q
بعد ان فقد الاقتصاد الياباني زخمه، تنبأ الاقتصاديون والمدراء التنفيذيون بتهديد جديد يتمثل بنمو اقتصاديات العالم الثالث. في هذا المقال يرى بول كروغمان الاقتصادي في جامعة ستانفورد ان الخوف من تأثير منافسة العالم الثالث هو عرضة للتساؤل النظري ويواجه رفضا صريحا امام البيانات العملية. يوضح...

بعد ان فقد الاقتصاد الياباني زخمه، تنبأ الاقتصاديون والمدراء التنفيذيون بتهديد جديد يتمثل بنمو اقتصاديات العالم الثالث. في هذا المقال يرى بول كروغمان الاقتصادي في جامعة ستانفورد ان الخوف من تأثير منافسة العالم الثالث هو عرضة للتساؤل النظري ويواجه رفضا صريحا امام البيانات العملية.

يوضح كروغمن حججه بفحص نماذج الاجور والانتاجية في سلسلة من النماذج الاقتصادية. في النموذج الاول، يعرض سلعة واحدة تُنتج باستعمال عنصر انتاجي واحد وهو العمل. في النموذج الثاني تُنتج ثلاثة انواع من السلع في عالم منقسم الى منطقتين تسودهما قدرات انتاجية مختلفة. النموذج الثالث هو عالم فيه يتطلب الانتاج كل من العمل ورأس المال، وفي النموذج الرابع يُستخدم العمل من كلا النوعين الماهر وغير الماهر.

بعد اختبار نتائج التحسينات المنعزلة للإنتاجية في هذه النماذج المتزايدة الواقعية، يستنتج كروغمن بان الزيادة في انتاجية عمل العالم الثالث تعني زيادة في مخرجات العالم. والزيادة في مخرجات العالم تتضح في اجور عالية لعمال العالم الثالث وليس انخفاضا في مستوى معيشة العالم الاول.

غير ان كروغمن لايزال يخشى من الاسوأ. اذا كان الغرب يستجيب للخوف المتزايد من نجاحات اقتصاديات العالم الثالث عبر بناء حواجز كمركية لحماية مستويات المعيشة الغربية، فان التأثيرات ستكون سيئة جدا لأي أمل في مستوى معيشة لائق لمئات الملايين من الناس في العالم النامي.

حتى وقت قصير، كان كتّاب الاعمال المؤثرين يحذرون من ان التهديد الاكبر لإزدهار الولايات المتحدة هو المنافسة من دول متطورة اخرى. يحتاج المرء فقط النظر الى اشهر كتاب عام 1992 (وجه لوجه: المعركة الاقتصادية القادمة بين اليابان، اوربا، امريكا للكاتب ليسر ثورو).

ولكن في السنوات الاخيرة بدا الأعداء الاقتصاديون اقل قدرة على الانتصار حيث ان كل من الاقتصاد الياباني والالماني علقا في ركود يصعب السيطرة عليه، صادراتهما كُبحت بعملات ذات قيمة عالية بينما تتآكل مؤسسات سوق العمل فيهما تحت تأثير الضغوط الاقتصادية. مقابل ذلك نرى الاقتصاد الامريكي مع انه ليس براقا لكنه يبدو صحيا.

غير ان العديد من الاقتصاديين والمدراء التنفيذيين الذين فقدوا الاهتمام بالمعركة بين اليابانيين والامريكيين، ينظرون الى معركة جديدة تلوح بالأفق بين الاقتصاديات المتقدمة والاقتصادات النامية في العالم الثالث. هناك تباين مدهش بين الاخفاقات في أداء الدول المتقدمة خلال العشرين سنة الماضية ونجاحات الأعداد المتزايدة للدول النامية. النمو الاقتصادي السريع الذي بدأ اولا في الستينات في دول اسيوية صغيرة، انتشر الان عبر نطاق واسع في شرق اسيا ليس فقط في ماليزيا وتايلند وانما في دولتين فقيرتين ذات كثافة سكانية عالية كالصين واندونيسيا. هناك علامات لنمو سريع ايضا في شيلي ومكسيكو وحتى في الهند.

وبدلا من القناعة بتنمية اقتصادية عالمية، اعتبر الكثير من الناس في الغرب ان النمو في العالم الثالث يشكل تهديدا لهم. فهم حسب اعتقادهم ان العالم منقسم الى دول غنية ذات انتاجية عالية واجور عالية ودول فقيرة ذات انتاجية قليلة واجور عمل قليلة. ولكن يُلاحظ الان ان بعض الدول تجمع بين انتاجية عالية واجور منخفضة. تزايد أعداد هذه الدول في اسواق العالم يقود حسب زعمهم الى إعادة توظيف هائل للأصول الانتاجية، والذي يجعل من المستحيل للدول المتقدمة المحافظة على مستوى معيشتها. بكلمة اخرى، المنافسة من جانب الاقتصاديات الناشئة في العالم الثالث اصبحت تشكل تهديدا لاقتصاديات العالم الاول.

هذه الرؤية اقل شيوعا في الولايات المتحدة. على الرغم من ميول ادارة كلنتون السابقة لتعريف المشاكل الاقتصادية بعبارات من المنافسة لكنها لم تضع نفسها في مواجهة ضد اليابان، الواردات من العالم الثالث لم تشكل ضغطا واسعا على سوق العمل الامريكي.

لكن الحقيقة هي ان الخوف من التأثيرات الاقتصادية لمنافسة العالم الثالث هو غير مبرر كليا. التأثيرات الحقيقة لذلك ضعيفة جدا. نظريا، هناك بعض الأسباب للخوف من احتمال تأثير منافسة العالم الثالث على توزيع الدخل في الغرب مع عدم وجود تبريرات لهذا الخوف في ارض الواقع.

كيف يمكن لأناس متخصصين وحرفيين ان يكونوا خاطئين؟ وكيف نتأكد من انهم على خطأ؟ لكي يصبح هناك معنى للتهديد المزعوم من العالم الثالث، من الضروري البدء بنقاش مختصر عن صورة الاقتصاد العالمي.

صورة عن الاقتصاد العالمي

فكرة ان منافسة العالم الثالث تهدد مستوى المعيشة في الدول المتقدمة بدت صريحة. افرض ان شخص ما تعلّم القيام بمهنتي الخاصة، هو ربما ليس بنفس الكفاءة التي اتمتع بها لكنه يرغب العمل بأجور اقل مما اتقاضاه من اجور. أليس من الواضح انا اما اضطر للقبول بمستوى معيشة اقل او اخرج من العمل؟ تلك هي فكرة اولئك الخائفين من ان نسبة الاجور في الغرب يجب ان تهبط كلما تطور العالم الثالث.

لكن هذه القصة هي خاطئة تماما. عندما ترتفع انتاجية العالم فان متوسط مستوى معيشة العالم يجب ان يرتفع ايضا لأن المخرجات الاضافية ستذهب الى مكان ما. هذا بذاته يفترض ان انتاجية العالم الثالث المرتفعة سوف تنعكس بأجور عالية في العالم الثالث، ولاتقلل الدخول في العالم الاول. ومن زاوية اخرى، على مستوى الدخل القومي، المنتجون والمستهلكون هم نفس الناس، المنافسون الاجانب الذين يخفضون الاسعار قد يخفضون الاجور التي استلمها، لكنهم ايضا يرفعون القوة الشرائية لما استلم من دخل. لا سبب هناك لنتوقع استمرارية التأثير السلبي.

الاقتصاد العالمي هو نظام –شبكة معقدة من علاقات التغذية العكسية– وليس سلسلة بسيطة من تأثيرات باتجاه واحد. في هذا النظام الاقتصادي العالمي، الاجور، الاسعار، التجارة، والاستثمار المتدفق هي محصلات وليست معطيات. السيناريوهات المعقولة المرتكزة على تجارب الاعمال اليومية يمكن ان تسيء فهم ما يحدث لهذا النظام عندما تتغير العوامل الاساسية، سواء كانت عوامل تتعلق بسياسات الحكومة كالرسوم والضرائب او عوامل أكثر التباسا مثل انتاجية العمل الصيني.

كما يعلم كل من درس النظام المعقد، سواء كان طقسا عالميا، نماذج الضرائب في لوس انجلس، او تدفق المواد خلال عمليات التصنيع، من الضروري بناء نموذج لفهم كيفية عمل النموذج. الاجراء المألوف هو ان نبدأ بنموذج مبسط جدا ثم باستمرار نجعله أكثر واقعية، وهي عملية يصل فيها المرء الى فهم أكثر تعقيدا لنظام واقعي.

سوف نبيّن تأثير الاقتصاديات الناشئة على الاجور والوظائف في العالم المتطور. سنبدأ بصورة مبسطة وغير واقعية للاقتصاد العالمي ومن ثم تدريجيا نضيف اشياء واقعية. في كل مرحلة سوف نجلب بعض البيانات. وبالنهاية، نأمل ان نجعل من الواضح ان ما يبدو من نظرة معقدة بان العالم الثالث يخلق مشاكل للعالم الاول هي عرضة للتساؤل على مستوى المفاهيم وغير معقولة كليا على مستوى البيانات.

نموذج 1: عالم بسلعة واحدة وعامل انتاجي واحد

تصوّر عالما بدون تعقيدية الاقتصاد العالمي. في هذا العالم، تُنتج سلعة واحدة تفي بكل الأغراض – لنفترض هي شرائح الجبس مستخدمين في انتاجها فقط العمل. كل الدول تنتج جبس لكن العمل اكثر انتاجية في بعض الدول قياسا بالأخرى. في تصوّر لمثل هكذا عالم، نحن نتجاهل حقيقتين اساسيتين حول الاقتصاد العالمي الحقيقي: انه ينتج مئات الالاف من السلع والخدمات المختلفة، وهو يقوم بهذا مستخدما عدة عوامل انتاج بما فيها رأس المال الفيزيقي ورأس المال البشري الناتج من التعليم.

ما الذي يقرر الاجور ومستويات المعيشة في هذا العالم المبسط؟ في غياب رأس المال او الاختلاف بين العمل الماهر وغير الماهر، العمال سيستلمون ما ينتجون. أي، الاجور الحقيقية السنوية بالنسبة للجبس في كل دولة سوف تساوي كمية الجبس التي ينتجها كل عامل سنويا – انتاجيته. وطالما الجبس هو السلعة الوحيدة المستهلكة والسلعة الوحيدة المنتجة ايضا، فإن مؤشر سعر المستهلك سوف لا يحتوي على اي شيء عدا الجبس. نسبة الاجور الحقيقية في كل دولة سوف تساوي ايضا انتاجية العمل في كل بلد.

ماذا عن الاجور النسبية؟ ان امكانية الاستفادة من فروق الاسعار في تصدير السلع الى اي مكان فيه السعر مرتفع، ستُبقي اسعار الجبس كما هي في كل الدول. وهكذا فان نسبة اجور العمال الذين ينتجون عشرة الاف جبس سنويا ستكون عشرة مرات اجور العمال الذين ينتجون الف وحدة جبس، حتى عندما يكون اولئك العمال في بلدان مختلفة. نسبة الاجور بين اي دولتين سوف تساوي نسبة انتاجية عمالهما.

ماذا يحدث لو ان الدول التي كانت سابقا ذات انتاجية منخفضة واجور منخفضة مارست زيادة كبيرة في الانتاجية؟ هذه الاقتصاديات الناشئة سوف ترى نسبة اجورها للجبس ترتفع. سوف لن يكون هناك اي تأثير سلبي او ايجابي على نسبة الاجور الحقيقية لدى الاخر، وهو، الدول العالية الاجور. في كل دولة، نسبة الاجور الحقيقية تساوي الانتاجية المحلية بالنسبة للجبس، ذلك يبقى صحيحا بصرف النظر عما يحدث في مكان آخر.

ما هي المشكلة في هذا النموذج؟ انه شديد التبسيط، المشكلة انه لايترك مجال للتجارة الدولية: اذا كان كل شخص ينتج جبسا، فلايوجد سبب للاستيراد والتصدير. هذه القضية لاتبدو تزعج منظري المنافسة. الافتراض المركزي انه بسبب ان الدول المتقدمة تنتج نفس الاشياء فذلك يقود الى زيادة حدة المنافسة، ولكن اذا كانت الدول المتقدمة تنتج نفس الاشياء فلماذا هي تبيع الكثير الى الدول الاخرى؟.

