ثراء. لكن منذ عام 2015، هبط النمو السكاني في الصين من نحو 10 ملايين سنوياً إلى ما يقرب من الصفر، ويشير الاتجاه إلى مزيد من الانخفاض. وهناك ما يصل إلى 130 رجلاً لكل 100 امرأة في مقتبل العمر، لذلك من الطبيعي ألا يتمكن الجميع من الزواج. ويقرر عديد من المتزوجين عدم إنجاب أطفال أو الانتظار لفترة أطول للقيام بذلك مقارنة مع الأجيال السابقة، وذلك لأسباب متنوعة. فهم ببساطة يشعرون بالقلق إزاء الأعباء الاقتصادية التي يتحملونها. وعلى الرغم من أن مئات الملايين من الناس لم ينتقلوا بعد إلى الاقتصاد الحضري الحديث، تُعد مستويات التعليم والصحة لسكان المناطق الريفية في الصين سيئة، وألقى بعض الباحثين ظلالاً من الشك على قدرة هؤلاء على شغل حتى وظائف المصانع التي تتطلب عمالة مكثفة. عدد أقل من العاملين، وعدد أقل من المشترين المستقبليين للشقق غير المبنية بعد، وعدد أقل من المستهلكين: من المستحيل أن تختبئ هذه العوامل الديموغرافية الأساسية أو أن تتغير خلال بضع سنوات فقط.
وعلى نحو مماثل، لم يعد من الممكن للحزب الشيوعي الصيني أن يسمح لفقاعة العقارات بالعمل كمحفز قوي للنمو: سيكون الاستثمار في البناء مكبوحاً بالضرورة لسنوات نسبة إلى الماضي. وهناك مجال لتحويل الاستثمار إلى احتياجات جديدة غير ملباة، مثل الطاقة الخضراء، والمدارس، والمستشفيات، وجدران الاحتجاز اللازمة للجم مستويات سطح البحر المتزايدة، وعدد لا يحصى من الأولويات الأخرى. لكن القطاع المالي في الصين غير محفز أو منظم بعد لدفع الاستثمار نحو هذه المجالات. فتحقيق هذه الغاية يتطلب أولاً "انفجاراً كبيراً" للإصلاح المالي، ذلك ستعقبه بالضرورة فترة من التكيف البنيوي البطيء النمو. وآنذاك فقط يصبح بوسع الجيل التالي من استثمار الشركات أن يقترب من المستويات التي كان عليها في الأعوام الماضية. وليس هناك من الأدلة ما يشير إلى أن تحولاً كهذا يلوح في الأفق.
علاوةً على ذلك، يعد الابتكار التكنولوجي المحرك الأكثر أهمية للنمو الاقتصادي على الأجل البعيد. لقد امتصت الصين قدراً من التكنولوجيا من الخارج، واستفادت منه، أكبر ربما مما فعل أي بلد في التاريخ. لكن الشركات الأجنبية والبلدان الأخرى تتخذ الآن موقفاً أقل تساهلاً. وليس من الواضح ما إذا كان الابتكار الصيني الأصلي قادراً على تولي عصا القيادة ودفع عجلة النمو في المستقبل. فالشركات التي أثبتت قدرةً على الابتكار غالباً ما أحكمت الدولة سيطرتها عليها وبقوة خوفاً من بروز أطراف فاعلة مستقلة. وتبني شركات أخرى قاعدة تكنولوجية هائلة، ولكن بدعم ومساعدة الدولة فقط، ما يثير التساؤل حول مدى كفاءة هذه الشركات في البحث والتطوير وحول مقدار الوقت الذي تستطيع فيه الدولة أن تواصل تحمل تكاليف دعم هذه الشركات. ولا شك في أن نجاحات ستتحقق في ضوء الجهود التي يبذلها الحزب الشيوعي الصيني في مجال السياسات الصناعية. لكن تمويل الابتكار الصيني، بوصف التمويل نظاماً، ضعيف الأداء.
وهذه مشكلات بنيوية، وهي جزء لا يتجزأ من النظام، بالتالي، يمكن معالجتها. في الفترة بين عامي 1978 و2012، كانت العوائق البنيوية تُعالَج في كثير من الأحيان، فأطلقت العنان للنمو والتنمية في السنوات الـ 35 الماضية. لكن مشكلات كهذه لا تُعالَج اليوم، وفي أفضل تقدير ستمر سنوات قبل أن تحدث أي أثر معقول.
إعادة النظر
غالباً ما يُبنى الانطباع عن أداء الاقتصاد العالمي على الاعتقاد الشائع بأنه، على غرار الألماس، النمو الصيني سيستمر إلى الأبد. وبمجرد زعزعة الثقة بهذه السردية، ستكون العواقب وخيمة. فأسعار أسهم بعض الشركات مرتفعة لأن المستثمرين يفترضون أنها ستولّد أرباحاً في المستقبل من أعمال ذات صلة بالصين. ومع تباطؤ النمو في الصين، من المرجح أن تنخفض تقييمات هذه الأسهم. وقد تتراجع أسعار أسهم شركات أخرى بسبب مخاوف من المنافسة الصينية، وقد ترتفع تقييماتها. والأمر سيان بالنسبة إلى التقييمات البعيدة الأجل للسلع وغيرها من الأصول التي تستند إلى توقعات بالإقبال على عقد آخر من النمو الصيني السريع نسبياً.
فضلاً عن ذلك، تبدو العواقب الأخرى المترتبة على الحساب الاقتصادي الصيني واضحة. فقد مال مستثمرون أجانب – كل من هؤلاء الذين يشترون سندات وأولئك الذين يبنون المصانع – إلى الصين بسبب القدرة على توقع أوضاعها السياسية والنمو المرتبط بها: إذا قال الحزب الشيوعي الصيني إن معدل النمو سيكون ثمانية في المئة، كان معدل النمو عادة ثمانية في المئة. وإذا لف غموض هذه التوقعات، سيحتاج المستثمرون إلى علاوات أرباح أعلى لتبرير المخاطر التي يخوضونها.
وفي السنوات الأخيرة، بحث خبراء استراتيجيون في بلدان ديمقراطية عن سبل لإثناء شركاتهم عن الذهاب إلى الصين أو الضغط على تلك الموجودة هناك بالفعل للخروج من البلاد. وللمفارقة أن السوق ذاتها، في هيئة تحوط من احتمال انخفاض النمو الاقتصادي، بدأت في إرغام الشركات على اتخاذ هذه القرارات. ولا تحتاج السلطات الغربية إلى أمر الشركات بالحد من طموحاتها في الصين: ستؤدي الشفافية في شأن مدى الإجهاد الاقتصادي الكلي في الصين هذه المهمة في شكل طبيعي. يحدث انفكاك اختياري الآن، حتى من دون ضغط أقصى.
ستضغط التداعيات المترتبة عن التباطؤ في الصين على الديمقراطيات المستندة إلى السوق في شكل متفاوت، الأمر الذي سيؤدي إلى توترات بين الأصدقاء من ذوي التفكير المماثل. وستحض بكين بعض الشركات على الصمود في الصين وتعاقب بعضها الآخر. وهذا من شأنه أن يزرع بذور الشقاق وانعدام الثقة. لكن في الوقت نفسه، يعني انخفاض معدل النمو الصيني تراجع الأصول التي تجري منافسة حولها وتضاؤل أسباب المخاطرة بالسمعة والتضحية بالقيم. فإذا كانت الصين تمثل 30 في المئة من النمو الهامشي في الطلب العالمي على المركبات الفاخرة، مثلاً، يكون التواؤم بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في شأن السياسة التجارية أصعب مما لو كانت الحصة الصينية لا تتجاوز خمسة في المئة.
