في العراق تكاد تكون ظاهرة تزايد معدلات الفقر من أبرز مفارقات الوفرة النفطية في الاقتصادات الريعية، نظرا لغزارة الايرادات النفطية التي تدفقت على البلد منذ عقود، وضخامة الاحتياطات والصادرات النفطية للعراق. تسعى جهود حكومية متواصلة للحد من تفاقم هذه الظاهرة وإنعاش مستوى المعيشة للطبقات الفقيرة...
يعد الفقر من أكثر الظواهر فتكا في حياة الشعوب، ويعاني العالم من تزايد مخيف في نسب الفقر وانخفاض مستويات المعيشة في عدد كبير من البلدان النامية. اما في العراق تكاد تكون ظاهرة تزايد معدلات الفقر والحرمان من أبرز مفارقات الوفرة النفطية في الاقتصادات الريعية، نظرا لغزارة الايرادات النفطية التي تدفقت على البلد منذ عقود، وضخامة الاحتياطات والصادرات النفطية للعراق.
في هذا السياق، تسعى جهود حكومية متواصلة للحد من تفاقم هذه الظاهرة وإنعاش مستوى المعيشة للطبقات الفقيرة عبر برامج وسياسات ضُمنت في استراتيجية التخفيف من الفقر قبل سنوات. ومؤخرا، أطلقت اللجنة العليا لاستراتيجية التخفيف من الفقر في العراق، الاستراتيجية الثانية (2018-2022)، والقائمة على منهج علمي في التعامل مع مشكلات الاقتصاد والتنمية في العراق، وذلك عبر المسح والبحث والتحليل للمشكلات الاقتصادية التي يعاني منها البلد، وبما يتوافق مع رؤية العراق للتنمية المستدامة 2030 (1). وفيما يلي عرضاً لأبرز محاور الاستراتيجية الجديدة ومناقشة الخطوط الكبرى فيها.
ملامح الاستراتيجية الجديدة
شهد العراق احداثا سياسية واقتصادية وامنية جسيمة خلال اعوام إطلاق استراتيجية التخفيف من الفقر الاولى (2010-2014) مما خلف اثارا سلبية على مسار تلك الاستراتيجية، والنتائج المرجوة منها وفرضت تحديات جديدة تضاف لأي استراتيجية جديدة. فعلى الرغم مما حققه العراق من مكاسب في معركته ضد الفقر وانخفاض معدل الفقر من 22% عام 2007 الى 18% عام 2012، الا ان تأثير الصدمة المزدوجة انعكس بشكل واضح على معدلات الفقر لتقفز الى قرابة 23% عام 2014. وقد ازدادت تلك المعدلات عام 2015 وبعدها نظرا لهبوط الايرادات النفطية وما ترتب عليها من هبوط في النفقات الاستثمارية غير النفطية لقرابة 75% مما قلص من انجازات الاستراتيجية الاولى للحد من الفقر بشكل كبير.
وتتضمن الخطة الجديدة 32 نشاطا تندرج ضمن قطاعات رئيسة هي: التعليم، الصحة، السكن، الحماية الاجتماعية، لأجل تخفيض الفقر بمعدل 25% كما جاء في افق الاستراتيجية. وصولا الى الهدف الاستراتيجي النهائي والذي يتناغم مع اهداف التنمية المستدامة 2030 بالقضاء على الفقر المدقع في البلاد. وتنطلق الاستراتيجية الثانية للحد من الفقر في العراق في ظروف استثنائية اهمها التعايش مع هبوط اسعار النفط والقضاء على داعش. وتهدف الاستراتيجية الجديدة الى تقليص معدلات الفقر في العراق بمقدار الربع بحلول عام 2022 من خلال التعايش مع الظروف الحالية. كما وتركز الاستراتيجية الجديدة على الفئات الاكثر هشاشة كالنساء والاطفال فضلا على توفير اليات لحماية الاجتماعية المستدامة التي من شأنها بناء رأس المال البشري الكلي. واخيرا التركيز على احتياجات اسر النازحين في المناطق المحررة مؤخرا.
تحديات قديمة واخرى جديدة
جاء الفصل الاول تحت عنوان "الاستراتيجية الجديدة تحديات قديمة واخرى جديدة" فقد ناقش أبرز التحديات التي واجهت الاستراتيجية الاولى (2010-2014) كقاعدة انطلاق للاستراتيجية الجديدة، فضلا على مناقشة عددا من التحديات التي فرضها الواقع السياسي والامني والاقتصادي الجديد. وفيما يخص التحديات القديمة نصت الاستراتيجية الاولى التعامل مع اربعة تحديات رئيسة: ضمان الامن والاستقرار، ضمان الحكم الرشيد، ضمان عدالة التوزيع وتنويع مصادر الدخل في اقتصاد السوق، واخيرا التخفيف من الاثار السلبية للإصلاح. ومع انطلاق استراتيجية 2018-2022 فإن هذه التحديات لا تزال قائمة، وان كانت قد اتخذت ابعادا أكثر عمقا وتأثيرا في الاقتصاد والمجتمع. فلا يزال تهديد الأمن يشكل هاجسا مقلقا للمواطن العراقي.
