الضغوط التضخمية تعكس عاملي العرض والطلب اللذين لا يمكنهما تحديد الحجم المضبوط للمشتريات والمبيعات من خلال الدمج بينهما. ولكن عند النظر إلى الاقتصاد ككل، من غير المعقول أن ينضاف كل ما يقال عن الإمدادات الفردية إلى التضخم العام الذي لاحظناه. ومن المرجح أن تتجاوز الزيادة في الطلب...
بقلم: جيسون فورمان

كمبريدج- قدم المعلقون عموماً حجتين بشأن أداء الاقتصادات المتقدمة منذ ظهور فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، وفقط إحداهما قد تكون صحيحة. وتقول الأولى أن الاقتصاد انتعش بسرعة مفاجئة تجاوزت ما توقعه المتنبئون، وجعلته يتميز عن اقتصادات فترات ما بعد الركود السابقة.

وتقول الحجة الثانية أن التضخم قد وصل في الآونة الأخيرة إلى مستوياته المرتفعة بسبب التطورات غير المتوقعة في جانب العرض، بما في ذلك سلسلة التوريد مثل نقص أشباه الموصلات، والتحول المستمر بصورة غير متوقعة في الخدمات واستهلاك السلع، وتأخر الناس في التحاقهم بالقوة العاملة، واستمرار الفيروس.

وهناك احتمال أكبر أن تكون الحجة الأولى صحيحة مقارنة مع الحجة الثانية. إذ يشير نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي القوي (المعدل حسب التضخم) إلى أن النشاط الاقتصادي لم يتأثر إلى حد كبير بمشاكل العرض، وأن التضخم الأخير مدفوع في غالبه بالطلب. وفضلا عن ذلك، هناك سبب يدعونا لتوقع أن يظل الطلب قويًا للغاية، مما يعني أن التضخم سيستمر.

ومن المؤكد أن الضغوط التضخمية تعكس عاملي العرض والطلب اللذين لا يمكنهما تحديد الحجم المضبوط للمشتريات والمبيعات من خلال الدمج بينهما. ولكن عند النظر إلى الاقتصاد ككل، من غير المعقول أن ينضاف كل ما يقال عن الإمدادات الفردية إلى التضخم العام الذي لاحظناه. ومن المرجح أن تتجاوز الزيادة في الطلب ما يمكن أن ينتجه الاقتصاد، مما سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار.

ومن البديهي أن نمو السعر يساوي نمو الناتج الاسمي مطروحًا منه نمو الناتج الحقيقي (مع اختلاف بسيط بسبب التعقيد). فعلى مدار عام 2021، نما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للولايات المتحدة بنسبة 5.5٪، ونما الناتج المحلي الإجمالي الاسمي بحوالي 11.5٪، ومن ثم، بلغ نمو سعر الناتج المحلي الإجمالي ما يقارب 5.9٪. وبالنسبة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ككل، كان نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي أقل قليلاً، حيث بلغ 4.9٪، وبلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي الاسمي 10.4٪، بعائد في تضخم أسعار الناتج المحلي الإجمالي بلغ 5.2٪.

وتذكر أن صانعي السياسات إما قدموا حماية واسعة النطاق للدخل الشخصي المتاح أو زادوا من قيمته في وقت كانت فيه إمكانيات الاستهلاك مقيدة (خلال معظم عام 2020). وإذا أخذ المرء في الاعتبار هذه المدخرات الزائدة إلى جانب استمرار انخفاض أسعار الفائدة خلال معظم عام 2021، وارتفاع سوق الأوراق المالية، والطلب المكبوت، والدعم المالي الإضافي، فإن حجم الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي الاسمي ليس مفاجئًا بصورة خاصة. إذ في الولايات المتحدة، بلغ إجمالي التحفيز المالي التقديري 2 تريليون دولار في السنة التقويمية 2021، لكن الناتج المحلي الإجمالي الاسمي كان أعلى بمقدار 1.6 تريليون دولار فقط مما كان عليه في عام 2019. وبالمقابل، فإن المفاجأة هي أن الإنفاق الاسمي كان مقيدًا للغاية، وأن معدلات الادخار ظلت مرتفعة كذلك.

ماذا عن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي؟ في هذا السياق ينبغي لنا أن نتذكر أن كل ما يقال بشأن العرض يعني أن الناتج الحقيقي كان مقيدًا. ويُشاع أن الاستهلاك تحول من الخدمات إلى السلع، ولأن عملية إنتاج السلع عملية تستجيب بقدر أقل لتغيرات السوق ("غير مرنة بقدر أكبر")، فإنها لا يمكن أن تتوسع بسرعة كافية. ويقال أيضا أن عرض العمالة كان مقيدًا بالوباء واستجابة السياسة (بسبب ضعف عرض العمالة في الولايات المتحدة، وانخفاض ساعات العمل في أوروبا). ولا تزال هناك روايات أخرى تركز على أسواق معينة، مثل انخفاض إنتاج الرقائق الدقيقة أو الازدحام في الموانئ الأمريكية.

والمشكلة في هذه الروايات لا تكمن في كونها خاطئة؛ بل في كونها تغفل عن أهم ما يقال عن الاقتصادات التي شهدت أيضًا نموًا قويًا مذهلا في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي. إذ تمتعت الاقتصادات الكبرى بانتعاش أسرع مما كانت عليه في أعقاب الأزمة المالية العالمية. وفي الواقع، اتخذ الانتعاش في معظم البلدان شكل حرف V أكثر من أي شيء آخر شهدناه منذ عقود. وتجاوز النمو في عام 2021 ما توقعه المتنبئون إلى حد كبير في نهاية عام 2020، عندما كان المتنبئون متفائلون بالفعل بشأن القضاء على كوفيد-19.

وعلى العموم، نما الاقتصاد الأمريكي بنسبة 1.6٪ سنويًا من نهاية عام 2019 إلى نهاية عام 2021، وهو أقل قليلاً فقط من التقديرات السابقة لإمكانيات الاقتصاد. وهذا إنجاز مذهل بالنظر إلى جميع الرياح المعاكسة التي أدت إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي المحتمل بما في ذلك، انخفاض معدلات الهجرة، والوفيات المبكرة، وانخفاض تكوين رأس المال، والتباطؤ المرتبط بارتفاع معدلات البطالة.

إن بيت القصيد ليس هو عدم وجود مشكلات تتعلق بسلسلة التوريد. فقد تراكمت السفن بالفعل في الموانئ، وتؤخر شركات التصنيع حقًا الإنتاج بسبب نقص الرقائق الدقيقة. ولكن هذا ليس بالضرورة دليلًا على حدوث تغيير سلبي في العرض. وإذا أعطينا كل أسرة ملايين الدولارات، فسيؤدي ذلك أيضًا إلى تراكم في الموانئ وتحميل شركات التصنيع ما يفوق طاقتها. إن الارتفاع الكبير في حجم السلع، المحدد من خلال حجم الموانئ ومستوى إنتاج الرقائق العالمية، ناهيك عن معدلات الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، يشير إلى أن مشكلتنا لا تتمثل أساسًا في انخفاض العرض بل في زيادة الطلب.

وإذا نظرنا إلى المستقبل، هناك بعض الأسباب تجعلنا نتوقع أن الطلب سيهدأ، ولكن يجب موازنة هذه الأسباب في الميزان. إن الدعم المالي آخذ في التراجع بالفعل في كل مكان. وبدأت أسعار الفائدة في الارتفاع في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وسترتفع في وقت لاحق من هذا العام في أوروبا أيضًا. كما تراجعت أسواق الأسهم تراجعا حادا في الآونة الأخيرة.

ولكن لا يزال لدى الأسر فائض كبير في المدخرات، ولا يزال الموقف العام للسياسة النقدية متكيفًا، مما يشير إلى أن الطلب سيظل قوياً. وفضلا عن ذلك، نظرا للحرب الروسية في أوكرانيا، هناك الآن صدمة إمداد كبيرة بالفعل تزيد من التضخم في شكل ارتفاع أسعار النفط والغاز (خاصة في أوروبا). وإذا دمجنا ذلك مع الزيادة في التوقعات التضخمية على المدى القصير، فلنتوقع أن يظل التضخم مرتفعا لبعض الوقت.

* جيسون فورمان، الرئيس السابق لمجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس باراك أوباما، وأستاذ ممارسة السياسة الاقتصادية في كلية جون إف كينيدي للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد وزميل أول في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي.
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق