تعود بعض اسباب التحول في ادوات مواجهة جائحة كورونا الى انحسار أثر السياسات التوسعية التي اتخذت في معظم بلدان العالم لتطويق تداعيات فيروس كورونا وعدم قدرة الحكومات انتهاج سياسات توسعية مستمرة ترفع من فاتورة الدين العام وتضعف المحركات التلقائية لاقتصاد السوق في استرجاع نشاطه ذاتيا...
تفيد معظم الدراسات والتقارير الطبية الى استمرار تفشي فيروس كورونا خلال الشهور القادمة مع صعوبة التوصل الى علاج ناجع ورخيص في القريب العاجل. وقد الزم الواقع الجديد معظم بلدان العالم صوب التعايش مع الفيروس مع تعزيز الاجراءات التحوطية، بدلا من سياسة الحجر الصحي وما خلفته من جمود شبه كلي في معظم القطاعات الاقتصادية في كافة ارجاء العالم.
وتعود بعض اسباب التحول في ادوات مواجهة جائحة كورونا الى انحسار أثر السياسات التوسعية التي اتخذت في معظم بلدان العالم لتطويق تداعيات فيروس كورونا وعدم قدرة الحكومات انتهاج سياسات توسعية مستمرة ترفع من فاتورة الدين العام وتضعف المحركات التلقائية لاقتصاد السوق في استرجاع نشاطه ذاتيا.
فرغم اتباع سياسات مالية ونقدية تحفيزية في العديد من بلدان العالم، بلغت قرابة 10% من الناتج المحلي الاجمالي، الا انها لم تؤدي الى النتائج المتوخاة على صعيد تعزيز الاستهلاك والاستثمار، وكانت دون طموح صناع القرار نظرا لتسرب جزء كبير من الجرعات النقدية الحكومية من دورة الدخل الى الاحتياطات الوقائية نتيجة حالات الذعر وعدم اليقين التي تنتاب معظم الافراد والاسر والشركات على حد سواء. ومن الواضح الآن أن الوباء سيستمر لفترة أطول بكثير من بضعة أسابيع، كما كان مُتوقعًا في البداية عندما تم تنفيذ هذه التدابير الوقائية الطارئة، مما يعني أن جميع برامج الدعم والاسناد الاقتصادي تحتاج إلى اعادة تقييم أكثر دقة من منظور طويل الأجل.
الاقتصاد العالمي ما بعد الجائحة
من المرجح ان يتقلص الاقتصاد العالمي نتيجة الصدمة الصحية التي ضربت كافة القطاعات الاقتصادية في البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء. ويعود ذلك الى جملة من الاسباب بحسب الاقتصادي المرموق جوزيف ستغلز، لعل اهمها:
1- تراجع الانفاق الكلي نتيجة انحسار عوائد ودخول الشركات والاسر وموجة الافلاس التي ضربت معظم الشركات وفي مختلف القطاعات الاقتصادية. بالإضافة الى السلوك الفردي التحوطي الناجم عن حالة عدم اليقين بشأن الاستجابة السياسية للوضع الاقتصادي القائم.
2- يثير التحول الهيكلي في سوق العمل قلقا كبيرا بسبب التوجه صوب المهارات الرقمية، بدل المهارات التقليدية المعتادة، وما يعنيه ذلك من تقليص لكثافة عنصر العمل في النشاط الاقتصادي وبالتالي قد تخلف الجائحة، وان انتهت، ارتفاعا كبيرا في معدلات البطالة في صفوف القوى العاملة.
3- قد تخلف التحولات البنيوية في هيكل الاقتصادات الوطنية الى خلق معضلة ضعف الانفاق الكلي، فحتى لو كانت القطاعات التي لا تستلزم تواصلا بشريا آخذة في التوسع، ستتضاءل زيادة الإنفاق المصاحبة لذلك أمام تقلص الإنفاق الناتج عن انخفاض الدخول في القطاعات الآخذة في الانكماش.
4- بسبب مخاطر فيروس كورونا الصحية، باتت الآلات أكثر جاذبية نسبيا في نظر أصحاب العمل بسبب جائحة كورونا، نظرا لاستحالة إصابتها بالفيروس، خاصة في قطاعات المقاولات التي توظف عمالة أقل مهارة نسبيا. ونظرا لأن ذوي الدخل المنخفض ينفقون نسبة أكبر من دخولهم على السلع الأساسية مقارنة بأولئك الذين يحتلون قمة الهرم الاجتماعي، فإن أي زيادة في أوجه التفاوت بسبب التشغيل الآلي (الأتمتة) ستخلف تأثيرات اقتصادية انكماشية.
5- على الرغم من مساعدة السياسة النقدية لبعض الشركات على التعامل مع القيود المؤقتة المفروضة على السيولة، كما حدث خلال الركود العظيم بين عامي 2008 و2009، إلا أنها لا تستطيع إصلاح المشاكل المتعلقة بالملاءة المالية، ولا يمكنها تحفيز الاقتصاد عندما تكون أسعار الفائدة قريبة من الصفر.
6- قد يثير اتساع العجز والديون الحكومية موجة عريضة من الاعتراضات السياسية تجاه اي سياسات تحفيز مالي ضروري لتخفيف اثار الازمة الاقتصادية الراهنة. مما يضيع فرصة تعويض الانفاق الخاص المتراجع بتوسيع الانفاق الحكومي والمحافظة على الانفاق الكلي والطلب ضمن المديات الملائمة لإدامة زخم النشاط الاقتصادي.
اتجاه السياسات العامة
1- من اهم الأولويات قصيرة الأمد لمواجهة جائحة كورونا، وأكثرها وضوحا، الاهتمام بحالة الطوارئ الصحية كضمان توفير الإمدادات الكافية من معدات الحماية الشخصية وتعزيز طاقة المستشفيات، فلا يمكن أن يتحقق أي انتعاش اقتصادي دون احتواء الفيروس.
2- من الضروري تطبيق سياسات الحماية الاجتماعية للأشخاص الأكثر احتياجا من الافراد والاسر، وتوفير السيولة لمنع حدوث حالات إفلاس لا داعي لها للشركات، والحفاظ على الروابط بين العمال وشركاتهم، لضمان سرعة عملية إعادة التشغيل عندما يحين الوقت.
3- تقليل المخاطر وزيادة حوافز الإنفاق سياسة لابد منها لدرء الانزلاق لكساد عميق، فما دامت الشركات تخشى ضعف الاقتصاد بعد ستة أشهر أو سنة من الآن، فإنها ستؤجل الاستثمار، مما يؤدي بدوره إلى تأخير الانتعاش. ويعني ذلك ان الحكومات وحدها قادرة على كسر هذه الحلقة المفرغة. اذ يجب على الحكومات ضمان التأمين ضد المخاطر الحالية، من خلال تقديم تعويض للشركات في حالة عدم انتعاش الاقتصاد في وقت مُحدد.
4- يتعين على الحكومات اعتماد قسائم الإنفاق لتحفيز استهلاك الأسر بدل ادخار الاموال. وقد اتخذت الصين بالفعل تدابير مُماثلة، حيث تُصدر الحكومات المحلية في 50 مدينة قسائم إلكترونية يمكن استخدامها لشراء سلع وخدمات مختلفة خلال فترة زمنية معينة. ويعد تاريخ انتهاء صلاحية القسيمة حافزًا قويًا للاستهلاك والطلب الكلي على المدى القصير، خصوصا لذوي الدخل المحدود.
5- تقديم المساعدة للشركات شريطة الاحتفاظ بعُمالها ودعم رواتب الموظفين والنفقات الأخرى بما يتناسب مع انخفاض إيرادات المؤسسة إحدى الاستراتيجيات التي حققت نجاحًا ملحوظًا في العديد من البلدان.
إن تصميم برامج التحفيز الاقتصادي بحذر وبصيرة يجنب العديد من البلدان مخاطر التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحتملة، فمن شأن السياسات الحكومية غير المدروسة جيدا أن تُساهم في تفاقم عدم المساواة وتعزيز عدم الاستقرار الاقتصادي وتقويض الاستقرار السياسي في العديد من بلدان العالم.
اضف تعليق