اما تحدي تنويع مصادر الدخل والذي يعد شرطا اساسيا للتخفيف من الفقر فإن العراق لا يزال يعتمد بشكل مفرط على النفط في تمويل الموازنة والاقتصاد. وفيما يخص جهود الاصلاح الاقتصادي والمالي فلم تسفر الجهود الحكومية السابقة عن نتائج مهمة في تصحيح مسار الاقتصاد والحوكمة، اذ تعثرت محاولات اصلاح القطاع العام واعادة هيكلة الشركات العامة ومكافحة الفساد المستشري في معظم المؤسسات والدوائر الحكومية. واخيرا تعثرت مساعي الحكومة في دعم القطاع الخاص واجتذاب الاستثمار الاجنبي وتنويع مصادر النمو الاقتصادي.
اما فيما يخص أبرز التحديات الجديدة التي يتوقع ان تواجه الاستراتيجية الجديدة لتخفيف الفقر هي تركة الحرب على داعش وهبوط اسعار النفط. فقد خلف احتلال داعش لثلاث محافظات عراقية موجة نزوح هي الاكبر في تاريخ العراق (3.3 مليون شخص) وارتفعت نسبة الفقر بين النازحين لقرابة 15 نقطة، من 23 الى 38 اي ضعف المعدل. ايضا زاحمت اولويات الحرب اولويات التنمية والاعمار وعموم الانفاق التنموي والاجتماعي، ففي عام 2017 بلغ اجمالي الانفاق على التسليح قرابة 5 مليار دولار اضافة الى 17 مليار دولار اخرى على قطاعات الامن والدفاع، تشكل قرابة 22% من اجمالي الانفاق العام مقابل 9.3 % على التربية والتعليم 3.8% على الصحة.
تحليل الفقر في العراق
تناول الفصل الثاني من الاستراتيجية الجديدة لتخفيف الفقر "تحليل الفقر في العراق" فيعرض البيانات المتاحة المتعلقة بالفقر، والتي تبين انخفاض الفقر الى 19% عام 2012 والى 15% في النصف الاول من عام 2014 ليعاود الارتفاع الى 22% في النصف الثاني من عام 2014 بسبب موجة الارهاب. كذلك ارتفعت معدلات الفقر في اقليم كردستان من 3.5% الى 12.5% كنتيجة لموجة النزوح الكبيرة الناجمة عن احتلال داعش للمحافظات الشمالية. اما في المحافظات التي تعرضت للإرهاب فقد تضاعفت النسبة الى 41%، وقد انخفض متوسط نصيب الفرد من الاستهلاك بنسبة 40% في المحافظات المحتلة مقابل 15% في المحافظات العراقية الاخرى. وتفصح تلك النتائج عن تأثير الصدمة المزدوجة وعن هشاشة الاقتصاد العراقي الذي يكبله الاعتماد على النفط.
بناء الاستراتيجية الجديدة
يركز الفصل الثالث على إطار عمل الاستراتيجية الجديدة والعناصر الرئيسة لاستراتيجية التخفيف من الفقر (2018-2022) والتي تتمحور حول: ايجاد فرص توليد الدخل المستدام، التمكين وبناء رأس المال البشري، تأسيس شبكة امان اجتماعي فعالة. وعلى اساس العناصر المذكورة تم بناء المحصلات التي تعبر عن ابعاد الفقر وهي:
- دخل اعلى ومستدام من العمل للفقراء
- تحسين المستوى الصحي
- تحسين تعليم الفقراء
- سكن ملائم وبيئة مستجيبة للتحديات
- حماية اجتماعية فعلة للفقراء
- الانشطة المستجيبة للطوارئ.
وينبغي لأجل التواصل لهذه المحصلات تكثيف الجهود لتمكين الفقراء أنفسهم ليتغلبوا على فقرهم من خلال بناء راس المال البشري وعوامل اخرى تعنى بتحسين بيئة الفقراء.
الاهتمام بتمويل الاستراتيجية
يؤثر انخفاض اسعار النفط واتفاقية الاستعداد الائتماني في تقييد الانفاق الاستثماري الحكومي بوصفه الاداة الفعالة في تخفيف الفقر لذا لجات الاستراتيجية الجديدة الى مصادر التمويل الدولي ودعم صندوق الاعمار للمناطق المحررة التي تسبب احتلال داعش في ارتفاع نسبة الفقر فيها. ومع استمرار التحديات، تلوح في الافق بعض فرص النجاح التي ستمكن الاستراتيجية من الوصول الى اهدافها ومنها:
- توفر الارادة السياسية والالتزام الحكومي بقضايا الفقر، وستضمن اللامركزية حرص الحكومات المحلية على التعرف على احتياجات الفقراء والاستجابة لها.
- الدعم الفني والمادي من البنك الدولي والبرنامج الانمائي للأمم المتحدة والمنظمات الدولية الاخرى للإصلاح ومحاربة الفساد من بين العديد من البرامج الاخرى. وتحسين كفاية المالية العامة وتحسين اليات الانفاق الحكومي الى جانب الدعم الدولي لجهود اعادة الاعمار.
- تعمل الاستراتيجية الجديدة في إطار نموذج التخطيط المرن الذي يعمل على اللامركزية ومنح المحافظات المزيد من الصلاحيات التخطيطية والتنفيذية.
- التقدم الكبير في مجال العمل الاجتماعي وبناء قدرات المنظمات المجتمع المدني والذي يوفر فرصة للمزيد من الدعم لتنفيذ انشطة استراتيجية التخفيف من الفقر.
- اثارة الوعي بقضايا الفقر والاهتمام بها سواء على الصعيد الشعبي والبرلماني والاعلامي. او الرسمي على مستوى الحكومة الاتحادية وحكومة اقليم والحكومات المحلية.
اضف تعليق