q
ارتفاع الدولار يعكس نموا اقتصادية أسرع، مدفوعا بأجندة الرئيس في ما يتصل بإلغاء الضوابط التنظيمية، والتخفيضات الضريبية الهائلة، وتوسيع الإنفاق الدفاعي بشكل كبير. فبعد سنوات من سوء الإدارة، يُقال لنا إن الحكومة نجحت الآن في استعادة الثقة في الأعمال؛ وإن أميركا بدأت تحقق كامل إمكاناتها...
بنيامين ج. كوهين

 

سانتا باربرا ــ بعد أن اكتسبت قيمته 8% إضافية منذ بداية العام، يقترب الدولار الأميركي الآن من ارتفاعات غير مسبوقة في أكثر من عشر سنوات، وتشير مؤشرات السوق إلى المزيد من الارتفاع في الأشهر المقبلة.

لأول وهلة، يبدو هذا وكأنه يبرر سلوكيات الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي وصل إلى منصبه بعد أن تعهد بجعل أميركا "عظيمة مرة أخرى". فربما يمكن اعتبار الدولار الأقوى وكأنه يعني أن سياسات ترمب الاقتصادية الداعمة للنمو ناجحة. غير أن نظرة عن كثب تُظهِر أن الأمور أشد من هذا تعقيدا؛ والواقع أن ترمب ربما يتسبب في انحدار قيمة الدولار بشكل كبير.

فبادئ ذي بدء، ليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كان ترمب يستطيع أن ينسب إلى نفسه الفضل في ارتفاع قيمة الدولار. ولكن حتى لو كان ذلك في مقدوره، فإن الدولار القوي ليس مفيدا بالضرورة في تحقق أهداف ترمب السياسية؛ ولا يُعَد سعر الصرف حتى مقياسا دقيقا لقوة العملة الحقيقية.

إن إدارة ترمب تود لو نعتقد أن ارتفاع الدولار يعكس نموا اقتصادية أسرع، مدفوعا بأجندة الرئيس في ما يتصل بإلغاء الضوابط التنظيمية، والتخفيضات الضريبية الهائلة، وتوسيع الإنفاق الدفاعي بشكل كبير. فبعد سنوات من سوء الإدارة، يُقال لنا إن الحكومة نجحت الآن في استعادة الثقة في الأعمال؛ وإن أميركا بدأت تحقق كامل إمكاناتها أخيرا.

بيد أن أغلب أهل الاقتصاد المطلعين يعزون ارتفاع قيمة الدولار إلى ارتفاع أسعار الفائدة. ففي محاولة لتجنب التضخم، زاد بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية مرتين هذا العام، وأشار إلى زيادات أخرى قبل نهاية عام 2018. فعندما ترتفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، يزداد تدفق رؤوس الأموال الاستثمارية إلى الداخل، فيرتفع الطلب على الدولار. والآن، تتدفق الأموال إلى الولايات المتحدة من كل ركن من أركان العالَم.

ولا يختلف الموقف اليوم عن موقف أسلاف ترمب من الجمهوريين. فقد خفض كل من الرئيسين رونالد ريجان وجورج دبليو بوش الضرائب بشكل حاد، مما أفضى إلى عجز في الموازنة دفع بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى رفع أسعار الفائدة. وفي الحالتين، سجل الدولار ارتفاعا كبيرا (بلغ 60% في عهد ريجان في الفترة من 1981 إلى 1985). واليوم، يتصرف بنك الاحتياطي الفيدرالي بشكل مستقل مرة أخرى لدرء تأثير التضخم الناجم عن التوسع المالي. وعلى هذا فإذا كان لأي جهة أن تنسب إلى نفسها الفضل في ارتفاع قيمة الدولار، فهي بنك الاحتياطي الفيدرالي.

ومع ذلك، يستطيع المرء أن يتخيل ترمب وهو يقول إن العملات الأضعف هي "للخاسرين". وربما يتباهى بارتفاع قيمة الدولار في مواجهته الجارية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي انخفضت قيمة عُملة بلاده بنحو 60% منذ بداية العام. ولكن في حين أن سعر الصرف القوي ربما يداعب غرور ترمب، فإنه لا يخدم بالضرورة أجندته الأوسع.

