إن تحقيق الاستقرار الاقتصادي، هو هدف لكل سياسات التنمية في دول العالم المتقدم والنامي على حد سواء، اذ يستلزم التكامل بين الإجراءات المتخذة باستخدام الأدوات المتنوعة لكل السياسات الاقتصادية. وإن هذا التكامل يشكل فيما بينها منظومة تتناسق أجزاؤها وتتفاعل أركانها، حيث تؤثر كل أداة وتتأثر بالأدوات الأخرى على نحو متناغم ومتوازن من أجل تحقيق الغاية التي يسعى المجتمع دائماً إليها وهى الاستقرار الاقتصادي.
وبالتالي فان هذا الاستقرار لا يتحقق من تلقاء نفسه، وانما من خلال مجموعة من السياسات والآليات التي تعرف بـ (سياسات الاستقرار الاقتصادي)، وهي الادوات والوسائل المناسبة التي يمكن من خلالها تحقيق حالة التوازن في الاقتصاد، ودائماً ما تسعى الدول الى تجنب تبعات الركود في بداية أزمة الديون من خلال زيادة الانفاق الحكومي، وكان إصدار المزيد من النقود هو الطريقة الوحيدة لتمويل ذلك الانفاق، ولقد قاد إصدار النقود لتمويل الانفاق الحكومي الى فترات من التضخم الجامح في العديد من الدول، منها العراق على سبيل المثال خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي.
وتبعاً لذلك ولدت سياسات مكافحة التضخم ضائقة اقتصادية وخسرت التأييد السياسي كنتيجة لتخفيض معدلات الاجور، وزاد افتقاد الاجماع حول أسباب التضخم من تعقيد المسألة، فبعضهم يرى أنه يعود للجمود، حيث توقع الجميع ارتفاع التضخم مستقبلاً مما دفع المنتجين لرفع الاسعار بسبب التوقع بارتفاع تكاليف المدخلات في المستقبل. تكتسب مشكلة التضخم زخماً متنامياً من تلقاء نفسها، وأدى نقص المعلومات العملية حول عمق هذه المشكلة الى اتباع سياستين مختلفتين لمكافحة التضخم.
يقلل النموذج التقليدي (Orthodox Model)، من انخراط الحكومة في الاقتصاد، وتبعاً لذلك فأن وصفة مكافحة التضخم تكون بخفض الانفاق الحكومي وإصلاح النظام الضريبي لزيادة الالتزام وتحقيق العوائد والحد من خلق نقود جديدة، بالأضافة الى ذلك، ينادي النموذج التقليدي بتجميد الاجور والاسعار، أما في النموذج غير التقليدي (Heterodox Model)، فأنه لا يمكن فصل التوقعات التضخمية عن عملية صنع القرار الاقتصادي حيث ستستمر الاسعار بالارتفاع حتى في حال لجم كل من الانفاق الحكومي وإصدار نقود جديدة.
طبقت البرازيل بين عامي 1986و1992، خمس خطط منفصلة غير تقليدية للاستقرار بهدف القضاء على التضخم ولم تفلح أي واحدة منها. بشكل مشابه، نجحت الخطط غير التقليدية في الارجنتين والبيرو عام 1985 تقريباً لمدة سنة ولكنها أخفقت بعد، حيث عاد التضخم بنسب أعلى مما هو متوقع، ومع ذلك سيطرت البرازيل والمكسيك على التضخم باستخدام الوسائل غير التقليدية في نهاية المطاف.
لقد سببت مشكلة عدم التوافق بين تثبيت التضخم وسياسة أسعار الصرف إزعاجاً للعديد من الدول، وتمثل المكسيك إنموذجاً واضحاً لهذه المشكلة والتي برزت من حقيقة مفادها استخدام سعر الصرف كسلاح فعال في محاربة التضخم، اذ ثبتت عملتها المحلية بنسبة بيزو لكل دولار في منتصف الثمانينات كجزء من ستراتيجتها لمكافحة التضخم. وسلكت الارجنتين والبرازيل ذات الطريق وفق خطط الاستقرار في 1991و1994، على التوالي. اذ اُجبر المنتجون المحليون الذين يتنافسون مع السلع الامريكية على تجنب رفع الاسعار بهدف ضمان قدرتهم التنافسية.
أكثر من ذلك، لم ترتفع أسعار الاستيرادات من السلع الرأسمالية الامريكية المنشأ والتي كانت ضرورية للصناعة المكسيكية، مما ساعد على بقاء الاسعار المحلية منخفضة فيما يتعلق بالسلع النهائية، حيث أصبح البيزو مقوماً بأعلى من قيمته لفترة من الزمن، اذ كان التضخم في المكسيك أعلى بقليل منه في الولايات المتحدة، وفي نهاية المطاف، أدى ذلك الى عدم توازن تجاري والى انهيار البيزو في 1994، وتبعه ركود عميق في 1995، لقد سمحت المكسيك منذ 1994 بتعويم البيزو مقابل الدولار وتوقفت محاولة استخدام سعر الصرف باعتباره مرتكزاً في مواجهة التضخم الجاري.
وعلى الرغم مما تقدم إلا أنه ليس هناك اتفاق عام بين الاقتصاديين وغيرهم على نوع الاستقرار المطلوب, حيث من يدافع عن سياسات تحقيق العمالة للاقتصاد لا يتفق مع من يرغب في السياسات التي تركز على استقرار مستويات الأسعار، وعندما يأخذ عدم الاستقرار شكل التضخم( الارتفاع في المستوي العام للأسعار) أو الانكماش, فإن هذا يتسبب في نقص الكفاءة, وعدم العدالة, حيث إن التضخم أو الانكماش يعمل على سوء توزيع الدخول بين المقرضين والمقترضين وأصحاب الدخول الثابتة ( العاملين بأجور معينة ثابتة) وأصحاب الدخول غير الثابتة من التجار وأصحاب الأراضي والعقارات وغيرهم, أضف الى ذلك أن ارتفاع مستويات الأسعار سوف يؤدي الى هروب الأفراد من استخدام العملة التي تنخفض قيمتها نتيجة لذلك, والى ضعف مقدرة الدولة على التصدير.
وهناك تحفظ حول الرغبة في الاستقرار الاقتصادي, حيث يعتقد بعض الاقتصاديين أن النمو والاستقرار متضادان وغير متكاملين, لأن الاستقرار العالي الدرجة يكون على حساب النمو, إذ إن النمو يستلزم التغيير, مما يؤدي الى عدم الاستقرار.
ويؤكد صندوق النقد الدولي أهمية قيام الدول بتبني السياسات الملائمة التي يكون بمقدورها التخفيف من حدة هذه التقلبات حال حدوثها، دون التأثير على معدلات النمو الاقتصادي ومستويات المعيشة من خلال التركيز على السياسات التي تستهدف تعزيز مستويات الإنتاجية والكفاءة ورفع معدلات التشغيل, وتعتبر السياسات المالية والنقدية من أهم الأدوات الخاصة بتحقيق الاستقرار الاقتصادي, حيث تتمثل السياسة المالية في البرامج الحكومية الخاصة بالضرائب والإنفاق والاقتراض الحكومي, وهي تستمد أهميتها من تأثيرها على أربعة أوجه من النشاط الاقتصادي هي( الأسعار ـ الاستهلاك ـ حجم التوظف ـ توزيع الدخل), ويختلف مفهوم السياسة المالية وأهميتها في المجتمعات المتقدمة عنها في المجتمعات النامية إذ إنها تسعي في الأولي الى تحقيق استقرار الاقتصاد القومي, بينما اهتمامها الأساسي في الثانية هو توفير التمويل للتنمية الاقتصادية.
اضف تعليق