وضع الدولار كعملة احتياطية عالمية منح الولايات المتحدة لفترة طويلة ما وصفه جيسكار ديستان، بأنه امتياز باهظ فأميركا قادرة على طباعة النقود بتكلفة لا تُذكَر واستخدامها لشراء السلع والخدمات عالميا. ولكن مع فتح أسواق عالمية لرأس المال، اكتسبت الولايات المتحدة أيضا نفوذا باهظا على بقية العالم...
بقلم: باولا سوباتشي
لندن ــ وُصِفَ اتفاق "المرحلة الأولى" الذي أُعلِن عنه مؤخرا بين الولايات المتحدة والصين بأنه خطوة مهمة نحو التوصل إلى صفقة شاملة تنهي الحرب التجارية التي ظلت مستعرة لأكثر من عام كامل. ولكن إن كنت تتصور أن رئيس الولايات المتحدة دونالد ترمب على استعداد للتخلي عن سياسته المعادية للصين، فعليك أن تعيد النظر في هذا التصور. الواقع أن إدارة ترمب تتحرك بالفعل لشن حرب أخرى مع الصين، ولكن هذه المرة حول التدفقات المالية.
في اقتصاد عالمي يتسم بالتكامل الشديد، تشكل التجارة والتمويل وجهين لعملة واحدة. تعتمد المعاملات التجارية عبر الحدود على نظام مدفوعات دولي جيد الأداء وشبكة قوية من المؤسسات المالية القادرة على إصدار الائتمان. وقد شيدت هذه البينة الأساسية حول الدولار الأميركي ــ العملة الدولية الأكثر سيولة وقابلية للصرف.
الواقع أن وضع الدولار كعملة احتياطية عالمية منح الولايات المتحدة لفترة طويلة ما وصفه فاليري جيسكار ديستان، وزير المالية الفرنسي آنذاك، بأنه "امتياز باهظ". فأميركا قادرة على طباعة النقود بتكلفة لا تُذكَر واستخدامها لشراء السلع والخدمات عالميا. ولكن مع فتح أسواق عالمية لرأس المال، اكتسبت الولايات المتحدة أيضا نفوذا باهظا على بقية العالم.
اليوم، يجري إصدار الفواتير وتسوية 80% من التجارة العالمية بالدولار، وفي النهاية يجري تخليص أغلب المعاملات الدولية عبر النظام المالي الأميركي. ويمر نحو 16 مليون أمر دفع يوميا عبر شبكة الجمعية الأوروبية الأميركية للمعاملات المالية العالمية بين المصارف (سويفت). وعلى هذا فإن القيود التي تفرضها الولايات المتحدة على تدفقات رأس المال تخلف تأثيرات أبعد مدى من أي تعريفة تجارية أخرى. ومع ذلك، لا يتطلب فرض هذه القيود سوى استحضار قانون القوى الاقتصادية الطارئة الدولية لعام 1977 (IEEPA)، الذي يسمح لرئيس الولايات المتحدة بإعلان حالة الطوارئ الوطنية ونشر مجموعة من الأدوات الاقتصادية في الاستجابة للتهديدات غير العادية أو الاستثنائية.
وقد شكل هذا القانون الأساس القانوني للعديد من برامج العقوبات الأميركية، حيث استخدمه الرؤساء بالفعل على نطاق واسع لمنع المعاملات وتجميد الأصول. على سبيل المثال، في ثمانينيات القرن العشرين، أصدر الرئيس رونالد ريجان أمر تنفيذيا بموجب قانون القوى الاقتصادية الطارئة الدولية لمنع كل المدفوعات من الوصول إلى بنما بعد الانقلاب الذي رفع مانويل نورييجا إلى السلطة. (كانت الأموال الموجهة إلى بنما ترسل إلى حساب ضمان أنشئ في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك).
استشهد ترمب ــ الذي أثبت استعداده التام للصراخ "طوارئ" عندما يناسبه ذلك ــ بقانون القوى الاقتصادية الطارئة الدولية عدة مرات، بما في ذلك لتبرير فرض الرسوم الجمركية على الواردات من المكسيك والتأكيد على سلطته في مطالبة الشركات الأميركية "بالبدء فورا في البحث عن بديل للصين". وعلى أمل طرد الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو من منصبه، استخدم ترمب قانون القوى الاقتصادية الطارئة الدولية لتجميد أصول شركة النفط المملوكة للدولة PDVSA.