مع حقيقة ان متاجرة الدول مع غيرها يعني ان نموذجنا المبسط غير حقيقي، لكن هذا النموذج حقا يعرض سؤال حول مدى كثافة التبادل الحقيقي بين الدول المتقدمة والعالم الثالث. لقد تبيّن انه صغير جدا رغم تأكيدات المنظرين حول التجارة مع العالم الثالث. في عام 1990 أنفقت الدول الصناعية المتطورة فقط 1.2% من ناتجها الاجمالي المحلي على المستوردات من السلع المصنعة في الاقتصاديات الجديدة.

مشكلة اخرى في النموذج هو انه بدون رأس مال لا يمكن ان يكون هناك استثمار دولي. تجدر الملاحظة ان في الاقتصاد الامريكي 70% من دخله القومي يعود للعمل وأقل من 30% يعود لرأس المال. هذه النسبة كانت ثابتة في العقود الماضية. العمل ليس المدخل الانتاجي الوحيد في انتاج السلع، لكن الادّعاء بان متوسط الاجور الحقيقية تتحرك جنبا لجنب مع مخرجات كل عامل، وان ما هو جيد للولايات المتحدة هو جيد للعمال الامريكيين وبالعكس يبدو صحيح تقريبا.

هناك ادّعاء واحد وأخير ربما يزعج بعض القرّاء وهو ان الاجور ترتفع اوتوماتيكيا مع الانتاجية. فهل هذا واقعي؟ نعم. التاريخ الاقتصادي لا يقدم مثالا لدولة مارست نموا انتاجيا طويل الامد بدون زيادة متساوية في الاجور الحقيقية. في الخمسينات، عندما كانت الانتاجية الاوربية اقل من نصف انتاجية الولايات المتحدة، كانت كذلك الاجور الاوربية، متوسط التعويض حاليا مقاس بالدولار هو نفس الشيء. وعندما تسلقت اليابان سلّم الانتاجية في الثلاثين سنة الماضية، ارتفعت اجورها ايضا من 10% الى 110% من المستوى الامريكي. اجور جنوب كوريا ايضا ارتفعت دراماتيكيا بمرور الزمن. في الحقيقة، العديد من الاقتصاديين الكوريين قلقون من ان الاجور ربما ارتفعت كثيرا. العمل الكوري يبدو ثمين جدا للمنافسة في السلع منخفضة التكنلوجيا مع الداخلين الجدد كالصين واندونيسيا وثمين جدا للتعويض عن قلة الانتاجية ونوعية السلعة في مثل هذه الصناعات مثل السيارات.

الفكرة بان القواعد القديمة لم تعد قابلة للتطبيق وان داخلين جدد في مرحلة الاقتصاد العالمي سيدفعون دائما اجور قليلة حتى عندما ترتفع انتاجيتهم لنفس مستوى الدول المتقدمة، ليس لها اساس في التجربة الحقيقية. (بعض الكتاب الاقتصاديين يحاولون دحض هذه الفرضية بالاشارة الى ان صناعات معينة فيها الاجور النسبية لم تجاري الانتاجية النسبية. فمثلا، صانعو القميص في بنغلاديش الذين انتاجيتهم تقريبا نصف انتاجية صناع القميص في الولايات المتحدة، يستلمون اقل من نصف نسبة الاجور الامريكية. ولكن عندما ندخل نموذج السلع المتعددة، فان ذلك هو بالضبط المستوى الذي تتنبأ به النظرية الاقتصادية).

نموذجنا المتكون من سلعة واحدة ومدخل انتاجي واحد قد يبدو سطحيا لكنه يجبرنا لملاحظة نقطتين هامتين. اولا، الزيادة في انتاجية عمل العالم الثالث تعني زيادة في مخرجات العالم، والزيادة في مخرجات العالم يجب ان تبيّن زيادة في دخل شخص ما. وبالفعل: انها تبين اجور عالية لعمال العالم الثالث. ثانيا، مهما نستنتج بالنهاية حول تأثير انتاجية العالم الثالث العالية على اقتصاديات العالم الاول، ذلك سوف لن يكون بالضرورة سلبيا. الموديل المبسط يقترح ان لا وجود لتأثير ابدا.

نموذج 2: عدة سلع، عامل انتاجي واحد

في العالم الواقعي، بالطبع، الدول تتخصص في انتاج عدد محدود من السلع، التجارة الدولية هي سبب ونتيجة في آن واحد لذلك التخصص. وبالذات، التجارة في سلع مصنعة بين العالمين الاول والثالث هي تبادل كبير لسلع معقدة تكنلوجيا مثل الطائرات والمايكروبروسيسر مقابل سلع كثيفة العمل مثل الملابس. في عالم فيه دول تنتج مختلف السلع، تكون الانتاجية المكتسبة في جزء من العالم اما تساعد او تضر بقية العالم.

هذه ليست شيئا جديدا. بين الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية، شهدت عدة دول سلسلة من صعوبات تمثلت في عجز المدفوعات التي قادت الى تصور "نقص دولار" عالمي. في نفس الوقت، العديد من الاوربيين اعتقدوا ان مشكلتهم الحقيقية كانت المنافسة الساحقة من جانب الاقتصاد الامريكي عالي الانتاجية. لكن هل حقا كان الاقتصاد الامريكي يضر بقية العالم؟ وبعمومية اكبر هل نمو انتاجية بلد معين يرفع او يقلل الدخل الحقيقي في دول اخرى؟ بعد عمل نظري وميداني مكثف تم الاستنتاج بأن تأثير نمو الانتاجية في الخارج على الرفاهية المحلية يمكن ان يكون اما ايجابي او سلبي اعتمادا على تفضيل ذلك النمو في الانتاجية – بمعنى اعتمادا على القطاعات التي يحدث بها ذلك النمو.

آرثر لويس الذي ربح جائزة نوبل لعام 1979 في الاقتصاد لعمله في التنمية الاقتصادية، عرض توضيحا ذكيا بيّن كيف ان تأثير نمو الانتاجية في الدول النامية على الاجور الحقيقية في الدول المتقدمة يمكن ان يحصل بأي طريقة. في نموذج لويس، العالم منقسم الى منطقتين شمال وجنوب. الاقتصاد العالمي ينتج ليس سلعة واحدة وانما ثلاثة انواع من السلع: سلع عالية التكنلوجيا، متوسطة التكنلوجيا، قليلة التكنلوجيا. كما في نموذجنا الاول، العمل لايزال العنصر الوحيد في الانتاج. العمل الشمالي أكثر انتاجية من العمل الجنوبي في جميع السلع الثلاث، لكن مزايا الانتاجية هي عالية في السلعة العالية التكنلوجيا، ومعتدلة في السلع متوسطة التكنلوجيا، وقليلة في السلع المنخفضة التكنلوجيا.

كيف سيكون شكل الاجور والانتاج في عالم كهذا؟ الحصيلة المحتملة هي ان السلع العالية التكنلوجيا سيتم انتاجها فقط في الشمال، والسلع المنخفضة التكنلوجيا فقط في الجنوب، وكلا المنطقتين سوف ينتجان على الاقل بعض السلع المتوسطة التكنلوجيا. (اذا كان الطلب العالمي للسلع العالية التكنلوجيا عاليا فان الشمال سينتج فقط تلك السلع، واذا كان الطلب على السلع منخفضة التكنلوجيا عاليا فان الجنوب سيتخصص بإنتاجها ايضا. ولكن سيكون هناك نطاق واسع من الحالات فيها كلا المنطقتين ينتجان سلع متوسطة التكنلوجيا).

المنافسة سوف تضمن ان نسبة اجور الشمال الى اجور الجنوب سوف تساوي نسبة انتاجية الشمال الى انتاجية الجنوب. في هذه الحالة، عمال الشمال سوف لن يكونوا منافسين في السلع القليلة التكنلوجيا رغم انتاجيتهم العالية لأن نسبة اجورهم عالية جدا. وبالعكس، نسبة اجور الجنوب القليلة ليست كافية لتعويض الانتاجية المنخفضة بتكنلوجيا عالية.