في كل الأحوال، يعمل الدولار المتزايد القوة على زيادة أسعار الصادرات في الخارج وخفض التكلفة المحلية للواردات، وبالتالي تثبيط التصدير وتشجيع الاستيراد. ويتعارض هذا بشكل مباشر مع هدف ترمب المعلن المتمثل في خفض العجز التجاري الأميركي.

ويبدو أن هوس ترمب بالعجز التجاري قاده إلى فرض رسوم جمركية على الواردات من الصلب والألومنيوم، ومجموعة واسعة من المنتجات من الصين. ولكن من عجيب المفارقات هنا أن الواردات الأكثر تكلفة تفرض أيضا ضغوطا من شأنها أن تدفع معدل التضخم المحلي إلى الارتفاع. وهذا بدوره كفيل برفع قيمة الدولار وزيادة العجز التجاري، كما حدث في عهد ريجان ثم في عهد بوش.

أخيرا، يتعين على المرء أن يتذكر أن التحركات القصيرة الأجل في أسواق الصرف الأجنبي ليست وسيلة للحكم على القوة الأساسية للعملة. والمقياس الأفضل كثيرا هو الاتجاهات الأطول أجلا في الكيفية التي تستخدم بها العملة دوليا ــ وخاصة بوصفها مخزنا للقيمة بالنسبة للمستثمرين الأجانب والبنوك المركزية.

على مدار عقود من الزمن، لم تستخدم أي عملة على نطاق أوسع من الدولار. ونظرا لهيمنة الدولار، تمتعت الولايات المتحدة لفترة طويلة بما أطلق عليه الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار دستان وصف "الميزة الباهظة". وما دام الأجانب متعطشين للدولار، تستطيع الولايات المتحدة أن تنفق قدر ما تحتاج إلى إنفاقه لاستعراض القوة في مختلف أنحاء العالَم. ولكي تدفع مقابل كل هذا فإنها لا تحتاج إلا إلى اللجوء إلى مطبعة النقود.

لكن سياسات ترمب المولعة بالقتال تعرض هذا الموقف المتميز للخطر. ولا يخلو وعده المشرب بنزعة الحماية بوضع "أميركا أولا" من نعرة قومية معادية للأجانب، ومن الواضح أن استخدامه المتنمر للرسوم الجمركية يتسبب في إبعاد الأصدقاء والأعداء على حد سواء. وكلما استمر في الإبقاء على مثل هذه السياسات، كلما تزايدت احتمالات تحرك الأسواق تدريجيا نحو بدائل للدولار. في نهاية المطاف، سوف ينزف الدولار ببطء، وسوف يتبخر امتياز أميركا الباهظ ونفوذها العالمي.

وكما تصادف، فقد نجحت الصين بالفعل في إقناع روسيا بقبول الرنمينبي للدفع في مقابل الغاز الطبيعي، حيث لم تقم بهذه المشتريات من قَبل إلا بالدولار. ومؤخرا، بدأت الصين تمهد الطريق لشراء النفط الخام المستورد بالرنمينبي. على سبيل المثال، في وقت سابق من هذا العام، أطلقت سو العقود الآجلة للنفط في شنغهاي، والتي يبدو أن الهدف منها إنشاء مرجع سعري مقوم بالرنمينبي إلى جانب خام برنت وغرب تكساس الوسيط. وإذا نجحت سوق شنغهاي فإن نجاحها قد يفضي إلى إطلاق شرارة تحول في المدفوعات لسلع أخرى متداولة أيضا ــ وكل هذا على حساب الدولار.

على نحو مماثل، تبحث عِدة دول عن طرق للتحايل على العقوبات التي تفرضها إدارة ترمب على منتجي النفط الإيرانيين. فتدفع الهند على سبيل المثال في مقابل بعض النفط الإيراني بالسلع بدلا من الدولارات. وكانت كل من روسيا والصين تستثمر بكثافة في الذهب للحد من اعتمادها على الاحتياطيات المقومة بالدولار. وقد اشترى البلدان بالفعل نحو 10% من كل الذهب المتاح في السوق العالمية.

ولهذا، فعلى الرغم من ارتفاع قيمة الدولار اليوم، ربما يكون ضعف قيمة الدولار احتمالا واردا في الأمد البعيد. وبعيدا عن جعل أميركا عظيمة مرة أخرى، يبدو ترمب وكأنه يعجل بانحدارها الاقتصادي.

* بنيامين ج. كوهين، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي بجامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا، ومؤلف كتاب "قوة العملة: فهم التنافس النقدي
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق