يعتبر العجز واحد من اكبر العضلات التي تعترض طريق النمو الاقتصادي والمالي في العراق، ومما زاد من سوء الامر ضعف الإجراءات الحكومية في معالجته بل ان بعض الإجراءات التي اتخذتها الدولة لم تزد المشكاة الا تعقيداً، وقد يعود هذا لعدة أسباب منها قصور أساليب المعالجة...
بالرغم من الخلافات المتعددة في الموازنات الحكومية في كل عام، فهناك أمر اتفقت ولم تختلف عليه معظم هذه الموازنات منذ عام 2003 ولغاية يومنا هذا، وهو العجز المالي في الموازنة العمومية، حيث يعتبر العجز واحد من اكبر العضلات التي تعترض طريق النمو الاقتصادي والمالي في العراق، ومما زاد من سوء الامر ضعف الإجراءات الحكومية في معالجته بل ان بعض الإجراءات التي اتخذتها الدولة لم تزد المشكاة الا تعقيداً، وقد يعود هذا لعدة أسباب منها قصور أساليب المعالجة، وتضخم مسؤوليات الدولة والذي انعكس بدوره على ارتفاع الانفاق العام مع تراجع مستوى الواردات الحكومية بتراجع قطاعات الإنتاج.
ويمكن تعريف العجز في الموازنة بأنه الحال أو الوضع الذي تتجاوز فيه النفقات العامة للحكومة الإيرادات العامة المتوقعة خلال فترة محددة عادة ما تكون سنة واحدة، وتعد هذه المشكلة واحدة من أهم المشاكل الاقتصادية للعديد من الدول فهي لا تختص بالدول النامية أو الفقيرة فقط بل يمكن أن تهدد حتى أقوى الاقتصاديات المتقدمة وأمتنها، فهناك العديد من الدول التي عانت ولا تزال تعاني من هذا الموضوع مثل العراق ومصر واليونان وإيطاليا والأرجنتين وحتى الولايات المتحدة الأمريكية إذا اعتبرنا ارتفاع نسب الدين العام.
وان المتابع للملف الاقتصادي العراقي وبالخصوص ملف الموازنات العمومية يلاحظ إن العجز قد رافق موازناته في كل السنوات السابقة ولدرجة أصبح فيها من بديهيات السياسة المالية للحكومات المتعاقبة، وعند الاطلاع على مسودة موازنة عام 2019 قد يلفت انتباه القارئ الزيادة الحاصلة في حجم العجز المخطط، فبعد أن قدر ب 12,5 تريليون دينار في موازنة عام 2018 (وان كانت أكدت وزارة المالية، في 27 أيلول 2018، إن عجز موازنة بلغ 19 تريليون دينار) نجد إن هذا الرقم قد ارتفع في تقديرات السنة المالية القادمة ليبلغ 22,8 تريليون بالرغم من ارتفاع أسعار النفط عالمياً والذي تمثل في ارتفاع تقدير معدل سعر برميل النفط حيث قدر 56 دولار بعد أن كان 46 دولار في عام 2018 أي بزيادة بلغت 10 دولارات للبرميل الواحد مع معدل تصدير ثابت بلغ 3,8 مليون برميل يومياً، وما يمكن أن يمثله ذلك من زيادة فعلية في حجم الإيرادات النفطية للدولة.
إن الزيادة في سعر برميل النفط كفيلة بالقضاء على أي عجز، او على الأقل الإبقاء على العجز في معدلاته السابقة ولكن بالرغم من ذلك يلاحظ ارتفع حجم العجز المخطط من 12 إلى 22 تريليون أو تذبذب نسبه من سنة إلى أخرى وعند هذه المفارقة لابد للقارئ والمتابع إن يسأل عن أسباب ومبررات هذه العجز؟
وللإجابة على هذا السؤال لابد من الإشارة إلى صعوبة إرجاع ظاهرة العجز في الموازنة إلى سبب واحد فقط، لأنها ظاهرة معقدة ترجع أسبابها إلى العديد من العوامل والمسببات يتعلق قسم منها:
• عدم مواكبة الموارد والإيرادات العامة للنمو الحاصل في النفقات العامة.
• تزايد حجم الإنفاق العام وتنوعه.
• ارتفاع نسبة النفقات الجارية في الموازنات العامة إلى إجمالي النفقات العامة.
• غياب سياسة ترشيد الإنفاق العام وضعف كفاءته.
• انتشار حالات الفساد المالي والإداري داخل المؤسسات الحكومية وما رافق ذلك من هدر للمال العام الامر الذي ادى إلى ضياع الكثير من مبالغ الإنفاق العام.
كما وتجب الإشارة إلى إن العجز في الموازنات الحكومية منذ عام 2003 ولغاية تقديرات عام 2019 هو عجز مخطط (باستثناء عام 2016 حيث تحول فيها العجز المخطط إلى عجز فعلي حقيقي نتيجة تراجع أسعار النفط)، حيث يعرف العجز المخطط بأنه سلسلة من الإجراءات تتخذها الحكومة عند تعرض الاقتصاد إلى أزمة كساد ناجمة عن تدهور في حجم الطلب الكلي مما يدفع الحكومة إلى زيادة إنفاقها وتخفيض ضرائبها، وفي الحالة العراقية فان العجز المخطط له مبرراته البعيدة عن معالجة ازمة الكساد وانما هي متمثلة بالاحتراز من التقلبات الحاصلة في أسعار النفط واحتمالي هبوط أسعارها مما يعرض الاقتصاد الوطني إلى أزمة عجز حقيقي كما حصل في عام 2014 إذ تعتمد الحكومة على إيرادات تصدير النفط في تمويل الموازنة العامة بالأموال للازمة للإنفاق الحكومي وبنسبة قد تصل إلى 90٪ من قيمة الموازنة، ففي عام 2019 بلغت تخمينات الإيرادات النفطية 93,7 تريليون من أصل 105,6 وهو المجموع الكلي للإيرادات المتوقعة، أي إن نسبة الإيرادات النفطية تجاوزت 90٪ من مجموع الإيرادات الكلية، لذا فأن الحكومة عمدت إلى هذه السياسة المالية لمواجهة تقلبات أسعار النفط اعتماداً على ارتفاع أسعاره أو على الأقل استقرارها الأمر الذي يوفر لها الأموال اللازمة لتغطية العجز المخطط من خلال الفارق بين السعر التخميني لبرميل النفط والسعر الواقعي.
إن هذه السياسة المالية في الاحتراز من تقلبات أسعار النفط وآثاره على الموازنات العمومية تبين وبوضوح عجز الحكومات المتعاقبة عن بناء باقي القطاعات الإنتاجية في البلاد والاكتفاء بالتفرج عليها وهي تنهار وتضمحل بسبب الإهمال الحكومي، وبصورة جعل القطاع النفطي هو المتفرد في تمويل الخزينة المركزية فإذا ما اهتزت الأسعار العالمية فان البلاد واقعة في أزمة خانقة قد تهدد البناء المالي والاقتصادي للبلاد في حين عجزت الحكومة العراقية عن معالجته أو على الأقل وضع البلاد في طريق الحل والمعالجة، وبدلاً من ذلك اعتمدت سياسة العجز المخطط الذي يبقي العراق داخل هذا الخطر الاقتصادي الداهم، إذ إن عجز الموازنة المتواصل (الهيكلي) عادة ما يؤدي إلى طريقين خطرين، الأول هو الاقتراض لسد وتغطية الإنفاق الحكومي الذي يعد في كثيراً من مفاصله التزاماً يصعب التخلي عنه، والثاني هو أن يوقع العجز بالدولة في حالة تضخم، وذلك لأنها تضطر إلى إصدار كميات إضافية من النقود او تخفيض قيمة العملة (الدينار أمام الدولار) في محاولة منها لمعالجة العجز دون اللجوء إلى الاقتراض، فتكون النتيجة انخفاض قيمة العملة وحدوث التضخم. وهذه نتيجة حتمية لاستمرار العجز وتواصله من سنة لأخرى فلابد أن تصل الأمور إلى هذه النهاية مهما طال بها الأمد إن لم توضع الحلول اللازمة للخروج من هذه الأزمة.
مما تقدم يتضح إن التصدي لعلاج العجز بالموازنة العامة للدولة من الأمور الضرورية والمصيرية ويمثل أولوية قصوى لما له من علاقة وثيقة بانفجار قوى التضخم، وبأزمة المديونية الخارجية، وان معالجته تعد من الأمور الجوهرية التي تتصدر أي برنامج حكومي جاد لمكافحة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ويمكن إيجاز الحلول المناسبة بالنقاط التالية:-
• التأكيد على إنتاجية النفقة العامة وان تشبع النفقة العامة حاجة عامة لا خاصة وان يكون الإنفاق من اجل هدف تنموي حقيقي وليس الإنفاق لأجل الإنفاق فقط.
• إعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام لحساب الجانب الاستثماري والحد من النفاق الجاري قدر المستطاع من خلال تجنب التبذير في الإنفاق ومحاربة سياسة إحراق الموازنة.
• إعادة إحياء القطاعات الإنتاجية المتوقفة منذ فترة ليست بالقصيرة لما يمكنها أن تحققه من زيادة في الإنتاج وتشغيل الأيدي العاملة وبالتالي زيادة في الواردات الحكومية.
• العمل على زيادة الطاقة الإنتاجية ورفع كمية النفط المصدر بالإضافة إلى العمل الجاد والحقيقي على الاستثمار الكامل للثروة الوطنية من خلال استثمار وتصدير الغاز الطبيعي والغاز المصاحب.
• العمل على زيادة الواردات غير النفطية من خلال العمل على نظام ضريبي فعال وقادر على استحصال المبالغ الضريبية والرسوم المفروضة مع توفير الخدمات المجتمعية الواجبة لتنمية الوعي الضريبي عند المواطن وشعوره بجدوى المبالغ التي يدفعها في مقابل الحصول على الخدمات الضرورية.
• الضرب بقوة وفاعلية على رؤوس الفساد المالي والإداري وذيولها التي عبثت في الجهاز الحكومي وأفرغته من محتواه واعادة ترميم الجهاز الرقابي الحكومي.
اضف تعليق