مثال توضيحي على ذلك افرض ان انتاجية عمل الشمال تعادل عشرة مرات انتاجية عمل الجنوب في التكنلوجيا العالية، وخمس مرات الانتاجية في التكنلوجيا المتوسطة، ولكن فقط مرتان في التكنلوجيا القليلة. اذا كانت كلا الدولتين تنتجان سلع متوسطة التكنلوجيا فان الاجور في الشمال يجب ان تكون أعلى خمس مرات مما في الجنوب. في ضوء نسبة اجور العمل هذه فان كلفة العمل في الجنوب للسلع القليلة التكنلوجيا ستكون فقط خمسي كلفة العمل في الشمال لهذا القطاع حتى عندما يكون عمل الشمال أكثر انتاجية. بالمقابل، في السلع العالية التكنلوجيا، ستكون كلفة العمل أعلى مرتين في الجنوب.

كما يتضح في المثال ان عمال الجنوب القليلي التكنلوجيا يستلمون فقط خمس اجور الشمال حتى عندما تكون انتاجيتهم حوالي نصف انتاجية عمال الشمال في نفس الصناعة. العديد من الناس بمن فيهم الخبراء في التجارة الدولية يعتقدون ان ذلك النوع من الفجوة يبين ان نماذج الاقتصاد التقليدية غير تطبيقية. في الحقيقة، هي بالضبط ما تتنبأ به النماذج التقليدية: اذا كانت الدول القليلة الاجور ليس لديها كلفة عمل قليلة للوحدة الواحدة في صناعاتها التصديرية قياسا بالدول العالية الاجور فانها لن تستطيع التصدير.

لنفرض الآن ان هناك زيادة في انتاجية الجنوب. كيف سيكون تاثيرها؟ذلك يعتمد على اي قطاع شهد زيادة الانتاجية. اذا كانت زيادة الانتاجية حدثت في مخرجات منخفضة التكنلوجيا، القطاع الذي لاينافس عمل الشمال، فلن يكون هناك سبب لتغيير في نسبة اجور الشمال الى الجنوب. عمل الجنوب سوف ينتج سلع قليلة التكنلوجيا بكلفة اقل، والهبوط في اسعار تلك السلع سوف يرفع الاجور الحقيقية في الشمال. ولكن اذا كانت انتاجية الجنوب ترتفع في قطاع تنافسي متوسط التكنلوجيا فان الاجور النسبية للجنوب سوف ترتفع. طالما الانتاجية لم ترتفع في السلع قليلة التكنلوجيا فان اسعار سلع التكنلوجيا القليلة سوف ترتفع وتقلل الاجور الحقيقية في الشمال.

اما في حالة زيادة انتاجية الجنوب بنسبة متساوية في التكنلوجيا القليلة والمتوسطة فان الاجور النسبية سوف ترتفع ولكن سيُعوض عنها بزيادة الانتاجية. اسعار السلع قليلة التكنلوجيا بالنسبة لعمل الشمال سوف لن تتغير، وهكذا سوف لن تتغير ايضا الاجور الحقيقية لعمال الشمال.

يبدو ان تأثير النمو في العالم الثالث على العالم الاول، الذي لم يكن له اي تأثير في نموذجنا المبسط يصبح غير متنبأ به حالما نجعل النموذج اكثر واقعية.

هنا مسألتان هامتان يجب ملاحظتهما:

اولا، ان الطريقة التي يؤثر بها النمو في العالم الثالث على العالم الاول تختلف كثيرا عن الطريقة التي وصفها المنظّرون. النمو في العالم الثالث لايؤذي العالم الاول ليس بسبب ان الاجور في العالم الثالث تبقى واطئة وانما لأنها ترتفع ومن ثم تضغط صعودا على اسعار صادرات الدول المتقدمة. الولايات المتحدة يمكن ان تشعر بالتهديد عندما تصبح كوريا الجنوبية أفضل في انتاج السيارات ليس بسبب ان الولايات المتحدة تفقد سوق السيارات وانما بسبب الاجور العالية في كوريا الجنوبية تعني ان المستهلكين في الولايات المتحدة يدفعون الكثير للألعاب والسلع الاخرى التي كانوا يشترونها سلفا من جنوب كوريا.

