يواجه الاقتصاد العراقي تحديات اقتصادية خطيرة تهدد معدلات النمو والاستقرار الاقتصادي في البلد. فالهبوط المزمن لأسعار النفط والنفقات المتزايدة لإدامة زخم الحرب على داعش واعادة تأهيل واعمار المناطق المحررة وسقوف الانتاج التي فرضها الاتفاق النفطي الجديد على مضخات النفط العراقي والتآكل المستمر لاحتياطي البنك المركزي ومخاطر تعويم الدينار العراقي وانفلات معدلات التضخم عن نطاق السيطرة، كلها مؤشرات تنذر بمسارات الانزلاق المقبلة وتحتم على صناع القرار الاقتصادي في البلد التعامل بجدية مع واقع اقتصاد ما بعد النفط.
في هذا السياق، يُعتقد ان يكون للسياسة النقدية دورا محوريا في تجنيب الاقتصاد العراقي الجزء الحاد من الازمة. حيث تمثل السياسة النقدية أحد أذرع سياسات الاقتصاد الكلي المستخدمة في تحقيق النمو والاستقرار المالي والاقتصادي والتغلب على مسارات الدورة الاقتصادية العكسية عبر التحكم بأدواتها الكمية والنوعية.
وفي اقتصاد العراق النفطي كان للسياسة النقدية وادواتها خصوصية استثنائية نظرا لهيمنة الموازنة العامة، الممولة اساسا بالمورد النفطي، على قرارات السلطة النقدية رغم استقلال البنك المركزي وفق قانونه رقم 56 لسنة 2004. حيث تحصل الحكومة العراقية على ايراداتها من الدولار مقابل تصدير كميات ضخمة من النفط الى الاسواق العالمية، وتقوم وزارة النفط بتحويل هذه الارصدة الدولارية الى حساب وزارة المالية.
ولان معظم النفقات الحكومية بالدينار العراقي، تلجأ وزارة المالية الى استبدال الدولار النفطي بالدينار العراقي المتوفر اصلاً لدى البنك المركزي العراقي، ويترتب على ذلك دخول الدولار الى البنك المركزي مقابل خروج الدينار منه. ويراكم الاخير الدولارات الحكومية المستبدلة بالدينار العراقي ضمن خانة احتياطي النقد الاجنبي. هذا الاحتياطي من النقد الاجنبي يتم استخدامه في تغذية طلب قطاع الاعمال (التجار وغيرهم) والقطاع العائلي (جمهور المواطنين) على الدولار في سوق الصرف، ويترتب على ذلك خروج الدولار من البنك المركزي مقابل دخول الدينار اليه.
وتفصح الالية المذكورة اعلاه عن حقيقة غاية في الاهمية والخطورة تؤطر عمل السياسة النقدية في العراق وهي "ان مناسيب السيولة النقدية المحلية دالة لحجم النفقات الحكومية المرتبطة اساسا بالإيرادات النفطية، في حين ينبغي ان تكون مناسيب السيولة النقدية تحت سيطرة واشراف البنك المركزي وخاضعة تماما لأهدافه المرسومة".
مكامن الضعف
يمتد تيار الوفرة النفطية ليطال استقلالية البنك المركزي في العراق ويعطل عمل ادوات السياسة النقدية في تحقيق الاهداف المعتادة كالنمو والاستقرار المالي والاقتصادي. وفي هذا الصدد يمكن التعريج على جملة من التحديات المعاصرة التي عانى منها البنك المركزي مؤخرا لعل اهمها:
1- يتطلب تحقيق الاستقرار المالي في البلد توازن كفتي الموازنة غير النفطية، الايرادات المحلية بالدينار (الضرائب والرسوم وايرادات املاك الدولة...وغيرها) مع النفقات المحلية بالدينار (الجارية والاستثمارية). اما الايرادات الدولارية (المتأتية اساسا من تصدير النفط الخام) فينبغي ان تكرس لتسديد الديون الخارجية وتغطية مشتريات الحكومة من الخارج. الا ان الواقع الاقتصادي المختل في البلد يؤشر نسب مختلفة وخطيرة، حيث لا تغطي الايرادات المحلية سوى 10% من اجمالي النفقات المحلية في حين تتم الاستعانة بالمورد النفطي والقروض في تغطية العجز غير النفطي في الموازنة العامة على حساب تسديد الديون الخارجية للبلد. ففي فترات الانتعاش النفطي وغزارة الايرادات النفطية (حتى عام 2013) ابتلعت الموازنة العامة قرابة 70% من اجمالي صادرات النفط، بعد استبدالها بالدينار العراقي من البنك المركزي. في حين كرس الجزء المتبقي (30%) لتسديد الديون الخارجية وتغطية استيرادات الدولة. اما في حقب الانهيار السعري للنفط وجهت قرابة 90% من الايرادات النفطية صوب تمويل الموازنة العامة وتم تخصيص الجزء المتبقي (10%) لتسديد الديون الخارجية وتغطية مشتريات الحكومة من الخارج.
2- يولد الاعتماد المفرط على النفط اتجاهات عكسية لمسارات السياسة النقدية والسياسة المالية في البلد، ففي الوقت الذي تمارس فيه الموازنة العامة ضغوطا تضخمية وتأثيراً مباشراً على احتياطيات البنك المركزي، سيما حين يدخل الاخير لشراء حوالات الخزينة من الاسواق الثانوية.
فقد اضطر البنك المركزي مؤخراً، بسبب هبوط الايرادات النفطية وارتفاع حجم النفقات العسكرية لمواجهة داعش وصعوبة تكيف النفقات العامة مع الانخفاض الحاد لأسعار النفط، الى خصم حوالات حكومية بمبلغ 16 ترليون دينار لتمويل الموازنة العامة على حساب هبوط احتياطي البنك الدولاري بمقدار حجم التمويل، نظرا لتحول معظم النفقات الحكومية الدينارية الى طلبات على الدولار في سوق الصرف الاجنبي واجبة التغذية بالدولار حفاظاً على استقرار اسعار الصرف ومستويات الاسعار تباعاً.
وتترجم نسب هبوط احتياطي البنك المركزي هذه الحقائق بوضوح، فقد ترتب على فقدان التناسب بين النفقات الحكومية التي تطبع عليها الاقتصاد العراقي وانحسار الايرادات النفطية عام 2014، هبوط احتياطي البنك من الدولار من قرابة 77 مليار دولار عام 2013 (قبل انهيار اسعار النفط) الى قرابة 45 مليار دولار عام 2017 نظراً لارتفاع مناسيب الطلب على الدولار والتزام السلطة النقدية بتغذية السوق بالعملة الاجنبية حفاظاً على استقرار سعر الصرف الدينار وتفادياً لموجات التضخم وانتعاش المضاربات على الدولار.
3- في العادة تستخدم السياسة النقدية أدواتها التقليدية للتحكم في عرض النقد من خلال عمليات السوق المفتوحة (بيع السندات وشراؤها، والإيداع الأسبوعي والشهري)، فضلاً على سعر إعادة الخصم مقابل خصم الأوراق التجارية وحوالات الخزينة، وكذلك سعر الفائدة. الا أن عدم وجود سوق مالية فعالة وتدني نسبة العمق المالي (نسبة رؤوس أموال الشركات المساهمة إلى الناتج المحلي الاجمالي لا تتجاوز 2%)، وظاهرة الاقتصاد النقدي والميل إلى الاكتناز بدلاً من الادخار، وضعف الوعي المصرفي، تم اضعاف دور أدوات السياسة النقدية في تأدية مهامها، وتحقيق أغراضها في التحكم بمناسيب عرض النقد أو توجيهه بما يخدم الأهداف الاقتصادية.
سبل إعادة الفاعلية
ولأجل اعادة الفاعلية لأدوات السياسة النقدية ومنح السلطة النقدية مزيدا من الاستقلال الحقيقي في توجيه بوصلة السياسات اشار محافظ البنك المركزي الدكتور علي العلاق في ندوة عقدها مؤخرا مركز البيان للبحوث والدراسات الى عدد من النقاط لعل اهمها:
1. ضرورة تحقيق الاستقرار المالي والنقدي الامثل عن طريق تقليص العجز غير النفطي وتعظيم الإيرادات المحلية، وضبط النفقات المحلية، ووضع سقوف محددة للنفقات التشغيلية.
2. التكيف مع اسعار النفط المنخفضة عبر اعداد الموازنة العامة للدولة على أساس سعر محدد ومتحفظ للنفط المصدر، نظرا لتراجع التوقعات حول تعافي قريب للأسعار.
3. تحديد سقف محدد وضيق لمقدار عجز الموازنة العامة سنوياً، وممارسة رقابة فعالة على تنفيذ الموازنة، وإدارة فعالة للموجود النقدي للخزينة (المتشتت حالياً).
4. إدارة الدين العام وضبطه بما يحقق استدامة الوضع المالي (إذ بلغ حجم الدين العام المحلي حوالي 48 تريليون دينار لغاية تموز 2017) مع الأخذ بالحسبان عدم توافر موارد إضافية، ومصادر للدين العام خلال السنوات المقبلة.
5. احتساب الآثار المحتملة على الاحتياطيات الأجنبية عند إعداد الموازنة العامة وأخذها بالحسبان لتبقى بمستوى الكفاية، وعدم تعريضها لمخاطر الانخفاض الحاد.
6. استمرار البنك المركزي بمبادراته في دعم نمو القطاعات (الحقيقية) من خلال مبادرات الإقراض الزراعي والصناعي والإسكاني لتحفيز القطاعات غير النفطية وامتصاص جزء من زخم الركود الاقتصادي في البلد.
7. الحد من تراكم ديون القطاع الخاص المحلي والأجنبي المنفذ للمشاريع الحكومية لما يولده ذلك من مناخ غير مستقر وغير آمن للعمل والاستثمار في العراق.
8. أهمية إشراك البنك المركزي في إعداد الموازنة السنوية؛ من أجل رفع الضغط عن احتياطي البنك المركزي ومواجهة التحديات المالية والنقدية بصورة سليمة ومشتركة.
9. لأجل الحفاظ على الاستقرار النقدي ينبغي تقنين حجم الاستيرادات والسيطرة على المنافذ الحدودية، وتشجيع الاستثمار الأجنبي وتحفيزه، وتوفير الظروف المناسبة لنموه، فضلاً على بسط الاستقرار العام سياسياً وأمنياً واجتماعياً وقانونياً للحيلولة دون هجرة الأموال إلى الخارج.
اضف تعليق