خلف انهيار اسعار النفط الخام تزايداً ملحوظاً في العجوزات المالية والديون الحكومية العامة بعد انحسار الموارد النفطية عن معدلات الانفاق العام التي تطبعت عليها الاقتصادات النفطية، مما ولد اهتماماً كبيراً بالاستدامة المالية والتي تنصرف الى قدرة الدولة على تحمل الديون دون الحاجة الى اجراء تعديلات كبيرة في السياسات المالية المستقبلية لإحداث التوازن بين الايرادات والنفقات العامة.
وتسعى كافة الدول الى تحقيق الاستدامة المالية عبر ضمان القدرة على الاستمرار في سياسات النفقات والايرادات العامة على المدى الطويل دون خفض الملاءة المالية او التعرض لمخاطر الافلاس او عدم الوفاء بالالتزامات المالية المستقبلية. اذ يؤدي فقدان الدولة للاستدامة المالية او تراجع ثقة الاسواق المالية بقدرتها على الوفاء بالتزاماتها الى توقف الدائنين عن اقراضها، او رفع معدلات الفائدة على قروضها الى مستويات عالية، ووضع ضوابط وشروط مشددة.
وتعد معدلات الزيادة في نسبة الدين العام الى الناتج المحلي الاجمالي من اكثر العوامل تأثيراً على استدامة الوضع المالي للبلد، وهناك العديد من العوامل الاخرى المؤثرة في استدامة المالية العامة، اذ تؤدي معدلات نمو الانفاق الحكومي بنسبة اعلى من نمو الايرادات العامة، وتراجع النمو الاقتصادي وارتفاع الفائدة الحقيقية في المستقبل الى توقع ارتفاع نسبة الدين العام الى الناتج المحلي الاجمالي وارتفاع امكانية فقدان الملاءة المالية للبلد، والتي تتحقق حين يكون معدل الخصم الحالي للإنفاق الجاري والمستقبلي اقل من معدل الخصم الحالي للإيرادات الحالية والمستقبلية مطروحاً منها مستحقات الدين العام.
النفط وتدهور الوضع المالي
يشكل المسار المتعرج لأسعار النفط تحدياً خطيرا يواجه معظم البلدان النفطية منذ عقود نظراً لارتباط جهود التنمية الاقتصادية بتدفقات المورد النفطي، والمرتبط اساسا بعوامل خارجية متعددة تحكم اتجاه اسواق النفط الخام. وقد تم الركون الى سياسات اقتصادية متعددة لتصدي لصدمات اسعار النفط في هذه البلدان، الا انها لم تخرج عن إطار ردود الافعال بدلاً من ابتكار سياسات اقتصادية مستدامة معدة للوقاية من الصدمات ومصممة اساساً لاستباق الازمات. وفي هذا السياق، يلزم الهبوط المزمن لأسعار النفط الى دون المستويات التي تطبعت عليها موازنات الدول النفطية الى اعادة هيكلة وتصميم المالية العامة لعزل تقلبات اسعار النفط عن المشهد المالي والاقتصادي لصالح الانسجام والتناغم مع الضرورات الاقتصادية الوطنية وخطط التنمية والاستقرار الاقتصادي.
وفي الاقتصاد العراقي، ومع دخول صدمة اسعار النفط الخام عامها الثالث، تثير العجوزات المالية المتراكمة وتفاقم الدين العام لمستويات خطيرة (قرابة 110 مليار دولار، 68 مليار دولار دين خارجي و43 مليار دولار دين داخلي) التساؤل حول مدى قدرة الاقتصاد الوطني على الصمود والتعايش مع سعر نفط منخفض. خصوصاً وانه يعتمد على المورد النفطي في تنمية الاقتصاد وتمويل الموازنة والحرب ضد داعش من جهة، وضعف التوقعات حول عودة الأسعار لمستوياتها السابقة من جهة اخرى. مما يدفع موضوعة الاستدامة المالية الى صدارة التحديات التي تهدد الافاق الاقتصادية للعراق.
متطلبات تحقيق الاستدامة المالية
فرضت اسواق النفط العالمية ضغوطاً مالية حادة طالت معظم الاقتصادات المصدرة للنفط الخام. ورغم تباين مديات التأثير المالي والاقتصادي، الا ان الواقع النفطي الجديد يلزم كافة البلدان النفطية، ومنها العراق، على اتباع جملة من الخطوات الهادفة الى تحقيق الاستدامة المالية وفك الارتباط القائم بين عناصر الموازنة العامة وتقلبات اسعار النفط الخام.
ومن أبرز تلك الخطوات:
1- استهداف العجز الاولي غير النفطي في تقييم الاداء المالي، كونه يعزل قرارات الانفاق عن التقلبات المستمرة لعائدات النفط الخام، وبالتالي ضمان التوافق بين الاستدامة المالية طويلة الاجل مع تحقيق العدالة بين الاجيال في الاستفادة من الثروة النفطية.
2- يتحتم ان يستوعب إطار السياسات المالية الخصائص الاقتصادية للبلد من نحو الهيكل الاقتصادي وحجم الاحتياطيات النفطية ونظم اسعار الصرف.
3- استخدام القواعد المالية في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي في البلدان النفطية عبر الاستعانة بالنماذج الاقتصادية المطورة خصيصاً لهذا الغرض من نحو فرضية الدخل الدائم ومنهج الرصيد الهيكلي وقاعدة التوازن العام العشوائي، والتي تُعتمد طبقاً للخصائص الاقتصادية لكل بلد.
4- استمرار التقلبات الحادة في اسعار النفط الخام عنصر حاسم في تصميم أطر مالية جديدة تعتمد على المصدات المالية الوقائية في امتصاص وتلطيف التذبذبات الحادة وموجات التقلب السعري لأجل الحفاظ على مستويات مستقرة من الانفاق الحكومي وتفادي الانزلاق صوب ازمات اقتصادية ومالية جديدة.
5- تعزيز كفاءة سياسات الانفاق العام وتفعيل برامج الاصلاح الضريبي وتعبئة الايرادات المحلية شرط ضروري في تحقيق الاستدامة المالية طويلة الاجل في البلدان النفطية وتحقيق العدالة بين الاجيال في الاستفادة من الموارد الطبيعية الناضبة.
6- تفعيل دور الاسواق المالية كرافد رئيس لتمويل احتياجات الحكومة الطارئة وتسويق اصدارات السندات العامة بأقل كلفة ممكنة ولآجال قصيرة ومتوسطة.
7- يُلزم تحقيق الاستدامة المالية في العراق التنسيق المحكم بين سياسات البنك المركزي (الادوات النقدية) وسياسات الحكومة ووزارة المالية (الادوات المالية)، نظرا لطبيعة الترابط والتلازم بين العجوزات المالية العامة ومعدلات الاحتياطي الاجنبي لدى البنك المركزي في ظل اعتماد نظام الصرف المدار.
اضف تعليق