ويعاني العراق من انتشار ظاهرة الفساد بكل أنواعه فبالإضافة للفساد المالي والإداري هناك فساد سياسي ومجتمعي. وقد ساهم الفساد في ارتفاع البطالة لمعدل 20% في حين أن أكثر من نصف مليون طفل عراقي يتواجدون في سوق العمل بالإضافة إلى وجود 3.5 مليون طفل خارج الدراسة...
يبلغ عدد الأشخاص الذين يعيشون في دول تعاني من الفساد قرابة 6 مليار شخص حيث ينتشر الفقر في معظم تلك المجتمعات وتسوء الخدمات وأهمها في قطاعات التعليم والصحة.
وهناك تعريفات متعددة للفساد لكن ما يهمنا هنا هو الخاص باستعمال السلطة أو الوظيفة العامة. فبحسب منظمة الشفافية الدولية الفساد هو (كل عمل يتضمن سوء استخدام الفرد للمنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة ذاتية أو لجماعة معينة).
ويعاني العراق من انتشار ظاهرة الفساد بكل أنواعه فبالإضافة للفساد المالي والإداري هناك فساد سياسي ومجتمعي. وقد ساهم الفساد في ارتفاع البطالة لمعدل 20% في حين أن أكثر من نصف مليون طفل عراقي يتواجدون في سوق العمل بالإضافة إلى وجود 3.5 مليون طفل خارج الدراسة.
فرص ضائعة:
وعلى الرغم من أن العراق يسبح على بحيرات من النفط إلا أن ذلك لم يستطع أن يدعم عملية التنمية وبناء الإنسان ولم يتمكن النفط من تمويل البنى التحتية لتنويع الاقتصاد.
وعلى الرغم من أن احتياطي العملة الأجنبية بلغ عام 2009 قرابة 84 مليار دولار إلا أنه تراجع في العام 2017 إلى 49 مليار دولار وذلك بالرغم من زيادة انتاج النفط. ويخرج من العراق ما متوسطه 130 مليون دولار يومياً بسبب مزاد بيع العملة الذي يشوبه كثير من الفساد.
وقد تحول العراق اليوم إلى دولة لا يمكنها أن تنجز أي مشروع دون أن يتم تمويله من خلال الاقتراض (الداخلي والخارجي) الذي بلغ قرابة 135 مليار دولار وهو أكثر من 30% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي.
وقد تسبب الفساد في ضياع استثمارات تقدر بالمليارات حيث يقدر عدد المشاريع الوهمية بـأكثر من 6 آلاف مشروع وهمي بكلفة 200 مليار دولار. وحتى عام 2016 كان هناك 4 آلاف مشروعاً متوقفة بقيمة 5 ترليون دينار (بعضها غير ذي جدوى اقتصادية ويتم الاقتراض لإنجازها ومع ذلك فإن نسبة الانجاز لم تتجاوز في معظمها الـ 20%).
وتأتي هذه الاحصاءات السيئة في ظل موازنات انفجارية حيث بلغت فوائض الموازنات خلال الفترة بين 2006-2014 فقط قرابة 120 مليار دولار في حين كان مجموع الموازنات في نفس الفترة ما لا يقل عن 700 مليار دولار ذهبت جلها إلى جيوب الفاسدين.
لكن ما هي أهم أسباب عدم السيطرة على الفساد في العراق؟
تتعدد أسباب عدم السيطرة على الفساد في العراق ولكننا سنحاول في هذه الورقة البحثية المختصرة التطرق لأبرزها وهي:
1- تعدد الهيئات الرقابية وضعفها امام نفوذ الفاسدين المعزز بقوة السلاح والمتجذر في معظم مرافق الدولة ومؤسساتها، حيث أضعف دور ديوان الرقابة المالية وتم خلق مؤسسات رديفة كهيئة النزاهة ومكتب المفتش العام وكلها وعلى الرغم من موظفيها ما تزال دون اية قوة قانونية تدعمها.
2- ضعف الدور الرقابي للمؤسسة التشريعية خاصة ما يتعلق بالشفافية فعلى الرغم من الموازنات الضخمة الا انها ما تزال تجري دون الكشف عن الحسابات الختامية ومعرفة التدفقات النقدية لها والتي ناهزت 1 ترليون دولار منذ 2003 ولغاية العام 2017.
