يعتقد الكثير أن مسألة التحول من المركزية الى اللامركزية تقتصر على التحول أو التغيير في آلية الفكر السياسي وأدواته، بمعنى أخر أن مسألة تغيير طبيعة النظام أو ادارته ما هي الا تغيير في طبيعة النظام السياسي وحسب، وعليه نجد أن أصحاب التنظير السياسي وأصحاب الشأن من ذلك يطرحون هذه التحولات ودراستها ومحاولة تطبيقها كمنهج سياسي من أجل تحقيق التغيير المطلوب، وهو أمر غير صحيح بالمرة.
فعلى سبيل لو أخذنا الديمقراطية كمثال على ذلك، لوجدنا أن أغلب الدراسات والبحوث أنصبت في مجال فهم الديمقراطية السياسية من خلال الانتخابات والمشاركة فيها والتعددية وحرية التعبير عن الرأي، وكلها تنصرف في قناة السياسة بأعتبارها الادوات الخاصة بها والتي يستخدمها أغلبهم في الترويج لهم ولانتمائتهم الحزبية. وبالتالي لا غرابة في أن نجد هناك قصور في فهم وتطبيق الديمقراطية في المجتمع، اذ علينا أن نفهم أنه قبل استخدام الديمقراطية كمنهج أو مسار للدولة هو أن تتحق هذه الديمقراطية على أساس المجتمع من خلال ما يعرف بالديمقراطية الاجتماعية.
وهذا الاتجاه هو الأساس في تحقيق الديمقراطية السياسية التي هي نتاج للديمقراطية الاجتماعية المفقودة في هذا المجتمع، اذن ما المقصود بالديمقراطية الاجتماعية ؟
إن الديمقراطية الاجتماعية هي ممارسات وسلوكيات اجتماعية منظمة، تظهر من خلال التفكير والحرية في الاختيار واتاحة الفرص أمام الجميع دون استثناء في تحقيق أهدافه الاجتماعية والمتمثلة في اختيار نوعية الحياة التي يراها الفرد مناسبة له، بالشكل الذي يضمن عدم المساس بحرية الاخرين في الاختيار والممارسة والتطبيق لرغباتهم وتوجهاتهم.
وقد يرى البعض أن ثمة خلط ما بين مفهوم الديمقراطية الاجتماعية ومفهوم الدولة المدنية، وهنا نعود الى النقطة الأولى أن كل هذه المفاهيم كالدولة المدنية او اللامركزية السياسية ما هي الا نتاج للديمقراطية الاجتماعية، ولكن قد يبدو لحد الأن أن الصورة لا تزال غامضة في فهم ماهية الديمقراطية الاجتماعية، ومن أجل تحقيق فهم وقاعدة لهذا الأساس نورد الأمثلة التالية وهي على سبيل الاشارة لا الحصر.
فعلى سبيل المثال، كثيراً ما نجد الديمقراطية السياسية في العراق لم تقدم النموذج الايجابي للتحول سواء على صعيد السياسة او الاقتصاد، فحتى في ظل وجود التعدد الحزبي وتنوعه وفي ظل وجود حرية المشاركة في الانتخابات والاختيار من عدمها، الا أن البلد لم يتقدم خطوة حقيقية للامام في مجال بناء الدولة بالشكل الصحيح.
والا كيف نفهم معنى الحرية في الاختيار والانتخاب ونحن مازلنا لحد الأن نمارس القوة في ارغام ابنائنا في اختيار التعليم الذي نحن نرغب فيه لا على أساس ما يرغبون هم به، فضلاً عن كيف نفهم معنى الديمقراطية بصورة صحيحة ونحن لا زلنا لحد هذه اللحظة وفي كثير من المجالات نقلل من شأن المرأة ولا نقبل الا بأن تكون تابعة للرجل في كل شيء، ولحد هذه اللحظة لا زلنا نقرر من هو الافضل لها كزوج وفقاً لما نريد نحن لا هي، حتى وأن وصلت الى أعلى سلم في التعليم والثقافة والعمل.
بصورة أعم لا يمكن لأي مشروع سياسي أن ينجح في ظل عدم وجود مجتمع لحد هذه الحظة يقيم ويحقق مبدأ العدل والمساواة وفقاً للاعتبارات العاطفية والعصبية القبلية وليس على أساس التطورات العقلية والحاجة المجتمعية، ليس هذا وحسب فأنه في ظل وجود شرائح عديدة داخل هذا المجتمع ترى في التمرد على القانون شجاعة، فأنه من الصعب تحقيق نتائج ايجابية لأي مشروع يسعى الى تحقيق انتقال نحو أي مستوى أفضل.
وهنا قد يطرح تساؤل مهم، مفاده أن كل ما تم ذكره حصل ويحصل نتجية غياب القانون؟ ففي ظل غياب القانون تسود قوة العشيرة والبقاء للأقوى، ومن الطبيعي في ظل غياب القانون أن يتشتت المجتمع ويتمزق وأن يتحول الى النموذج البدائي لوجود أي دولة في السابق. نعم ان هذا الكلام صحيح، ولكن حتى مع وجود القانون تبقى هناك نقطة هامة جداً تمثل هي محور هذا النقاش، الا وهي مسألة القناعات التي تدفعنا الى تطبيق المسارات السليمة في هذا المجتمع، فعلى سبيل المثل هل يجب أن نسن قانوناً يحتم على الاباء عدم ارغام اولادهم في التعليم من أجل الدخول لكلية الطب؟!
حتى وأن حدث ذلك مالذي يضمن أنه في ظل هكذا قانون أن الوضع سيتغير نحو الأفضل، فهل تستطيع البنت او الأبن تبليغ السلطات عن أن والده يرغمه على الصلاة او على الدراسة او على اختيار كلية معينة؟! بعبارة أخرى من يضمن عدم حدوث الصدام بين القوانين والقيم الاجتماعية والدينية، والتي هي بطبيعة الحال متفاوته من منطقة لأخرى. أن فكرة القناعة بالاختيار مسألة مهمة جداً، والا فأن السؤال الذي سيطرح هنا كرد فعل هو، وماذا يعني أن أرغم الوالد ابنه أو ابنته لأختيار كلية معينة كالطب مثلاً، فهي أفضل كلية والتعيين فيهما مضمون وذات بُعد اجتماعي مرموق.
هنا تكمن أهمية مسألة وفكرة القناعة بالاختيار، فالارغام هذا أو الفرض، كبداية قد يتعارض في رغبة الابن او البنت في الدخول لكلية معينة وبالتالي سيختار نوع أخر هو لايرغب به سوى أنه المجتمع يرغب به، وبالتالي لو فرضنا أن الشخص كان يرغب في الدخول لكلية الهندسة فأنه سيكون على قادر على الابداع في هذا المجال لأنه تم عن رغبة حقيقية داخلية، والابداع هو محرك الحياة والمؤثر الأكبر في تطوير عجلة الاقتصاد والتنمية، ثم كيف سيقوم هذا الشخص بتنمية مهاراته وتطويرها في مجال هو من الأساس لم يكنم راغب فيه من البداية، والدليل على ذلك على الرغم من الاهتمام والتوجه والحث على الطلبة في مسألة الدخول لكلية الطب ورغم النتائج الباهرة التي يحققها الطلاب في الاعدادية من معدلات عالية، الا أن مستوى الطب والصحة في المجتمع لا يزال الأسوأ مقارنة بدول الجوار.
وبالتالي ستسمح هذه الحرية أولاً في الابداع والابتكار، لأنه لا وجود للأبداع الا في وظل وجود حرية الأختيار وحب المجال الذي يشغله الفرد، وهذا ما قد يجعل هذا الشخص قادر على يرتقي مناصب ادارية أعلى نتيجة نجاحاته في هذا المجال، وقد يصل به المطاف في الأخير أن يكون مستشاراً أو وزيراً، وعليك أنت تتخيل كيف سيكون الوضع أفضل في حال وصول هكذا شخص لمنصب الوزارة، شخص مبدع ومبتكر مثل هذا سيكون حتماً قادر على صياغة خطط ورسم سياسات ادارية واقتصادية ناجحة كفيلة بالأرتقاء بمجاله على مستوى البلد نحو الأفضل.
من هنا فأنه يجب تطويع القيم الاجتماعية والدينية بالشكل الذي ينسجم مع الديمقراطية الاجتماعية لكونها هي من يقع عليها تطوير بناء المجتمع، وأن تُصاغ بالشكل الذي يخدم مصلحة مجتمعية عُليا عامة لا خاصة، والا فأن كل المفاهيم التي طُرحت كاللامركزية والديمقراطية السياسية المشوهه وحتى فكرة الانتقال نحو نموذج اقتصاد السوق الحر، الذي من المفروض أن يكون هو النموذج الذي عليه الاقتصاد العراقي، تبقى قاصرة ومشوهه وغير قادرة على الايفاء بمتطلبات التغيير نحو الأفضل، اذ لم يتم تطبيق هذه المفاهيم على المجتمع، وأن يعمل بها ويتطبع بها بشكل وافي وصحيح، والا فأن المحصلة النهائية ستكون الفشل، وهو ما نعانيه لحد الأن منذ العام 2003.
اضف تعليق