وتصبح هذه الدرجة من عدم اليقين ملحوظة بشكل خاص في سياق عدة عقود من العولمة. ففي السنوات الأخيرة، أصيب الاستقرار الذي صاحب الالتزام الواسع النطاق بالنظام الدولي القائم على القواعد بالضعف إلى حد كبير، ولم تسلم من الضعف أيضا قدرة البنوك المركزية على كبح جماح...
بقلم: محمد العريان
أبو ظبي ــ ها نحن ذا قد بلغنا شهر ديسمبر/كانون الأول، وأجد في نفسي ميلا طبيعيا إلى مراجعة التطورات الاقتصادية والمالية التي حدثت على مدار العام لمساعدة صناع السياسات والمستثمرين على توقع ما قد يحدث في عام 2020. الواقع أن عامنا هذا ينتهي بشكل إيجابي نسبيا، وخاصة عندما نقارنه بنفس الوقت من العام الفائت. فالأمل قائم في ارتفاع النمو العالمي، كما تراجعت التوترات التجارية، وأكدت البنوك المركزية من جديد على اعتزامها الإبقاء على أسعار الفائدة الشديدة الانخفاض والاستمرار في توفير قدر كبير من السيولة. وقد أُخضِعَت التقلبات العالمية، هذا فضلا عن توقعات معقولة حول عائدات استثمارية قوية عبر العديد من فئات الأصول.
على الرغم من إغراء الاستمرار في الحديث عن الظروف المالية والاقتصادية الكلية الحالية، فإن القيام بهذا يعرضنا لخطر المجازفة بتشويش عنصر أساسي تنبني عليه توقعاتنا للمستقبل. فهناك تناقض لافت للنظر بين الوضوح النسبي للتوقعات في الأمد القريب وحالة الغموض وعدم اليقين التي تأتي عندما يمد المرء توقعاته إلى مسافة أبعد في المستقبل ــ ولنقل إلى السنوات الخمس المقبلة.
تواجه بلدان عديدة حالة عدم اليقين البنيوي التي قد تخلف عواقب جهازية بعيدة المدى على الأسواق العالمية والاقتصاد العالمي. على سبيل المثال، خلال السنوات الخمس المقبلة، سيسعى الاتحاد الأوروبي إلى إقامة علاقة عمل جديدة مع المملكة المتحدة، في حين يتعامل أيضا مع الآثار الاجتماعية والسياسية الضارة المترتبة على النمو المتباطئ غير الشامل بالقدر الكافي. وسوف يضطر الاتحاد الأوروبي إلى الإبحار عبر المخاطر المتمثلة في فترة مطولة من أسعار الفائدة السلبية، في حين يعمل أيضا على دعم جوهره الاقتصادي والمالي. وما دامت بنية منطقة اليورو غير مكتملة، فسوف تظل مخاطر عدم الاستقرار المستمرة باقية.
علاوة على ذلك، في السنوات المقبلة، من المفترض أن تقرر الولايات المتحدة، بعد أن تفوقت بشكل ملحوظ على العديد من الاقتصادات الأخرى، ما إذا كانت ستواصل الانفصال عن بقية العالم ــ وهي العملية التي تتعارض مع موقعها التاريخي في قلب الاقتصاد العالمي.
أو لننظر في عملية التنمية في الصين. مع عمل الاقتصاد العالمي كعائق للنمو أكثر من كونه داعما له، ربما تواجه الصين خطر الإفراط في استغلال الأوراق في يدها. فالاعتماد الشديد على تدابير التحفيز القصيرة الأجل يتعارض على نحو متزايد مع السعي إلى تنفيذ الإصلاحات الأطول أمدا التي تحتاج إليها، كما أن طموحاتها الجيوسياسية والتزاماتها الاقتصادية والمالية الإقليمية (بما في ذلك مبادرة الحزام والطريق) أصبحت أعظم تكلفة. الأمر الأكثر أهمية، في السنوات الخمس المقبلة، هو أن الصين والولايات المتحدة، القوتين الاقتصاديتين الوطنيتين الأكبر على مستوى العالم، ستضطران إلى الإبحار عبر مسار ضيق على نحو متزايد في محاولة تأمين مصالحهما مع تجنب المواجهة الصريحة في الوقت ذاته.
تعمل مثل هذه الحالة المائعة على حجب الآفاق الاقتصادية، والمالية، والمؤسسية، والسياسية، و/أو الاجتماعية لبلدان أخرى. كما ستعمل حالة عدم اليقين في ما يتصل بالاقتصاد الكلي والأوضاع الجيوسياسية على تضخيم الشكوك التي تتغذى على الارتباكات التكنولوجية، وتغير المناخ، والظروف الديموغرافية. فضلا عن إثارة التساؤلات حول أداء ومرونة الاقتصاد العالمي والأسواق العالمية.
وتصبح هذه الدرجة من عدم اليقين ملحوظة بشكل خاص في سياق عدة عقود من العولمة. ففي السنوات الأخيرة، أصيب الاستقرار الذي صاحب الالتزام الواسع النطاق بالنظام الدولي القائم على القواعد بالضعف إلى حد كبير، ولم تسلم من الضعف أيضا قدرة البنوك المركزية على كبح جماح التقلبات المالية وشراء الوقت للاقتصاد الحقيقي.
إذا تُرِكَت هذه الاتجاهات البنيوية المتوسطة الأمد دون ضابط أو رابط، فسوف تمهد الساحة لقدر أعظم من التفتت السياسي والاجتماعي، وتستحضر شبح انحسار العولمة المزمن. وإذا كان هناك شيء واحد لم يُـجَـهَز الاقتصاد العالمي ولا الأسواق للتعامل معه فهو الانفصام المطول المتزايد العمق في العلاقات الاقتصادية والمالية عبر الحدود. وإذا تحقق مثل هذا النموذج الجديد، فإن توترات اليوم التجارية والاستثمارية وتلك المرتبطة بالعملة سوف تزداد حدة وتنتشر إلى عالَم الأمن القومي والأوضاع الجيوسياسية.
لكن النتائج السيئة ليست حتمية (على الأقل حتى الآن). فلا يزال من الممكن تجنبها من خلال التنفيذ المستدام للسياسات الرامية إلى تعزيز النمو الأقوى والأكثر شمولا؛ واستعادة الاستقرار المالي الحقيقي؛ والإيذان بنظام أكثر عدالة ومصداقية (في حين يظل حرا) من التجارة الدولية والاستثمار وتنسيق السياسيات.
لكن الكثير سوف يتوقف على عمل السياسة في الأمد القريب. فمع الدخول إلى عام 2020، يملك الساسة مدرجا مؤاتيا يطلقون عبره السياسات اللازمة لتمديد النظرة الإيجابية في الأمد القريب إلى الأمدين المتوسط والبعيد. فقد انحسرت المخاوف بشأن الركود العالمي، وأصبحت الظروف المالية ملائمة تماما، وتراجعت التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين. لكن هذه الظروف المبشرة الواعدة لن تدوم إلى الأبد.
من المؤسف أنه من غير المرجح أن نشهد دَفعة سياسية تعمل على تحسين وتوضيح التوقعات للأمد المتوسط. إذ تدخل الولايات المتحدة سنة انتخابية متوترة ومثيرا للشقاق. وتمر ألمانيا، وإيطاليا، وإسبانيا، بتحولات سياسية عصيبة. ويتعامل الاتحاد الأوروبي مع خروج بريطانيا من الكتلة وغير ذلك من الانقسامات الإقليمية. وتحاول حكومة الصين توطيد سلطتها في مواجهة النمو المتباطئ والاحتجاجات المستمرة في هونج كونج. ويتلخص سبب القلق الرئيسي ــ الذي لم ينتبه إليه سوى قِلة من المشاركين في السوق ــ في حقيقة مفادها أن ظروف الاقتصاد العالمي والأسواق العالمية خلال السنوات الخمس المقبلة ربما تتدهور إلى ما هو أقرب من مستويات الأزمات قبل أن تبادر الأنظمة السياسية الوطنية والإقليمية والمتعددة الأطراف إلى حشد الاستجابة المناسبة.
ما يدعو إلى التفاؤل أننا نعيش الآن فترة حيث يمكن اتخاذ التدابير الكفيلة بمنع السيناريو الأسوأ من التحول إلى واقع لا فكاك منه. ولنأمل أن أكون مخطئا بشأن حالة الشلل السياسي اليوم. وما دام في الوقت متسع، فإن الاحتمال قائم في أن ينصت صناع السياسات إلى النصيحة التي قدمتها في أكتوبر/تشرين الأول المديرة الإدارية لصندوق النقد الدولي آنذاك كريستين لاجارد: "أصلحوا السقف بينما لا تزال الشمس مشرقة".
اضف تعليق