3- ضعف الأنظمة المحاسبية للمصارف وعدم ربطها بالشبكة العالمية مع بقائها متخلفة عن التكنولوجيا التي تسهم بكل تاكيد في تعزيز الرقابة وتتبع الأموال وتحويلاتها. فالبنك المركزي العراقي على سبيل المثال ما زال بعيداً جداً عن نظام الاعتمادات المستندية لاستيراد وتصدير السلع بما يمنع خروج العملة الصعبة لحسابات وهمية كما يحدث في حالة (الصكوك الطيارة) وغيرها. كما ان البنك المركزي العراقي هو المؤسسة المالية الوحيدة في العالم التي تبيع عملة بلادها بالمزاد ما يؤدي لاستنزاف الاحتياطي النقدي واهدار الكثير من الفرص لصالح دول اخرى مجاورة يتم تطويرها بأموال عراقية صرفة.
4- تضخم القطاع العام وتحول وزارات الدولة من منظم للأعمال الى مستثمر ينافس القطاع الخاص حتى تحول القطاع العام الى مركز للعاطلين عن العمل يثقل كاهل الدولة ويكلفها اكثر من نصف موازناتها السنوية.
وقد انعكس ذلك على أداء القطاع الخاص الذي يكاد يكون معدوماً في الاقتصاد العراقي في حين أن القطاع العام يتضخم حتى أن عدد موظفيه بلغ 7 ملايين موظفاً (منهم 3.2 مليون متقاعداً) تقدر رواتبهم بـ 4 مليار دولار شهرياً وبكفاءة انتاجية تعادل النصف ساعة يومياً.
5- اعاقة عمل القطاع الخاص وتحديداً المشاريع المتوسطة والصغيرة التي تدعم الشباب وتوفر فرص العمل وتساهم في تنوع الاقتصاد والاستعاضة عنها بمنح صغيرة دون استراتيجيات واضحة للتنمية ما يساهم في اهدار المال العام دون مكاسب حقيقية تذكر.
6- انعدام الخبرة الناجم عن التعمد في تحييد الكفاءات او استقطابها ما يضع الانسان غير المناسب في المكان الذي يناسب أصلاً شخصاً آخر غيره اكثر خبرة وكفاءة منه.
7- عدم وجود بيئة إنتاجية تستوعب الإعداد الهائلة من العاطلين عن العمل وتقلل من الفقر الذي يعتبر أحد أهم أسباب الفساد المالي في العراق. وبحسب وزارة التخطيط قد ارتفع عدد من يعيشون تحت خط الفقر في العراق عام 2016 إلى 30% بزيادة 6.5% عن النسبة المعلنة في 2015 والتي كانت أكثر من 25 % ما يؤشر إلى تفاقم المشكلة واستفحالها.
8- سوء التعليم والمناهج التربوية التي تخلق بيئة مضادة للفساد وتساهم في تعزيز الوعي بمخاطره.
9- ضعف المنظومة الاخلاقية في المجتمع والتحول السلبي في بعض القيم حتى ان الموظف الأمين تحول بالتعبير العام الى (قافل او غشيم) واما الموظف الفاسد فهو (شاطر أو ناجح) والرشوة أصبحت (هدية) او بتعبير اكثر رواجاً (عمولة).
10- افساد الإعلام وتجيبره لصالح فئات حزبية او جهات مستفيدة من اموال الدولة وتحويله إلى قناع يجمل وجه الفاسدين او يحاول تمييع القضايا لتكون هناك حرية واهية او ديمقراطية زائفة.
11- عدم وجود ارادة سياسية حقيقية بمكافحة الفساد بالرغم من وجود دلائل مادية تصل في بعض الأحيان للاعتراف بالجرم علناً على الهواء وامام الملايين في شاشات التلفزيون لكن من دون حسيب او رقيب. بل ان الحكومات المتعاقبة على العراق منذ 2003 تسترت في معظم الأحيان على الفساد لصالح صفقات سياسية لا تخدم إلا أحزاب السلطة.
الحلول المقترحة:
هذا الواقع المتردي لا يمنع من وجود عدد من الحلول للتغلب على هذا الداء المستشري في جسد الدولة العراقية وإصلاح الوضع الاقتصادي. ويتمثل ذلك فيما يلي:
1- تطوير البيئة القانونية والتشريعات بما ينسجم مع حماية حقوق المواطن والمستثمر على حد سواء واحترام تنفيذ تلك القوانين وفق سلطة القانون.
2- تحديث النظام القضائي ورفع كفاءة القضاة وتوفير الدعم والحماية المادية والمعنوية لهم.
3- تعزيز الشفافية في الإدارة والإجراءات المالية وتطبيق الأنظمة التكنولوجية الحديثة لتتبع الأموال في المصارف ومنع التهرب والتجنب الضريبي.
4- تطوير عمل المصارف ووضع شروط صارمة لإنشاء المصارف الأهلية.
5- انهاء العمل بنظام بيع العملة بالمزاد وربط عملية الاستيراد بالمصارف وفق نظام الاعتمادات المستندية.
6- توحيد أجهزة الرقابة المالية في جهاز ديوان الرقابة المالية والاستفادة من الخبرات السابقة والكفوءة لموظفي هذا الجهاز.
7- الاهتمام بالموارد البشرية وتدريب كوادر مهنية قادرة على المراقبة وتطبيق القوانين وتتبع الأموال ومنع خروجها من دائرة الاقتصاد العراقي من خلال شبكات الفساد.
8- تحديد الصلاحيات بما ينسجم مع النظام الفيدرالي للدولة وألا يكون هناك تضارب في المصالح وإنما أن تجري كل المشاريع والاستثمارات وفق خطة التنمية الشاملة والتي على أساسها يتم حركة كافة الدوائر والمؤسسات في الدولة.
9- تشكيل مجلس أعلى للموارد الطبيعية للحفاظ على تلك الموارد ومنع إهدارها أو عدم الاستفادة منها في تحقيق الخطط التنموية المحددة.
10- تأسيس مجلس وطني للإعمار يشرف على عمل الوزارات ويوجهها وينسق فيما بينها. ويتعاون هذا المجلس مع المصارف والقطاع الخاص والدول الأجنبية لجذب الاستثمارات وبالتالي يعطى له مهمة رسم السياسات الاقتصادية للعراق بما ينسجم مع برنامج الإعمار والتنمية الوطني.
11- تدريب الكوادر الوطنية لتمكينها ليس فقط من إفادة القطاع العام وإنما لجعلها قادرة على البدء بمشاريعها الخاصة التي ترفد الدولة بمزيد من الموارد المالية ولا تجعل من الشباب العراقي رهينة بالتعيينات الحكومية أومسيياً لدفع الرشى للحصول على الوظائف.
12- توجيه القوة العاملة للعمل في القطاع الخاص من خلال زيادة الحوافز التي يحصل عليها ذلك القطاع كمنحه إعفاءات ضريبية تمكنه من توفير وظائف جديدة وخلق فرص انتاجية أكبر.
13- تحقيق مبدأ الكفاءة في الأعمال وتطبيق معايير صارمة للجودة والرقابة الإدارية والمالية على الأداء والإنجاز بالإضافة لتطبيق مبدأ المكافآت والتحفيز أو العقوبات الصارمة بحق المخالفين.
14- دعم القطاعات الانتاجية ذات المردود العالي والتي تشغل أكبر قدر من الأيدي العاملة كالصناعة والزراعة ولكن وفق مبدأ الشراكة أو الاستثمار.
15- العودة للقيم الأصيلة والأخلاق ليس فقط من خلال المناهج التربوية وإنما من خلال خلق نماذج وقدوات صالحة يتم تسليط الضوء عليها وتكريمها.
16- تطوير قدرات الإبداع والابتكار لدى الطلاب والاستفادة منها تجارياً لخلق فرص استثمارية جديدة تزيد من ثقة المجتمع بأبنائه وقدراتهم على العمل والانتاج بعيداً عن الاحتيال والاستغلال.
17- إلزام الحكومة قانوناً بتطبيق خطة التنمية التي يتم الاتفاق عليها ومحاسبتها قضائياً في حال كانت نسب الانجاز أدنى من المعايير التي تحدد في الخطة نفسها.
18- دعم الإعلام وبخاصة الاستقصائي وحماية الصحفيين ليتمكنوا من إداء دورهم الرقابي وتسليط الضوء على الأخطاء أو تشجيع الانجازات.
19- تشجيع دور منظمات المجتمع المدني في الرقابة على أداء الحكومات وتحمل الانتقادات التي توجهها لتلك الحكومات.
20- أضاع الفساد الكثير من الفرص لبناء العراق وتسبب في أمية 7 ملايين عراقي لذلك لا بد من دعم التعليم والاستثمار في رأس المال البشري.
ختاماً فإن عملية محاربة الفساد لن تتم وفق خطوات محددة وحسب وإنما من خلال منظومة من المؤسسات التي تتعاون فيما بينها في داخل العراق وخارجه. وهي مسؤولية جماعية يجب أن يتعاون كل الشعب العراقي على القضاء عليها لأنها لا تهدد حاضره فقط وإنما تساهم في تدمير مستقبله ووضع العراقيل أمام أية فرصة للتطور والنجاح.
لقد تأخر العراق كثيراً وتراجعت معدلات التنمية فيه لمستويات متدنية لذلك فقد آن الأوان للقضاء على الفساد وليبدأ كل منا من موقعه.
اضف تعليق