ثانيا، هذا التأثير السلبي المحتمل يتضح بسهولة بالقياسات الاحصائية الاقتصادية مثل سعر الصادرات الى سعر الواردات. فمثلا، لو اُجبرت الشركات الامريكية على بيع سلع بسعر رخيص في الاسواق العالمية بسبب المنافسة الاجنبية او انها اُجبرت لدفع الكثير للاستيرادات بسبب المنافسة في المواد الخام او الدولار المخفّض القيمة، فان الدخل الحقيقي في الولايات المتحدة سيهبط. بما ان الصادرات والواردات حوالي 10% من الدخل القومي الاجمالي، فان كل 10% انخفاض في الميزان التجاري الامريكي يقلل الدخل القومي الامريكي الحقيقي بمقدار 1%. الضرر المحتمل للاقتصاديات المتقدمة من نمو العالم الثالث يعتمد على امكانية الهبوط في الميزان التجاري للدول المتقدمة لكن ذلك لم يحدث. بين عامي 1982 و 1992، كان الميزان التجاري للاقتصاديات المتطورة قد تحسن بمقدار 12% كنتيجة لهبوط اسعار البترول. باختصار، النموذج المتعدد السلع يعرض اكثر امكانات من النموذج البسيط ذو السلعة الواحدة، لكنه يقود الى نفس الاستنتاج وهو ان نمو الانتاجية في العالم الثالث يقود الى اجور عالية فيه.

نموذج 3: رأس المال والاستثمار الدولي

سنقترب الآن خطوة أكثر الى الواقع ونضيف عامل انتاجي آخر الى نموذجنا. ماذا يحدث لو تصورنا الان عالما يتطلب فيه الانتاج كل من رأس المال والعمل؟ من وجهة النظر العالمية هناك فرق كبير بين العمل ورأس المال. رغم ان الهجرة الدولية الكبيرة كانت القوة الرئيسية في الاقتصاد العالمي قبل عام 1920، لكن منذ ذلك الحين جميع الدول المتقدمة بنت حواجز قانونية عالية للهجرة المتحفزة اقتصاديا. هناك تدفق محدود للناس الماهرين من الجنوب الى الشمال ونوع ما تدفق كبير للمهاجرين غير الشرعيين. لكن اكثرية العمل لاينتقل عالميا. بالمقابل، الاستثمار الدولي مرئي جدا وله تأثير متزايد على الاقتصاد العالمي. في اواخر السبعينات أقرضت العديد من المصارف في الدول المتقدمة مبالغ نقدية الى دول العالم الثالث. هذا التدفق انحسر في الثمانينات وهو عقد ازمة الديون، لكن تدفق حجم رأس مال لا بأس به استمر مع طفرة الاسواق الناشئة بعد التسعينات.

الكثير من الخوف حول نمو العالم الثالث ركز على تدفق رأس المال بدلا من التجارة. السياسيون وخاصة وزير العمل الامريكي السابق روبرت ريتش وفي مؤتمر الوظائف عام 1994 اعتبر مشاكل التوظيف في الاقتصادات الغربية تعود الى حركة رأس المال. وبالنتيجة، هو يزعم ان راس مال العالم الاول يخلق الان وظائف فقط للعالم الثالث. فهل هذه المخاوف مبررة؟

الجواب المختصر نعم من حيث المبدأ وكلا في التطبيق. نظريا، التدفق الدولي لراس المال من الشمال الى الجنوب قد يخفض اجور الشمال. التدفق الحقيقي الذي حدث منذ 1990 هو صغير جدا لدرجة لايمكنه احداث الضرر الكبير الذي يتصوره الناس. لنرى كم حجم راس المال المصدّر من الدول المتقدمة الى الدول النامية؟ خلال الثمانينات، لم يكن هناك صافي من استثمار شمال جنوب، في الحقيقة، الفائدة ومدفوعات الديون كانت اكبر من الاستثمار الجديد. كل الافعال حدثت منذ 1990. في عام 1993 والتي كانت ذروة استثمار الاسواق الناشئة، كان تدفق راس المال من جميع الدول المتقدمة لجميع الدول الحديثة التصنيع بلغ 100 بليون دولار.