وبالنسبة إلى البلدان التي لا ترى الصين كمنافس اقتصادي فحسب، بل وأيضاً كمحرك لنموها، تعني التوقعات الصينية المخفضة توقعات أضعف لها أيضاً. وينطبق هذا على 55 بلداً أو نحو ذلك لديها فائض تجاري مع الصين، و139 بلداً اشتركت في مبادرة الحزام والطريق، والبلدان الأخرى التي تعتمد على السياح الصينيين (فرنسا)، أو طلب المؤسسات الصينية للخدمات (هونغ كونغ، وسنغافورة، والمملكة المتحدة)، أو غير ذلك من محركات النمو التي تعتمد على الصين. وقد تصاب أضعف هذه البلدان بالتهاب رئوي إذا أُصِيبت الصين بالبرد، ما يعني أنها قد تواجه متاعب في خدمة أعباء الديون التي اقترضتها وهي تتوقع نمواً مستداماً للطلب الصيني أو قد تعاني من اضطرابات سياسية إذا تبين أنها أخطأت باتخاذ قرار بالتواؤم مع بكين.
أخيرا وليس آخراً، يعني تباطؤ الاقتصاد الصيني أن الحزب الشيوعي الصيني سيتمتع بمساحة أقل للمناورة في الداخل. ففي ظل تضاؤل قوة الإنفاق، سيكون لزاماً على قادة الصين أن يقلقوا أكثر في شأن الاستقرار الاجتماعي. ويعني انخفاض القدرة المالية العامة تضاؤل الموارد المخصصة للاستثمار الخارجي والمساعدة الإنمائية الرسمية الخارجية. وستصبح الخيارات في مجال أولويات الإنفاق العام أكثر صعوبة. عام 2019، مثل إنفاق الصين العسكري البالغ 261 مليار دولار 1.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وفق أرقام رسمية، وكان ينمو بمعدل ستة في المئة سنوياً تقريباً، لكن عديداً من المراقبين يعتقدون بأن هذا الإنفاق أعلى وينمو بسرعة أكبر. ويصل دعم السياسات الصناعية، لا سيما الهادف إلى تعميق التكنولوجيا، إلى مئات المليارات من الدولارات سنوياً. وتتضاءل هذه الأرقام بالمقارنة بتزايد النفقات الدائمة على التعليم، والرعاية الصحية، والبنية التحتية، والمرتبات الحكومية، وخدمة الديون الحكومية، والتزامات أخرى. لا بد من تقليص الوعود المالية العامة التي قُدِّمت بافتراض نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة خمسة في المئة أو أكثر. فبكين لا تستطيع أن تفعل كل ما تمنته. لقد بنى الحزب أدوات استبدادية لقمع السخط والاستياء، لكن هذه الأدوات لم تُختبَر إلا أثناء الفترة الطويلة من معدل النمو المرتفع.
هل تقر بكين إزاء هذه الرياح المعاكسة بأخطائها وتعيد توجيه سياساتها نحو تحقيق اقتصاد السوق الذي كان سبباً في إنجاز عقود من النمو بمعدل يتجاوز 10 في المئة؟ أو هل يأخذ الحزب الشيوعي الصيني المسار المعاكس تماماً، فيغرق أكثر في الدولة المركزية المتحكمة والمسيطرة؟ لقد شهد القرن الماضي الصين تسير في الاتجاهين. ولا يستطيع المرء أن يكون على يقين، حتى مع وجود شي على رأس السلطة. لكن الصين لا تستطيع امتلاك الدولة المركزية الحاضرة ومعدلات النمو القوية الماضية: سيكون لزاماً عليها أن تختار. وهذا الواقع يؤجج المناقشة والخلاف حول المرحلة المقبلة. في الأسابيع الأخيرة، نشر فريق من المسؤولين وعوداً لجذب المستثمرين في حين أصر فريق آخر على أن معدل النمو كان بخير، وأن الأهداف ستتحقق، وأن أي تصحيحات لن تُتّخَذ. وسيؤدي تباطؤ معدل النمو إلى دفع هذه المعركة إلى المقدمة.
