q
المشاكل الاقتصادية المتعددة والمتفاقمة التي واجهت المجتمع في السنوات السابقة، أخذت حجمها وخطورتها من عجز الحكومات العراقية المتعاقبة على معالجتها طوال العقود الأربعة الأخيرة، وخصوصاً بعد عام ٢٠٠٣ حيث شهدت تراجعات مستمرة في إدارة الملف الاقتصادي. ومن هذه المشاكل القطاع الخاص والذي عرفه الباحثون...

إن المشاكل الاقتصادية المتعددة والمتفاقمة التي واجهت المجتمع في السنوات السابقة، أخذت حجمها وخطورتها من عجز الحكومات العراقية المتعاقبة على معالجتها طوال العقود الأربعة الأخيرة، وخصوصاً بعد عام ٢٠٠٣ حيث شهدت تراجعات مستمرة في إدارة الملف الاقتصادي.

ومن هذه المشاكل القطاع الخاص والذي عرفه الباحثون بانه ذلك الجزء من الاقتصاد العراقي الذي يديره رجال اعمال عراقيون وأصحاب رؤوس الأموال من الصناعيين وتجار ومزارعون واصحاب المرافق الخدمية بالتنسيق مع الجانب الحكومي لتحقيق استراتيجية التنمية في البلد، ولكن الواقع يؤشر الى انه لم يبقى من القطاع الخاص سوى اسمه، بدون أي وجود حقيقي فعال، بالرغم من الخطط والاستراتيجيات المتعددة التي وضعتها الحكومة العراقية لتنشيطه، والتي لم تضف أي شيء للواقع المتراجع لهذا القطاع بل تركت من الصدى الإعلامي أكثر مما تركته من الأثر الواقعي مثل استراتيجية تطوير القطاع الخاص للأعوام (٢٠١٤-٢٠٣٠) وقانون الاستثمار والسلف المصرفية التي تطلقها الحكومة من خلال مصارفها وغيرها من الخطط.

لقد احتل القطاع الخاص مكانة متميزة في سلم اهتمامات الدولة وتحديدا ًعند تأسيس الدولة العراقية عام 1921 والتي منحته الكثير من أشكال الدعم، ولعل احد أسباب هذا الاهتمام هو ضعف الإمكانات المادية للدولة مقارنة بإمكانات القطاع الخاص في ذلك الوقت، والذي ملكه وتحكم به كبار ملاك الأراضي والتجار مما جعل الحكومة العراقية في وقتها تعول على قوة وإمكانية هذا القطاع في النهوض بالواقع الاقتصادي والخدمي للبلد، وقد اتضح اهتمام الدولة بالنشاط الخاص من خلال إصدار سلسلة من التشريعات القانونية الخاصة بتشجيع القطاع الخاص ومنها قانون تشجيع المشاريع الصناعية رقم 114 لعام 1929 الذي أسهم في تشجيع المستثمرين العراقيين، وإصدار ايضاً قانون المصرف الزراعي رقم 12 لسنة 1940 والذي أدى دورا ًمحوريا ًفي تشجيع الحركة الصناعية بالبلد، ومع بداية الخمسينات من القرن الماضي وتحديداً في عام 1952 وقعت الحكومة العراقية عقود مناصفة الأرباح مع الشركات النفطية، والتي أدت إلى ارتفاع العائدات المالية للدولة من بيع وتصدير النفط أسست على أثرها مؤسسة تهتم بتوظيف هذه العائدات في عمليات البناء والتطوير عام1950 أطلق عليها (مجلس الأعمار) الذي قام بجملة من المشاريع الصناعية بشكل مباشر أو عن طريق شركات مساهمة يشترك فيها المصرف الصناعي مع القطاع الخاص.

وإزاء هذا التنظيم لنشاط القطاع الخاص فقد قام رجال الإعمال بمبادرة مهمة تمثلت بتأسيس الشركات المساهمة المحدودة، الأمر الذي أدى إلى زيادة عدد الشركات الخاصة من (27) شركة عام 1929 إلى (225) شركة عام 1956، ولتصل نسبة مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي نحو 80%عام 1956، فضلا ًعن ارتفاع استثماراته ُمن (4) ملايين دينار عام 1953 إلى (20) مليون دينار عام 1956، وهكذا كان التوسع في دور القطاع الخاص مدعما ًمن قبل الدولة وليس مزاحما ًأو منافسا ًفي نشاطاته الإنتاجية.

إلا أن التقدم والنمو في القطاع الخاص لم يدم طويلاً مع ظهور أول علامات الريعي النفطي للاقتصاد العراقي، وما تبعه من قوانين وقرارات جمدت القطاع الخاص وكبلته بالقيود في التوجه الاقتصادي الجديد للدولة وكان من تلك القوانين.

• إصدار قانون الإصلاح الزراعي عام 1958، والذي تم فيه تجريـد كبار مالكي الأراضي الزراعية (الإقطاعيين) من معظم ملكياتهم الزراعية لغرض إنصاف المزارعين واستحداث نهضة زراعية.

• قانون التأميم الذي أصدرته الحكومة العراقية في عام 1964 والذي تضمن تأميم جميع صناعات القطاع الخاص التي زاد رأس مالها على 70 ألف دينار. حيث تم تأميم 27 مشروعا صناعيا في فروع الاسمنت والمطاحن والسكائر ومواد التنظيف والزيوت النباتية وغيرها من الصناعات التحويلية الكبيرة التي لعبت دورا هاما في تشغيل الأيدي العاملة بأعداد تفوق قطاع استخراج النفط كله، مما أدى إلى هبوط مساهمه رؤوس الأموال المستثمرة في الصناعة من 25% إلي 12،5% في تلك الفترة.

• كما وأصدرت الحكومة عدة قوانين أطلق عليها اسم (القوانين الاشتراكية) تم بموجبها رسم الحدود الفاصلة بين القطاعين العام والخاص، بحيث أصبحت جميع قطاعات البنوك وشركات التأمين والمشاريع الصناعية الكبيرة كصناعة الاسمنت والغزل والنسيج وغيرها ضمن القطاع العام، ولا مجال بعد ذلك لإنشاء شركات خاصة فيه، فيما عدا بعض المشاريع المتوسطة والصغيرة التي تركت للقطاع الخاص.

لقد توجهت السياسات الاقتصادية في تلك الفترة نحو ما عرف برأسمالية الدولة أو الاشتراكية العربية، حيث سادت ملكية الدولة لوسائل الإنتاج والمعامل الحكومية وتقديم الخدمات العامة بعيداً عن حسابات الربح والخسارة وخارج مظلة التنافس حيث الدولة هي الطرف الوحيد في السوق وليس هناك أي منافس لها، رافق ذلك توجه الدولة نحو الريعي النفطي وإهمال القطاعات الإنتاجية كافة والاعتماد المطلق على الواردات النفطية في تغطية المصروفات الحكومية وتمويل الخزينة العامة.

لقد تفاعل وتداخل هذان العاملان وانتهى بهما الحال إلى تحجيم القطاع الخاص وإهماله وتهميشه منذ عام ١٩٥٨ والإلقاء به بعيداً عن السوق وتفاعلاته، فيما لعب عدم الاستقرار السياسي والانقلابات المتتالية والصراعات وتبدل الواجهة السياسية للدولة العراقية لمرات عديدة منذ عام ١٩58 ولغاية ١٩٧٩ وما تبعها من حروب متعددة وحصار اقتصادي أدى إلى مردودات عكسية كبيرة على الاقتصاد العراقي، فقد دفعت هذه الأحداث برأس المال الخاص والعديد من المديرين الجيدين ورجال الأعمال إلى عدم الرغبة في المخاطرة في بيئة اقتصادية تعاني كل هذه المشاكل بل إلى الهروب إلى خارج العراق بحثاً عن بيئة أكثر استقراراً.

لقد استمر الحال بالقطاع الخاص على هذه الوتيرة لغاية عام ٢٠٠٣ حيث هبت رياح التغيير السياسي في العراق على أمل أن تبلغ هذه الرياح الواقع الاقتصادي وتقذف به إلى بر الأمان والاستقرار، لكن الواقع كان مغاير بل محطماً لكل هذه الآمال، فبالرغم من إعلان الحكومة العراقية عن توجه الدولة نحو نظام السوق المفتوح، وتبني الأسس الحديثة في التحول الاقتصادي، الآ أن الواقع كان عكس هذا، فقد اتجه الاقتصاد العراقي نحو الاعتماد على الريع النفطي بشكل مطلق وغير مسبوق، مع إهمال كبير جداً لكل المعامل والمصانع وحتى الورش المتوسطة والصغيرة، ومعتمداً على الاستيراد الخارجي تحت سياسة الإغراق السلعي بالمنتجات الرديئة من خلال الباب المفتوح، فضلاً عن وقف العمل بقانون التعريفة الجمركية رقم 77 لسنة 1955 من قبل الحاكم المدني (بريمر) بموجب القانون الذي أصدره برقم 54 لسنة 2004 وعدم فرض الرسوم الجمركية على الاستيرادات، إذ لم تكن تفرض سوى ضريبة اعمار العراق البالغة (5%) على السلع المستوردة كافة، مما أدى بالمنتج العراقي إلى عدم القدرة على المنافسة وإغلاق الكثير من معامل القطاع الصناعي الخاص، الأمر الذي عمل على تحويل السوق العراقية للقمة سائغة للصناعات العالمية، لتكتم بهذا على آخر نفس للصناعة المحلية.

إن انفتاح العراق على الأسواق العالمية وبصورة ارتجالية وغير مدروسة أدى إلى شيوع البطالة وتحول المجتمع العراقي إلى مجتمع مستهلك وغير منتج ساعد في ذلك وجود (23) منفذا حدوديا عام 2003 بعد إن كان ثلاثة منافذ حدودية عام 2002، مما خلق وضعا تنافسيا قويا أمام القطاع الخاص الزراعي والصناعي وغيرهم وباتت هذه المنافسة غير المتكافئة تهدد مستقبل الإنتاج في العراق.

فبعد تسريح آلاف العاملين الذين لم تتمكن مصانعهم أو ورشهم من منافسة البضاعة المستوردة، حيث إن الحكومات العراقية لم تضع في حساباتها دعم القطاع الخاص والعمل على تنميته ليسد الفراغ الذي يخلفه إغلاق المعامل والمصانع الحكومية والتي كانت قبل عام ٢٠٠٣ هي من تقوم بتلبية حاجات السوق وإشباع الاحتياجات المتنامية للسوق العراقية.

إن التوجه الدولة العراقية نحو الاقتصاد الحر وتبني سياسة السوق كان يجب إن يرافقها دعم القطاع الخاص ليقوم بدوره في تشغيل الأيدي العاملة وتجنب أخطار البطالة التي ستصيب العمالة العراقية في حال رفع الدعم عن الصناعة الوطنية، ولكن ما حصل عكس هذا، فقد عانى القطاع الخاص من إهمال متعمد رافق تخفيض قيمة التعريفة الجمركية، فلا صناعة وطنية ولا قطاع خاص مع أبواب الاستيراد المفتوحة على مصراعيها تعرض العراق على اثرها إلى اكبر عملية نهب واستنزاف للعملة الأجنبية طوال تاريخه لتعتاش وتثرى دول معينة على حساب المواطن العراقي الذي اثقلته سياسة الماضي وما أنصفته سياسة الحاضر.

إن القطاع الخاص في العراق عانى من مشاكل جمة خلال تاريخه المليء بالانتكاسات والتي عملت على قتل هذه التجربة تارة من خلال النهج الريعي للاقتصاد العراقي وتارة للتوجه الحكومي نحو رأسمالية الدولة وتارة أخرى في تفشي الفساد المالي والإداري الذي عرقل كل المسيرة الصناعية والإنتاجية في البلد، ويمكن إيجاز هذه المعوقات بالنقاط التالية:

1. ارتباط وتبعية مصالح هذا القطاع ارتباطـا مباشـرا بالدولة لاسيما في الفتـرة التـي سـبقت التغيير في سنة ٢٠٠٣ وهو انعكاس لطبيعة النظام الاقتصادي الشمولي والمركزي الذي ساد في العراق قبل هذه الفترة.

2. إن هذا القطاع يعاني من ضعف القدرات التنظيمية والتمويليـة إذ لا تشكل ممتلكاته بالشكل النقدي إلا نسبة قليلة من الثروة القومية الكلية، حيث يعاني من ظاهرة هجرة أمواله وكثير من العاملين فيه إلى الخارج.

3. التراجع الأمني الحاد الذي شهده العراق بعد عام ٢٠٠٣ وانتشار الأفكار المتطرفة والهدامة والتي عملت على ابتزاز أصحاب العمل من خلال فرض أموال عليهم هي اقرب للإتاوات في مقابل عدم التعرض لهم ولمشاريعهم دفعت بالكثير منه إلى تصفية أعمالهم والهرب خارج البلاد.

4. السياسة التجارية للحكومة العراقية والتي فتحت الحدود بعد عام ٢٠٠٣ أمام السلع والمنتجات الأجنبية بما عرف بسياسة الإغراق السلعي للأسواق العراقية بالمنتج المستورد وبكل أصنافه الجيدة والرديئة، والتي يستحيل على الصناع الوطنية منافستها من قبل الصناعة المحلية.

5. اعتماد القطاع الخاص في العراق على الربح السريع والكبير بدون التأسيس لقاعدة صناعية وإنتاجية تعمل على إعادة بناء الاقتصاد وسحب البطالة، بل إنها في كثير من الأحيان أخذت دور السمسار الذي يقوم بالاستيراد نيابة عن الدولة، دون العمل على بناء إنتاج حقيقي.

6. ضعف أداء المصارف العراقية وتعقيد إجراءاتها أدت إلى تقليص إمكانات تمويل المشاريع من المصارف مما يعني ضعف رأس المال الخاص وعدم قدرته على القيام بمفرده بعملية البناء والتنمية.

7. تفشي وانتشار الفساد المالي والإداري في الدولة العراقية عمل كحائل أمام القطاع الخاص من خلال التأسيس لبيئة استثمارية طاردة لا يمكن من خلالها العمل الحقيقي، بل إنها أجبرت رؤوس الأموال الوطنية على البحث عن أجواء أكثر ملائمة واستقرار خارج البلد.

8. التراجع الحاد والتقادم في البنى التحتية الإنتاجية، نتيجة الإهمال المتواصل من قبل الحكومة بالإضافة إلى الحروب المتتالية التي خاضها العراق، مثل منظومة الكهرباء وطرق المواصلات والإمدادات بالمشتقات النفطية.

إن النقاط أعلاه شكلت أهم العقبات والتحديات التي واجهت القطاع الخاص في السنوات السابقة، والتي لا يمكن النهوض بهذا القطاع والتقدم بالعملية التنموية والإنتاجية إلا من خلال تجاوزها والعمل على تذليلها، ويمكن الإشارة إلى مجموعة من النقاط قد تشكل أهم الأمور التي يجب إتباعها في سبيل التأسيس لواقع إنتاجي وصناعي وزراعي يؤدي إلى تحقيق متطلبات العمل والقضاء على الكثير من المشاكل الاقتصادية مثل البطالة والفقر وغيرها، وكما يلي:

• إنشاء هيئة مستقلة مرتبطة بمجلس الوزراء مهمتها التنسيق مع الجانب الحكومي لأجل المشاركة في القـرار الاقتصـادي الذي يتعلق بالقطاع الخاص بما يفضي إلى ضمان تنفيـذ القـرارات ومتابعتها.

• رسم سياسة تجارية تتناغم مع أهداف الصناعة الوطنية وضبط عملية الاستيراد ووضع حد لسياسة الإغراق السلعي والباب المفتوح للأسواق العراقية أمام المنتج الأجنبي، وتوفير مستلزمات ا نتاج الصناعي والحد من استيراد السلع غير الضرورية.

• الاهتمام بنشاط التقييس والسيطرة النوعية للإنتاج المحلي والسلع المستوردة على حد سواء لضمان أفضل الإنتاج وبواقع يسمح بالمنافسة.

• العمل على بناء بيئة استثمارية صـالحة ومشـجعة وجاذبـة لاستثمارات القطاع الخاص مـن النـواحي القانونيـة والتشـريعية والتمويلية وبنية تتوافر فيها الشروط الأمنية واللوجستية.

• التأكيد على إجراءات الجهاز المصرفي للعمل بآلية سلسة من حيث تسهيل عمليـة التمويل والإقراض والسرعة في الإنجاز وتقديم المزيد من الخـدمات المصرفية.

• العمل على أيجاد آليـة لإطلاق برنامج جذب الكفاءات العلمية المهـاجرة ورؤوس الأمـوال ودعم مشاركتها لتقديم عطاءاتها وخبراتها فـي البنـاء وتطـوير أداء القطاع الخاص.

• وضع حد للفساد المالي والإداري في أجهزة الدولة وتسهيل عمل مؤسسات القطاع الخاص بإصدار قوانين جديدة وإزالة التعقيدات الروتينية وتحسين فرص هذا القطاع في الحصول على تمويل ودعم من قبل الدولة.

• إلزام الوزارات بتشجيع المنتجات المحلية والتعاقد مع الشركات الصناعية لشراء منتجاتها وذلك ضمن ضوابط معينة في مجال السعر والنوعية.

* باحث اقتصادي

اضف تعليق