قد يبدو ذلك كبيرا، ولكن بالمقارنة مع اقتصاد العالم الاول فهو ليس كذلك. في عام 1993 بلغ الناتج القومي الاجمالي لأمريكا الشمالية واوربا الغربية واليابان حوالي 3.5 ترليون دولار، رأس مالهم مجتمعين بلغ 60 ترليون دولار. تدفق راس المال لعام 1993 نقل فقط 3% من استثمارات العالم الاول بعيدا عن الاستعمال المحلي وخفّض النمو في راس المال فقط بأقل من 0.2%. طفرة الاستثمار في كل الاسواق النامية منذ 1990 قلّلت رأس مال العالم المتقدم فقط بـ 5%.

لكن ما مقدار الضغط الذي وضعه ذلك على اجور الدول المتقدمة؟ تقليل راس المال بـ 1% يقلل الانتاجية باقل من 1%. التقديرات تقترح ان تدفق راس المال للعالم الثالث منذ عام 1990 قلل الاجور الحقيقية في العالم المتقدم بـ 0.15%.

نموذج 4: توزيع الدخل

حتى الان يبدو اننا استنتجنا ان النمو في العالم الثالث ليس له اي تأثير سلبي على العالم الاول. لكن هناك لاتزال قضية واحدة بحاجة للعلاج وهي تأثير نمو العالم الثالث على توزيع الدخل بين العمال الماهرين وغير الماهرين في الدول المتقدمة. عند اضافة توزيع الدخل يصبح نموذجنا في شكله النهائي. لنفرض هناك نوعان من العمل، ماهر وغير ماهر، وان نسبة العمال غير الماهرين الى العمال الماهرين أعلى في الجنوب قياسا بالشمال. في مثل هذا الموقف يتوقع المرء ان نسبة اجور الماهرين الى اجور غير الماهرين أقل في الشمال قياسا في الجنوب. وبالتالي يتوقع المرء ان الشمال يصدر بضائع وخدمات عالية المهارة، اي انه يستخدم نسبة عالية من العمال الماهرين الى غير الماهرين في الانتاج، بينما الجنوب يصدر بضائع يتم انتاجها بعمالة غير ماهرة.

ما تأثير هذا على الاجور في الشمال؟ عندما تتبادل دولتان سلع ذات مهارة عالية بسلع ذات مهارة قليلة فهما انما يتبادلان بشكل غير مباشر عمالة ماهرة بعمالة غير ماهرة، السلع التي يرسلها الشمال الى الجنوب تنطوي على عمل ذو مهارة اكثر من السلع التي يستلمها الشمال بالمقابل. انها كما لو ان عامل ماهر من الشمال هاجر الى الجنوب. ونفس الشيء، عندما يستورد الشمال سلع كثيفة العمالة هو ايضا شكل غير مباشر من الهجرة قليلة المهارة. التجارة مع الجنوب بالنتيجة تجعل عمل الشمال الماهر نادرا، فترفع الاجور بينما تجعل العمل غير الماهر اكثر وفرة بما يقلل الاجور. اذاً، زيادة التجارة مع العالم الثالث مع انها ذات تأثير قليل على المستوى العام للأجور في العالم الاول، لكنها من حيث المبدأ تقود الى زيادة في اللامساواة في تلك الاجور مع زيادة كبيرة للمهارة. وبنفس المقدار، يجب ان تكون هناك نزعة نحو "مساواة سعر عامل الانتاج مع هبوط اجور العمال قليلي المهارة في الشمال باتجاه مستويات الجنوب.

طالما التجارة مع الدول قليلة الاجور هي اقل من 1% من الناتج القومي الاجمالي، فان صافي التدفق من العمل المتضمن في تلك التجارة هو قليل جدا مقارنة بالحجم الكلي لقوة العمل. المزيد من البحث قد يقود الى تقديرات اكبر لتأثير التجارة بين الشمال والجنوب على توزيع الاجور، ولكن حتى الآن الدليل المتوفر لايدعم فكرة ان التجارة مع العالم الثالث تشكل جزءا هاما من قصة عدم المساواة في الاجور.

* من ورقة بحثية بعنوان (هل نمو العالم الثالث يؤثر على ازدهار العالم الاول) للاقتصادي الامريكي بول كروغمان الحائز على جائزة نوبل عام 2008، الناشر Harvard Business Review، تموز/اب 1994.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق