سيكون هذا الإنفاق ممولا إلى حد كبير عن طريق المشتريات من سندات بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، مع قدوم الزيادات الضريبية في وقت لاحق. ولكن هل يمثل هذا أكبر تعبئة للاستثمارات العامة في الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، أو أنه مجرد تبذير تضخمي؟ لا نعرف حتى الآن...
بقلم: روبرت سكيدلسكي
لندن ــ شَـرَعَ الرئيس الأميركي جو بايدن في محاكاة فرانكلين ديلانو روزفلت بإنفاق مبالغ ضخمة من المال، وهو الأمر الذي تجنب روزفلت القيام به حتى الحرب العالمية الثانية. وهذا يهدد بإحداث نوع من التضخم الذي حطم السياسات الاقتصادية الكينزية في سبعينيات القرن العشرين.
منذ يناير/كانون الثاني من عام 2021، أنفقت إدارة بايدن أو تعهدت بإنفاق 1.9 تريليون دولار أميركي لأغراض الإغاثة الفورية من جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، ونحو 2.7 تريليون دولار للاستثمار ودعم الأعمال، ونحو 1.8 تريليون دولار للشؤون الاجتماعية والتعليم. يبلغ المجموع 6.4 تريليون دولار، أو ما يقرب من 30% من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي. ومن المقرر أن يتضاءل تدريجيا مبلغ الـ 1.9 مليار دولار الذي جرى تسليمه بالفعل من خلال الإنفاق على جهود مكافحة فيروس كورونا، وهذا يترك 4.5 تريليون دولار، أو نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي، يمكن إنفاقها على مدار السنوات العشر القادمة.
سيكون هذا الإنفاق ممولا إلى حد كبير عن طريق المشتريات من سندات بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، مع قدوم الزيادات الضريبية في وقت لاحق. ولكن هل يمثل هذا أكبر تعبئة للاستثمارات العامة في الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، أو أنه مجرد تبذير تضخمي؟
لا نعرف حتى الآن، لأننا ليس لدينا طريقة دقيقة لقياس فجوة الإنتاج ــ الفارق بين الناتج الحقيقي والمحتمل، أو بشكل تقريبي المقدار الذي يمكن استيعابه من الركود في الاقتصاد قبل أن تبدأ الأسعار في الارتفاع. يتوقع صندوق النقد الدولي نمو الاقتصاد الأميركي بما يتجاوز إمكاناته بحلول نهاية هذا العام، وأن تكون الاقتصادات الأوروبية قريبة من إمكاناتها. هذا يشير إلى التضخم في المستقبل والحاجة إلى عكس تمويل العجز.
في مقابل وجه النظر الجامدة هذه هناك الاعتقاد ــ أو الأمل ــ في أن تعمل برامج الاستثمار الحكومية على زيادة ناتج الاقتصاد الأميركي المحتمل، فتتيح بالتالي نموا أسرع غير تضخمي. يدور قسم كبير من "اقتصاد بايدن" حول تحسين إنتاجية قوة العمل من خلال التعليم والتدريب. لكن هذا برنامج طويل الأمد. في الأمد القريب، من الممكن أن يؤدي ما يسمى "اختناقات" جانب العرض إلى دفع التضخم. ولا يخلو الأمر بالتالي من خطر ملموس يتمثل في أن تفسح الأجندة المفرطة الطموح المجال لانتكاسات سياسية مفاجئة، وتجدد الركود، وخيبة الأمل.
ينطوي الأمر أيضا على مسار متاح أكثر ثباتا، لكن إدارة بايدن تجاهلت اقتراحين جذريين ربما يجعلان حياتها أسهل كثيرا. يتمثل الأول في ضمان الوظائف الفيدرالي. ببساطة، ينبغي للحكومة أن تضمن وظيفة لأي شخص لا يستطيع العثور على عمل في القطاع الخاص، بأجر ثابت للساعة لا يقل عن الحد الأدنى الوطني للأجور.
يشتمل هذا المخطط على العديد من المزايا، لكن اثنتين من هذه المزايا أساسيتان. فأولا، من شأن ضمان الوظائف على المستوى الفيدرالي أن يلغي الحاجة إلى حساب فجوات الناتج، لأنه لن يستهدف الطلب على الناتج في المستقبل بل الطلب الحاضر على العمالة. وهذا بدوره يضمن تعريفا لا لبس فيه للتشغيل الكامل للعمالة: الذي يتحقق فقط عندما يكون كل مستعد، وراغب، وقادر على العمل موظفا بشكل مربح بأجر أساسي محدد. على هذا الأساس، يتبين أن البطالة الجزئية في الولايات المتحدة اليوم كبيرة، بما في ذلك بين الأشخاص الذين انسحبوا من سوق العمل أو يعملون أقل مما يريدون حقا.
ثانيا، يعمل ضمان الوظيفة كمخزن مؤقت لسوق العمل يتوسع وينكمش تلقائيا مع دورة الأعمال. الواقع أن قانون همفري هوكينز لعام 1978 في الولايات المتحدة ــ الذي لم ينفذ مطلقا ــ "خول" الحكومة الفيدرالية سلطة إنشاء "احتياطيات من العمالة العامة" لموازنة التقلبات في الإنفاق الخاص.
سوف تُـسـتَـنـفَـد هذه المخزونات وتمتلئ تلقائيا مع نمو الاقتصاد الخاص وتضاؤله، ويُـعَـد هذا عامل استقرار تلقائيا أقوى كثيرا من التأمين ضد البطالة. كما تقول بافلينا ر. تشيرنيفا من كلية بارد، "يستمر ضمان الوظائف في تثبيت النمو الاقتصادي والأسعار، بالاستعانة بمجمع من الأفراد العاملين لهذا الغرض وليس جيشا احتياطيا من العاطلين عن العمل". ولن ينطوي هذا الأمر على أي "إدارة" لدورة الأعمال بما يصاحبها من مخاطر سياسية معروفة.
تتمثل الفكرة الثانية في خطة التجارة الحرة المعوض عنها التي وضعها الاقتصادي فلاديمير ماش. خسرت أميركا الملايين من وظائف التصنيع في هذه الألفية حتى الآن، ويرجع هذا إلى حد كبير إلى نقل الإنتاج إلى الخارج إلى أسواق العمل الأرخص في آسيا. وكان المقابل لهذا عجز بنيوي في الحساب الجاري الأميركي يبلغ 5% من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط.
يتمثل أحد أهداف إدارة بايدن الرئيسية في إعادة بناء القدرة التصنيعية الأميركية. في حين عززت جائحة كوفيد-19 الحكمة التقليدية السائدة بين جميع البلدان المتراجعة عن التصنيع بوجوب الحفاظ على المشتريات "الأساسية" للمصنعين المحليين، فإن جهود بايدن المتمثلة في شعار "صُـنِـع في أميركا" تعكس نهج الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب المتمثل في شعار "أميركا أولا". لكن خطة بايدن لإعادة التوازن إلى التجارة الأميركية عن طريق تقديم الإعانات الضريبية للمنتجين المحليين، والصفقات التجارية، والاتفاقيات الدولية، بدلا من التعريفات الجمركية والإهانات، غامضة وغير مقنعة.
في عالَـم من ثاني أفضل الخيارات، تقدم خطة ماش الطريقة الأسرع والأكثر أناقة التي قد يتمكن بها بايدن من تأمين التجارة المتوازنة التي يريدها. المبدأ الأساسي بسيط: إذ ينبغي لأي حكومة في وضع يسمح لها بالقيام بذلك أن تعمل من جانب واحد على تحديد سقف لعجزها التجاري الإجمالي، مع وضع حد أقصى لقيمة الواردات المسموح بها من كل شريك تجاري وفقا لذلك.
على سبيل المثال، قد يوضع حد للواردات الأميركية من الصين، التي تمثل نحو 300 مليار دولار من العجز التجاري الأميركي الحالي ــ نصف الإجمالي ــ بحيث لا تتجاوز ما قيمته 200 مليار دولار. وإذا صَـدَّرَت الصين ما يزيد على ذلك، فيمكنها إما أن تدفع غرامة تعادل الزيادة عن حصتها أو تواجه خطر الحظر على الصادرات الزائدة.
يزعم ماش أن التجارة الحرة المعوض عنها "من شأنها أن تعمل على تحفيز عودة المؤسسات والوظائف إلى الولايات المتحدة من الخارج". كما أنها ستمنع تلقائيا اندلاع أي حروب تجارية، لأن "أي محاولة من جانب دولة الفائض لتقليل قيمة وارداتها من الولايات المتحدة ستؤدي تلقائيا إلى التقليل من قيمة الصادرات المسموح بها لها".
يتعين على صناع السياسات الذين يسعون إلى تحفيز الاقتصاد أن يولوا قدرا من الاهتمام أكبر من ذلك الذي أولاه أتباع جون ماينارد كينز في الماضي لتجنب التضخم وضمان عدم التعويض عن خلق فرص العمل في الداخل باستنزاف القدرة الإنتاجية في الخارج. لن يكون أمام إدارة بايدن أي اختيار غير أن تتعلم هذه الدروس. وإذا كانت حكيمة، فسوف تتجنب التقشف والتجارة غير المقيدة لصالح التشغيل الكامل للعمالة والقدرة التصنيعية اللازمة لتحقيق ذلك.
اضف تعليق