كما منع ترمب المستثمرين الأميركيين من شراء أي ديون مملوكة لحكومة فنزويلا أو التداول في أسهم أي كيان تمتلك فيه حصة مسيطرة. في الوقت ذاته، منح ترمب خوان جوايدو، الرئيس المؤقت المدعوم من الولايات المتحدة، القدرة على الوصول إلى أصول الحكومة الفنزويلية التي يحتفظ بها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي منذ أن جمدها سلفه باراك أوباما في عام 2015.
على عكس الاعتقاد السائد، لم يفرض ترمب من العقوبات أكثر مما فرضه الرؤساء السابقون له. لكنه ابتكر طرقا خَلّاقة بشكل خاص ــ فهو يستفيد غالبا من النفوذ المالي غير المتناسب الذي تتمتع به أميركا ــ لضمان تمكين التدابير التي تتخذها إدارته من إحداث أقصى قدر ممكن من الضرر، بصرف النظر عن التأثيرات التي تخلفها هذه التدابير على أطراف ثالثة. على نحو مماثل، لا تواجه روسيا تجميد الأصول ومنع المعاملات على النحو المعتاد فحسب، بل وتواجه أيضا القيود المفروضة على القدرة على الوصول إلى النظام المصرفي الأميركي والاستبعاد من عقود المشتريات.
ومن الواضح أن الصين، التي تتصارع بالفعل مع انخفاض الصادرات، وتباطؤ الاستثمار، وضعف الاستهلاك، وتباطؤ النمو، هي التالية. فكما أوردت التقارير، تدرس إدارة ترمب فرض القيود على تدفقات الحافظة الأميركية إلى الصين، بما في ذلك منع صناديق التقاعد الأميركية من الاستثمار في أسواق رأس المال الصينية، وحذف الشركات الصينية من أسواق البورصة الأميركية، والحد من قدرتها على الوصول إلى مؤشرات الأسهم التي تديرها شركات أميركية. ويظل من غير الواضح كيف قد يتم تنفيذ هذه السياسات؛ وهي في واقع الأمر مهمة صعبة. لكن الافتقار إلى استراتيجية واضحة المعالم لم يمنع ترمب من قَبل قط، وخاصة عندما يتعلق الأمر باستخدام أدوات النفوذ الاقتصادي لتحقيق أهداف جيوسياسية.
ربما يصادف هذا النهج النجاح في الأمد القريب، ولكن من المؤكد أنه سيعود بالضرر على الولايات المتحدة. إن استخدام ترمب للدولار كسلاح على نحو متكرر يعمل على تقويض الثقة بين حاملي الأصول المدعومة بالدولار والمحققة من قِبَل الولايات المتحدة. فكم عدد الشركات الأجنبية التي قد تكون على استعداد لإدراج نفسها في البورصة الأميركية مع علمها بأنها ربما تشطب في أي وقت؟ وكم شخص من غير سكان الولايات المتحدة قد يحتفظ بأصوله في البنوك الأميركية ما دامت أي مناوشات جيوسياسية قد تؤدي إلى تجميد هذه الأصول؟
مع تزايد عدم الثقة في الولايات المتحدة، سوف يكتسب الدافع نحو الإصلاح النقدي الدولي، الذي كانت الصين تدعو إليه خلال العقد المنصرم، المزيد من الزخم. وقد يعني هذا توسيع الدور الدولي الذي تضطلع به عملات أخرى، مثل اليورو، أو الرنمينبي إذا تمكنت الصين من الدفع به. وقد يؤدي هذا أيضا إلى إنشاء نظام نقدي بديل، يتمركز حول احتياجات البلدان النامية، وخاصة مصدري النفط والسلع الأساسية.
من خلال توسيع العلاقة بين المصلحة الاقتصادية والأمن القومي، يشجع ترمب على الفصل بين أكبر اقتصادين في العالم وظهور نظام عالمي ثنائي القطبية بقيادة أطراف مهيمنة منافسة. وإلى جانب تفتيت النظام التجاري والمالي الذي دعم الاقتصاد العالمي لعقود من الزمن، ستكون الساحة مهيأة لصراع مدمر.
اضف تعليق