الصدق أفضل السياسات
يتعين على واشنطن أن تلفت الانتباه إلى حقائق المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها الصين على نحو مسؤول. وثمة ثلاث قواعد يجب مراعاتها عند القيام بذلك. أولاً، الموضوعية. وهذا يعني تمكين المسؤولين الأميركيين من خلال تزويدهم بتحليلات دقيقة لطبيعة التحديات الاقتصادية التي تواجهها الصين والآثار غير المباشرة التي قد تترتب على ذلك. فقادة الولايات المتحدة كثيراً ما مارسوا لعبة اللحاق بالركب لفهم أهمية فترة النمو المرتفع في الصين، سيكون الانتكاس إلى نمو أبطأ عميقاً بالقدر نفسه، ومن المهم أن يكون المسؤولون في السلطة التنفيذية والكونغرس مستعدين لتفسير هذا الانتكاس والاستجابة له في شكل فاعل.
ثانياً، الاهتمام بذكاء بالمصلحة الذاتية. قد يستفيد بعض المسؤولون من المتاعب الاقتصادية التي تواجهها الصين للسعي إلى تحقيق الحد الأقصى من الانفصال، بإغلاق التدفقات التجارية والاستثمارية كلها. وهذا ليس حكيماً على الإطلاق: من شأن الطلاق الاقتصادي أن يفرض تكاليف باهظة، وأن يفاقم معدل التضخم، وألا يخدم أي غرض استراتيجي. تتلخص الاستجابة المراعية للمصلحة الذاتية للانكماش الاقتصادي في الصين في الحفاظ على سياسات تجارية واستثمارية تكون قابلة للتوقع بأكبر قدر ممكن، والتكيف بمرور الوقت لخدمة رفاه الأميركيين جميعاً، والحد من المخاوف الأمنية الناشئة حديثاً. وهذا الموقف مهم لأنه يعمل على تعزيز الرخاء الأميركي إلى الحد الأقصى ويحافظ على الموارد اللازمة لحل المعضلات الأمنية الحقيقية حين تنشأ. وسيشجع أيضاً على التنسيق بين واشنطن وحلفائها وشركائها. وكان هذا التواؤم العنصر الأكثر قوة في الرد الغربي على العدوان الروسي، وسيكون حاسماً في نجاح عملية إعادة الضبط مع الصين. ولا بد من أن تكون العواقب المترتبة على التباطؤ في الصين نقطة مناقشة منتظمة في مجموعة البلدان السبعة، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومجلس التجارة والتكنولوجيا الأميركي الأوروبي، والحوار الأمني الرباعي، وغير ذلك من المنتديات المتعددة الأطراف.
وأخيراً، يتعين على واشنطن أن تتخذ نبرة واقعية وبناءة في مناقشة المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها الصين: ذلك أن الشماتة ستكون هدامة. فتباطؤ النمو يعيق رفاه 1.4 مليار صيني وعدد لا يحصى من الناس في مختلف أنحاء العالم. وقد يقود الصين إلى مزيد من المسارات الاجتماعية والسياسية غير الليبرالية بالسهولة نفسها التي يقود بها الصين نحو الإصلاح. والواقع أن المسؤولين في واشنطن وغيرها من العواصم الغربية لديهم مصلحة مشروعة في حظوظ الأمة الأكثر اكتظاظاً بالسكان على مستوى العالم، وهم يتحملون المسؤولية عن معالجة المخاطر الاقتصادية العالمية التي قد تنتج عن التباطؤ الصيني. فالرسائل المناسبة تتمثل بالإعجاب بالشعب الصيني وبأربعة عقود من التنمية المستدامة الاستثنائية التي أشرف عليها قادته، والتواضع القائل بأن الديمقراطيات الصناعية المتقدمة مرت بفترات من التكيف المؤلم في رحلاتها التنموية أيضاً، والاستعداد لاستعادة قنوات التعاون إذا طلبت بكين ذلك، والتأكيد على أن الغرب لا يسعى إلى استغلال التحديات الاقتصادية التي تواجهها الصين، بل يريد بدلاً من ذلك أن يراها وقد حُلَّت على نحو مستدام. لا ينبغي للصين أن تخسر حتى تتمكن الولايات المتحدة من الفوز.
اضف تعليق