q

في عام 2006 بلغت القيمة السوقية لشركة مايكروسوفت حوالي 250 بليون دولار، قيمة الاصول التقليدية للشركة من مصانع وتجهيزات كانت فقط 3 بليون دولار، اي تعادل 4% من قيمة اصول الشركة و1% من قيمتها السوقية. وطبقا للحسابات التقليدية للاصول، فإن شركة مايكروسوفت هي معجزة العصر الحديث، انها الرأسمالية بدون رأسمال (كتاب الرأسمالية بدون رأسمال، ص 4-5)(1).

في كتاب رأسمالية بدون رأسمال، يقدّم المؤلفان استبيانا شاملا للقضايا الاقتصادية التي برزت بفعل الزيادة في اهمية العوامل اللامحسوسة في أداء الشركات وفي مجمل النمو الاقتصادي. هما يعرضان اطارا مفيدا لفهم الفرق بين الاستثمار اللامحسوس والاستثمار المحسوس. سنحاول هنا تلخيص تحليلات الكاتبين ثم نوضح ما سنراه من انعكاسات سلبية لهذا على الاقتصاد الكلاسيكي الجديد. يرى بعض النقاد ان محاولة حشر الاستثمار اللامحسوس في نظرية رأس المال الكلاسيكي الجديد انما تخلق فقط نسبة قليلة جدا من الفوائد الى التكاليف.

اربعة افكار اساسية

يركز الكاتبان في اطارهما التحليلي على اربعة طرق يختلف فيها رأس المال اللامحسوس عن رأس المال المحسوس، كل طريقة تبدأ بحرف S. هذه الطرق هي: 1- تكاليف الماضي 2- امكانية التوسع 3- مزايا الاندماج 4- انسياب الفوائد.

1- تكاليف الماضي sunk cost: وتشير الى حقيقة ان الاستثمار غير الملموس ليس فيه تكاليف قابلة للاسترداد. المصنع والتجهيزات هي سلع يمكن المتاجرة بها، وفي حالة فشل الشركة فهي يمكن بيعها لكي توفر للمستثمرين بعض التعويض. بالمقابل، عندما تستثمر الشركة في محاولة لتطوير وتسويق منتج جديد، وفي حالة فشل هذا المنتج، فهناك القليل او لا شيء يمكن بيعه لإسترداد كلفة الاستثمار غير الناجح.

2- التوسع والنمو scalability: ويشير الى ان القيمة غير الملموسة للمنتج او للفكرة يمكن توسيعها باقل مقدار من الكلفة. التكنلوجيا جعلت من السهل التوسع واكتساب الزبائن. الشركات لا تحتاج الى الكثير من مواد الخام والمستودعات وبالتالي لا تحتاج الى الكثير من الموارد لكي تنمو. عندما تكتشف شركة ادوية قيمة علاجية لعقار معين فان الكلفة المرتبطة بصناعة وتوزيع العقار تكون ضئيلة نسبيا.

اما في رأس المال الفيزيقي، فهناك حدود للطاقة الانتاجية لقطعة معينة من التجهيزات او لهيكل مادي. وهكذا، هناك مقدار قليل جدا من وفرة اقتصاديات الحجم في الاستثمار الفيزيقي مقارنا بالاستثمار غير الملموس.

3- تأثير المركب synergies: وهو مصطلح من اصل يوناني يشير الى حصول تفاعل او تعاون بين منظمتين او شيئين او اكثر لإنتاج تأثير مركب اكبر من مجموع تأثيراته المنفصلة، هنا يكون الكل اكبر من مجموع اجزاءه. وفق هذا المصطلح فان قيمة مجموعة الاصول لا يمكن تجزئتها الى عناصر انفرادية. التلفون الذكي الناجح ينطوي على العديد من الابتكارات. لو قيّمنا اي من هذه الابتكارات انفراديا، لا احد منها يمثل سلعة يمكن المتاجرة بها في السوق.

4- الانسيابية spillover: وتعني انتشار او امتداد تأثير شيء معين الى اماكن او اشياء اخرى لا علاقة لها بالسبب الاول. قيمة الاستثمار غير الملموس يمكن التمتع بها من جانب شركات اخرى. الافكار يمكن استنساخها. في (ص 9 ) يذكر الكاتبان: عندما يطلب منك شخص ما استخدام مصنعك فانك سترفض ذلك بأدب، التصاميم هي عمل مختلف كليا، استخدام تصاميم السلعة هو مثال على الاصول اللاملموسة...... منافسوك ربما قادرون على اعادة انتاج السلعة عبر فحص مفصّل لمكوناتها. انت ربما تستطيع الحصول على براءة اختراع.. لكن منافسك قادر على الابتكار في جانب محدد من المنتج او فقط في تغيير مظهر السلعة بحيث لا يمكن ان توفر لك براءة اختراعك اي حماية.

الاشكالات

الكاتبان يستخدمان الاطار اعلاه ليطرحا عددا من القضايا:

صعوبة قياس قيمة راس المال غير الملموس.

صعوبة التنبؤ بقيمة الاستثمار اللاملموس.

الطرق المختلفة في تمويل الاستثمار اللاملموس.

الحوافز للحصول على المنافع الانسيابية.

اللامساواة المتزايدة بين الشركات والمدن.

في حالة وجود المصنع والتجهيزات، تكون القيمة السوقية لراس المال مرتبطة بإحكام بكلفة اكتسابه. هذا هو الاساس في النظرية الشهيرة لتقييم سوق الاسهم والاستثمار والتي تعرف بـ(نسبة توبين كيو). ولكن في حالة الاستثمار اللاملموس، نجد قيمة رأس المال تنحرف عن كلفته. ونظرا لكلفة الماضي فان قيمة الاستثمار اللاملموس تهبط لتقترب من الصفر رغم الانفاق الكبير فيه. لاحظنا كيف خُلقت بعض شركات الدوت كوم (الشركات التي تنجز أكثر اعمالها عبر الانترنيت) في اواخر التسعينات وكيف انهارت لاحقا.

ومن جهة اخرى، بسبب قابلية النمو ومنفعة المركب، فان قيمة الاستثمار غير الملموس يمكن ان تتجاوز بكثير تكاليفها. لننظر في الشركات المرتكزة على السوفتوير الناجح مثل مايكروسوفت وغوغل وفيسبوك. في (ص 53) يعترف المؤلفان بهذه القضايا:

... بعض المنتجات الناجحة جدا توفر للشركات مردودا يتجاوز بكثير تكاليف صنعها. لذا كيف يمكن اعتبار طريقة الحساب على اساس الكلفة صحيحة؟ في التطبيق، الشركات والاقتصادات تقوم بالعديد من المشاريع. معظمها غير مؤكد...، ولكن اذا كان النجاح والفشل يتوازنان، فان قيمة الاستثمار على مستوى الاقتصاد الكبير يجب ان يساوي قيمة الانفاق.

هذا الاتجاه في الدفاع عن استعمال طريقة اساس الكلفة في تقييم راس المال اللامحسوس يثير الحيرة لانه يرتكز على الأمل وليس على النظرية والدليل. القيمة الاقتصادية الكلية للاستثمار اللاملموس لا تساوي بالضرورة كلفة الموارد المنفقة. في الحقيقة، ان الأداء الاقتصادي القوي قد يأتي من خيارات استثمارية جيدة، بينما الاداء الاقتصادي الضعيف ربما يكون ناتج عن سوء تخصيص الاستثمارات اللاملموسة.

القضية التي تجعل قيمة الاستثمار اللاملموس يصعب قياسه هي ذاتها تجعله ايضا يصعب التنبؤ به. هذا يقود المؤلفين للإشارة الى ان تمويل الاستثمارات اللاملموسة بالديون هو اقل ملائمة من التمويل بالأسهم.

ان انسيابية الفوائد تخلق مشكلة اخرى في مجال تمويل الاستثمارات اللاملموسة. في (ص 180) يذكر المؤلفان......هناك ايضا استراتيجية مختلفة متوفرة للمستثمرين الكبار: فيها يُسمح بالاستثمار في النظام الايكولوجي وعلى نطاق واسع حتى لو كانت فيه انسيابة كبيرة.

نضيف ايضا ان بعض شركات رأس المال المضارب تنفذ استراتيجية ترتكز على محاولة تطوير شركات تعمل ضمن شبكة بيئية معقدة. من بين تلك وهي الاكثر اهمية، ستراتيجية الاكتساب الذي تقوم بها كبريات شركات الادوية او شركات مثل غوغل وامازون وابل وفيسبوك القادرة على اقتناص فوائد الانسيابية وذلك عبر دمج ابتكارات الشركات التي تكتسبها مع محفظتها من الاصول غير الملموسة الموجودة سلفا.

ان الاستثمارات اللامحسوسة وما تقود اليه من محصلات مختلفة جدا يفسر تزايد اللامساواة الاقتصادية. ان التنافس على استغلال قابلية النمو والانسيابية والاندماج سيخلق رابحين وخاسرين. المؤسسون والمستثمرون في الشركات الرابحة يحصلون على ثروات هائلة. اما الشركات الاخرى بما فيها المبتدئة والقديمة التي تسمح نماذجها بالتحطيم البنّاء ستعاني من اختفاء الثروة.

رغم ان الكتاب انطوى على اطار عميق ومنظم جيدا، لكننا نرى ان الاستثمار اللامحسوس له مضامين خطيرة بحاجة لتحليل اقتصادي يتجاوز ما يؤمن به المؤلفان. ذلك يتطلب استجواب جوهر النموذج النيوكلاسيكي الذي يربط المخرجات بالكمية المتراكمة من راس المال والعمل في الاقتصاد.

عبر تطوير مصطلح "استثمار لا محسوس" و "رأسمال لامحسوس" يحاول الاقتصاديون النظر الى الظاهرة اللامادية من خلال عدسات مادية. هذه العملية سنخسر بها أكثر مما نكسب.

مخاوف اخرى

هناك مجموعة اخرى من المخاوف يمكن التعبير عنها بالتالي:

1- الشركات تستثمر في مختلف انواع رأس المال اللامادي، وهذه لها خصائص مختلفة. وكما يذكر المؤلفان ان الشركة المبدعة ذات التكنلوجية العالية تحتاج لتسمح لموظفيها ليكونوا اكثر تحررا من القيود، بينما الشركة التي تعتمد على اداء عامل موثوق وذو تغيير لوجستي طفيف، تحتاج لتكون شديدة السيطرة. هذه الاشكال المختلفة من الاستثمار اللامحسوس ايضا لديها محفظات من المردود والمخاطرة تختلف من استثمار الى اخر.

2- ان وجود الانسيابية يخلق تعقيدات تتجاوز كثيرا تلك التي تصاحب رأس المال المادي. ستراتيجيات الاعمال لاقتناص الانسيابية تميل للوقوع خارج التحليل الاقتصادي التقليدي للمنظمات الصناعية. عندما تكتسب غوغل شركات اخرى فهل هذا يعجل الابتكار ام انه يؤجله عبر منع الاخرين من اقتناص الانسيابية؟ كما يشير الكاتبان، ان قانون حق الملكية الفكرية ايضا يصعب تشخيصه. اذا كانت حماية الملكية الفكرية ضعيفة جدا، عندئذ فان المشاريع ذات الانسيابية العالية قياسا بالكلفة سوف لن يُباشر بها. اما اذا كانت الحماية قوية جدا، فان المشاريع ذات الانسيابية القليلة قياسا بالكلفة سيتم دعمها بقوة.

3- طرق المحاسبة في الاستثمار اللامحسوس ستواجه صعوبة غير موجودة في طريقة احتساب رأس المال المادي.

4- طالما راس المال المادي لا يمكن ان يتقادم او يُهمل فجأة، فهو يميل ليندثر وفق مسار متنبأ به نسبيا. لكن الاصول اللامحسوسة للشركة ربما تحتفظ بقيمتها لوقت طويل او حتى ترتفع قيمتها بسرعة. وعكس ذلك، انها ربما تتعرض الى هبوط مفاجئ في القيمة.

لأغراض تقييم الأداء الاقتصادي الكلي، هذه القضايا تكبح محاولة اضافة رأس المال اللامحسوس الى رأس المال المحسوس ومباشرة تحليل مرتكز على هذا المجموع. ومن القضايا ذات الاشكالية الكبيرة جدا هي محاولة حساب "عامل الانتاجية الكلي"، "نسبة العمل الى راس المال"، او "حصة راس المال الى الدخل". كل هذه العناصر من التحليلات النيوكلاسيكية تصبح بشكل متزايد مفتعلة وغير ملائمة لأن الأهمية النسبية للسلع المادية في الانتاج والاستهلاك تستمر في الهبوط.

.............................
الهوامش
(1) كتاب الرأسمالية بدون رأس مال: صعود الاقتصاد اللاملموس، للكاتبين Jonathen Haskel and Stian Westlake، صدر عام 2017 عن مطبوعات جامعة برنستون.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق