تكمن المشكلة في هذه المناقشة في أن كلا من مؤيدي ومنتقدي خطة بايدن التحفيزية يفترضون وجود مبلغ بالدولار كبير بالقدر الكافي، لكنه ليس أكبر مما ينبغي. يختلف الجانبان حول الرقم. في الواقع، لا وجود لمثل هذا الرقم: فكل حجم ممكن من التحفيز سيكون أصغر مما ينبغي...
بقلم: يانيس فاروفاكيس
أثينا ــ في مواجهة التحدي الكبير المتمثل في ضرورة تحفيز اقتصاد الولايات المتحدة في فترة ما بعد الجائحة، وفي ظل شبح التحفيز الفاتر الذي أقره الرئيس السابق باراك أوباما قبل عشر سنوات في مواجهة الركود العظيم، قرر الرئيس جو بايدن أن الميل في اتجاه تجاوز الهدف أسلم. فهو يريد "تحري الحجم الضخم" بوضع خطة إنفاق بقيمة 1.9 تريليون دولار.
يحذر وسطيون بارزون مثل لاري سمرز وأوليفيه بلانشارد من أن القرار الذي اتخذه بايدن ربما يقوده إلى الفشل. تستند حجتهم إلى أن الإفراط في التحفيز من شأنه أن يؤدي إلى طفرة تضخمية، مما يسفر عن ارتفاع أسعار الفائدة إلى الحد الذي قد يجبر إدارته على الضغط بشدة على مكابح التقشف قبل انتخابات التجديد النصفي في عام 2022 بفترة وجيزة، مما يكلف الحزب الديمقراطي سيطرته على الكونجرس ــ تماما كما كلف التحفيز الأقل مما ينبغي أوباما السيطرة على الكونجرس في انتخابات التجديد النصفي في عام 2010.
تكمن المشكلة في هذه المناقشة في أن كلا من مؤيدي ومنتقدي خطة بايدن التحفيزية يفترضون وجود مبلغ بالدولار كبير بالقدر الكافي، لكنه ليس أكبر مما ينبغي. يختلف الجانبان حول الرقم. في الواقع، لا وجود لمثل هذا الرقم: فكل حجم ممكن من التحفيز سيكون أصغر مما ينبغي وأكبر مما ينبغي في ذات الوقت.
لكي نعرف لماذا لا يوجد تحفيز "مثالي" يتوصل إلى الكم "المناسب تماما"، من المفيد أن نُـشـرِك المنتقدين الذين يزعمون أن اقتراح الإدارة من شأنه أن يؤدي إلى احتدام النشاط الاقتصادي وتسليم الجمهوريين انتخابات التجديد النصفي نتيجة لذلك. في صميم نبوءتهم يكمن افتراضهم الضمني بأن هناك أيضا سعر فائدة مثاليا وحجم التحفيز المقابل الذي سيقود إلى هذا السعر المثالي.
تُرى ما الذي قد يجعل أي سعر فائدة "مناسبا تماما"؟ أولا، يجب أن يحقق التوازن الصحيح بين المدخرات المتاحة والاستثمار الإنتاجي. ثانيا، لا يجب أن يطلق العنان لسلسلة من إفلاس الشركات، والقروض المتعثرة، وأزمة مصرفية جديدة. وهنا تكمن المشكلة: فليس من الواضح على الإطلاق أن هناك سعر فائدة واحدا يمكنه تحقيق الأمرين معا.
ذات يوم، كان هذا واردا. ففي خمسينيات وأوائل ستينيات القرن العشرين، في ظل نظام بريتون وودز، نجح سعر فائدة بنحو 4% في إيجاد التوازن بين المدخرات والاستثمار في حين حافظ على ربحية البنوك عند المستوى الذي سمح للائتمان بإنتاج نفسه على نحو مستدام.
في ذلك الوقت، إذا انخفض الاستثمار إلى ما دون مستوى المدخرات المتاحة لفترة أطول مما ينبغي، وفشل في التعافي على الرغم من خفض سعر الفائدة، كان بوسع التحفيز الحكومي الجيد التصميم زيادة الاستثمار إلى مستوى المدخرات، فيرتفع سعر الفائدة، ويستعاد التوازن. من المؤسف أننا لم نعد نعيش في مثل هذا العالَـم.
السبب في أن الرأسمالية لم تعد تعمل على هذا النحو هو الطريقة التي أعادت بها إدارة أوباما، بمساعدة وتحريض من بنك الاحتياطي الفيدرالي، تعويم البنوك الغربية الغارقة. وكانت أزمة عام 2008 عميقة ومروعة بقدر أزمة عام 1929.
فكما حدث في 1929، أدت حالات الإفلاس المتتالية، والبطالة، وانخفاض الأسعار، إلى إحجام الجميع عن الاقتراض. وهبطت أسعار الفائدة إلى الصِـفر ووقعت الرأسمالية في ما أشار إليه جون ماينارد كينز باسم "فخ السيولة". فبمجرد الانخفاض إلى الصِـفر، يصبح من المستحيل أن ينخفض سعر الفائدة إلى ما دون ذلك كثيرا دون تدمير ما تبقى من القطاع المصرفي، وشركات التأمين، وصناديق معاشات التقاعد، وغير ذلك من المؤسسات المالية.
كان الفارق الأكبر بين أزمة 1929 وأزمة 2008 هو أن البنوك لم يُـسـمَـح لها بالفشل في الحالة الأخيرة. كانت إحدى الطرق لإنقاذها تتلخص في التحفيز المالي الضخم بالقدر الكافي. إذ كان من شأن ضخ الأموال المطبوعة حديثا بشكل مباشر إلى المستهلكين والشركات ــ لسداد الديون وزيادة الاستهلاك والاستثمار ــ أن يساعد في إعادة تعويم مين ستريت، وبشكل غير مباشر وال ستريت. كان هذا هو الطريق الذي لم تسلكه إدارة أوباما.
بدلا من ذلك قام الاحتياطي الفيدرالي بطباعة تريليونات الدولارات، وأعيد تعويم البنوك الفاشلة بشكل مباشر. ولكن على الرغم من إنقاذ البنوك، لم يتحرر الاقتصاد من فخ السيولة. وأقرضت البنوك الأموال الجديدة للشركات، ولكن لأن عملاء البنوك لم يجدوا من يعومهم، فلم يكن المديرون على استعداد للمخاطرة بضخ الأموال إلى الوظائف الجيدة، أو البنايات، أو الآلات. بدلا من ذلك، أخذت البنوك الأموال إلى سوق الأسهم، مما تسبب في أكبر انفصال على الإطلاق بين أسعار الأسهم والاقتصاد الحقيقي.
في أعقاب تجربة الاقتراب من الموت في وال ستريت في عام 2008، أصبحت الشركات مدمنة (تقريبا) على الائتمان بلا فائدة وتقييمات الأسهم المتزايدة الارتفاع التي تحدت الأرباح المنخفضة. وتضاءل الاستثمار في مقابل إجمالي المدخرات، وكانت الأجور الكلية عند أدنى مستوياتها على الإطلاق، وظل الإنفاق الاستهلاكي هزيلا. ثم اندلعت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) بشكل مفاجئ، مع تسبب الإغلاق الذي أعقب ذلك في توجيه ضربات قوية لكل من جانبي العرض والطلب في الاقتصاد.
تفسر لنا السنوات الاثنتي عشرة السابقة لاندلاع الجائحة لماذا قد يعجز حافز ضخم اليوم عن تحقيق ما كان ليحققه في عام 2009. يجب أن يؤدي التحفيز الناجح إلى دفع الاستثمار إلى الاقتراب من مستوى المدخرات المتاحة. ولكن بمجرد أن تستشعر الأسواق المالية أن هذا يوشك أن يحدث، فإنها ستدفع أسعار الفائدة إلى الارتفاع إلى مستوى يعكس التوازن الأفضل بين المدخرات والاستثمار. وعلى الفور، ستواجه الشركات التي أدمنت أسعار الفائدة المنخفضة الخراب؛ وكذلك البنوك التي تتعامل معها.
نظريا، قد يكون من الممكن منع هذه النتيجة إذا نجح التحفيز في تعزيز الدخول والاستهلاك في ذات الوقت، حتى يتسنى للدخول المتزايدة التي تحققها الشركات التعويض عن أسعار الفائدة المرتفعة. ولكن في الممارسة العملية، لا يوجد الوقت الكافي للسماح للشركات بالتخلي عن اعتمادها على أسعار الفائدة المنخفضة، لأن أي حافز يستغرق وقتا أطول لتحفيز الدخول مقارنة بالوقت الذي يستغرقه لزيادة أسعار الفائدة.
وعلى هذا فقد تسبب الجمع بين فخ السيولة واثنتي عشرة سنة من اعتماد الشركات على أسعار فائدة قريبة من الصِـفر في ضمان فشل أي تحفيز مالي الآن، مهما بلغ حجمه من ضخامة، في تحقيق واحد من هدفيه الحاسمين أو كليهما: تعزيز الاستثمار ومنع سلسلة من ردود الفعل المتمثلة في إفلاس الشركات.
ربما كان الاتجاه إلى "الحجم الضخم" لينجح في عام 2009، ولكن في عام 2021 يتعين على بايدن أن يذهب إلى ما هو أبعد من التحفيز المالي. فمهما بلغ حجم الأموال التي يضخها إلى شرايين الاقتصاد الأميركي من ضخامة، فسوف يفشل ما لم يفعل ما هو ضروري لرفع قدرة الإنفاق بين أولئك الذين لا يملكون أي شيء تقريبا: فرض الحد الأدنى اللائق للأجور، والمساومة الجماعية الإلزامية، والمدفوعات المباشرة غير المشروطة.
اضف تعليق