ربما أصبح واضحاً إلى حد ما، ماهية الأسباب الكامنة وراء النصائح المستمرة للعراق بضرورة الحد من معدلات التوظيف الحكومي، الذي بات يكلف العراق الكثير من الديون، وتسبب بهدر ثروات طائلة، كان ممكن توجيها لمشاريع تخلق الوظائف والقيمة، حتى بعد إنجازها، بعكس سياسات إفقار العراق التي مارستها الحكومات الوطنية...
في موقف شيق لاحد الاقتصاديين ويُقال إنه العبقري الاقتصادي (ميلتون فريدمان)، الذي زار يوماً موقع عمل في إحدى الدول الاشتراكية، ووجد العمال يستخدمون المجارف (الكرك) في الحفر فسألهم: لماذا لا تستخدمون الآلات بدلاً من المجارف، فأجابوه: لكي نوفر المزيد من فرص العمل وتقل البطالة.
فضحك (فريدمان) وقال لهم: إذا كنتم تريدون توفير المزيد من فرص العمل، فلماذا لا تستخدمون الملاعق بدل المجارف، فبهذا ستوفرون المزيد من فرص العمل؟!
آدان الاشتراكيون إجابة ميلتون فريدمان، التي اعتبروها إجابة قاسية وغير إنسانية، وتستهين بحق الإنسان بالعمل.
أما المؤيدون لـ (ميلتون فريدمان) فقد استنتجوا الحقيقة التالية: (إن الدولة تستطيع ان تخلق الوظائف، ولكنها لن تستطيع أن تخلق الثروة)!
وبالفعل، منذ 2003 وظفت الحكومة العراقية الألاف بل الملايين من الموظفين الحكوميين، ولكن هل خلقت هذه الوظائف الثروة وأضافت قيمة للبلد؟! أم كانت تستنزف ثروات البلد؟!
بلغة الأرقام
بحسب برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة، تبلغ البطالة في العراق 11% أي 653 ألف عاطل عن العمل، وإن 23% من الشعب العراقي يعيشون على أقل من 2.2 دولار يومياً، رغم الميزانيات الانفجارية التي عُرف بها العراق!
لنحتفظ بهذه الأرقام بأذهاننا، ونذهب للتحليل دور السياسات:
بلغت كلفة انشاء سد أليسو التركي (1.700) مليار وسبعمائة مليون دولار..
في العراق، تستطيع الحكومة بهذا المبلغ (1.700) توظيف يقارب 6000 شخص لمدة أربعين عام.
إذا كنت تتساءل كيف تم الحساب؟!
لنفترض، بمعدل راتب شهري لفرد الواحد 600 دولار × 12 شهر = 7200 دولار سنويا × 40 عام = 288.000
وبقسمة بسيطة (مليار و 700 مليون ÷ 288.000) = 5900 موظف.
أي من الممكن توظيف ما يقارب الـ 6000 مواطن عراقي، بمعدل راتب شهري 600 دولار لمدة اربعين سنة.
والآن يطرح سؤال التحدي نفسه: لو كنت – عزيزي القارئ - تمتلك القرار، فهل ستشيد سداً، أم توظف 6 ألف مواطن عراقي؟! الذي غالبيتهم ربما من الفقراء؟!
إذا جاز لنا تصنيف الإجابات المحتملة على، أساس العقليات التي ينتمي إليها المُجيبون، فستكون لدينا ثلاث فئات من العقليات:
1- عقلية رجال السلطة، الذين يبحثون عن تحقيق مكاسب انتخابية سريعة، تضمن بقاءهم بالسلطة، حتى لو كانت من خلال قرارات تتسبب بأسواء النتائج الاقتصادية على المدى البعيد، هذه الفئة ستقرر التوظيف لأنه نتائجه أسرع، وهذا ما حدث فعلاً في العراق خلال 16 عام المنصرمة.
2- عقلية رجال المساعدات الخيرية، ذوي النزعة العاطفية في التفكير، الذين يعتقدون أن الوظيفة الحكومية ستحسن الوضع المعيشي للفقراء على المدى القريب، ولكنها ستبقي الشعب بالمجمل فقيراً على المدى البعيد، لأن هناك سقف لأعداد الذين تستطيع توظيفهم حكوميا!
3- عقلية رجال الدولة، الذين يعملون استراتيجياً لبناء أسس متينة لاقتصاد قادر على خلق الوظائف والقيمة بصورة مستدامة وليس مؤقتاً، وهذه الفئة حذرة جداً من السقوط من السقوط في فخ الحلول السريعة.
أن بناء السد – الذي يُعتبر كمثال – سيضمن تشغيل شركات الاسمنت والطاقة والنقل والتوظيف، والغذاء، وهذا كله سيوفر الالف من الفرص العمل، والاهم من الفرص التي سيوفرها هذا الخيار، إنه سيخلق ثروة للبلد ويضيف قيمة حقيقية؛ إن الذاهبون بهذا الاتجاه من التفكير هم أنصار سياسات (اقتصاد السوق) الذين يخلقون القيمة بالإضافة إلى خلقهم للوظائف.
أما الفريق الاخر، فسيقرر فتح باب الوظائف الحكومية وتوظيف 6000 شخص، وتطعمهم لمدة أربعين عام.. وهؤلاء هم أنصار المنهج الاشتراكي، الذين سيخلقون الوظائف، ولكنهم لن ينتجوا القيمة.
ما هي نصائح المؤسسات الدولية؟!
ربما أصبح واضحاً إلى حد ما، ماهية الأسباب الكامنة وراء النصائح المستمرة للعراق بضرورة الحد من معدلات التوظيف الحكومي، الذي بات يكلف العراق الكثير من الديون، وتسبب بهدر ثروات طائلة، كان ممكن توجيها لمشاريع تخلق الوظائف والقيمة، حتى بعد إنجازها، بعكس "سياسات إفقار العراق" التي مارستها الحكومات الوطنية، قبل أن تمارسها دول مجاورة للعراق.
وفي الوقت الذي ركزنا في هذا المقال على إحدى الأسباب، وهي (السياسات ذات الطبيعة الاشتراكية)، فإن هناك العديد من الأسباب الأخرى التي ساهمت بجعل الشعب العراقي فقيراً، والتي يمكن أن نتحدث لاحقاً عن (الدينار القوي) كسبب من أسباب إفقار الشعب العراقي!.
اضف تعليق