إن المصارف المتمركزة في دول عديدة تقوم بجزء من عملية الوساطة المالية الدولية عن طريق استخدام جزء من اموال الودائع لديها من مدخرين حول العالم، وذلك لاقراض اشخاص وشركات موجودة في دول أخرى، ونتيجة لذلك نجد أن عدداً قليلاً جداً من المشاريع الاستثمارية هي التي يتم تمويلها بشكل خاص من مصادر محلية، وحتى في الولايات المتحدة نجد أن المشروعات التي تمولها المصارف الامريكية تستخدم في المتوسط خدمات المصارف الاجنبية أكثر مما تستخدم المؤسسات المحلية المشابهة.
وقد يُثار سؤال هنا، في ماهو السبب وجود المصارف الكونية (العملاقة)، وانتشار اعمالها عبر العالم؟ أن احدى الاجابات الممكنة تتمثل في اقتصاديات النطاق وعن طريق زيادة حجم الاصول في المحفظة المالية من خلال التوسع الاقليمي او العالمي، اذ تستطيع هذه المصارف تقليل متوسط نفقات عملياتها (نفقات التشغيل)، وبالتالي تتمتع بالكفاءة، اي أن التفسير الرئيسي لوجود المصارف الكونية يستمد وجوده من مشكلة عدم تماثل المعلومات واقتصاديات النطاق وهو تعبير اقتصادي يشير الى انخفاض متوسط تكلفة الانتاج في الشركة كلما زاد تنوع منتجاتها. ووفورات النطاق مفهوم يقترب من مفهوم وفورات الحجم التي تدفع الشركات لإنتاج حزمة من المنتجات بعضها مع بعض بسعر تكلفة أقل من السعر المتوقع لإنتاج كل منتج على حدة. وبعبارة أخرى فان وفورات النطاق هي التوفير المتحقق في التكاليف عند إنتاج سلع أو خدمات متعددة، في العمليات المصرفية.
إن من السمات التقليدية التي تميز النظم المصرفية الوطنية تلك التي تحدد نطاق السماح بوجود المصارف الكونية، والتي في ظلها يتم وضع الكثير او القليل من القيود التي تحد من قدرة هذه المصارف على تقديم مدى كامل من الخدمات المالية أو على امتلاك أسهم الملكية في شركات الدولة المعنية، وفي المانيا وبريطانيا وكذلك عدد من الدول الاوروبية واجهت هذه المصارف الكونية القليل من هذه القيود.
وفي الولايات المتحدة، نجد أن هناك خطراً على المصارف الكونية منذ عام 1933، عندما أصدر الكونغرس قانون (كلاس- ستيكال)، المبني على أساس تحمل الدولة مسؤولية السيطرة على العملة والإئتمانات وتوجيهها نحو تطوير الاقتصاد الفيزيائي للأمة وليس جني الارباح لثلة من المصرفيين والتجار والمضاربين الذين دمروا اقتصاد الولايات المتحدة بالتعاون مع مصرفيي لندن في العشرينات من القرن الماضي وادخلوا الولايات المتحدة والعالم في الكساد العظيم، وكان قانون جلاس ستيجال قد فرق بين المصارف التجارية (commercial banks) والشركات المالية أو المصارف الاستثمارية (investment banks) ووضع المصارف التجارية التي يودع فيها المواطنين اموالهم وتقرضها البنوك للافراد والشركات لنشاطات اقتصادية فعلية تحت حماية الدولة وضماناتهاوتعويضاتها، بينما لا تحضى الشركات المالية المضاربية بتلك الحماية لأن نشاطاتها مضاربية تخريبية. وقد وفر هذا القانون الاستقرار المالي والمصرفي للولايات المتحدة الذي مكن الرئيس روزفيلت من شن حملته الاعمارية الكبرى في ذلك العقد وأحيا اقتصاد الولايات المتحدة كأكبر وأقوى اقتصاد صناعي في العالم، وكل ذلك عن طريق إئتمانات حكومية طويلة الامد وبفائدة منخفضة موجهة نحو بناء مشاريع بنى تحتية عملاقة كالسدود وسكك الحديد والطرق وقنوات المياه والمستشفيات والمدارس وجلب الطاقة الكهربائية للريف الزراعي الامريكي. وكان المنطق الرئيسي وراء الحظر المفروض على المصارف الكونية داخل الولايات المتحدة هو ارتفاع درجة المخاطر المصاحبة لاسهم الملكية، وذلك بالقياس الى درجة المخاطرة الخاصة بالسندات الحكومية والحكومات المحلية، وهناك سبب اخر مفاده أن وجود المصارف الدولية يمكن أن يتضمن نوعاً من التعارض في المصالح، فضلاً عن العقيدة الامريكية الراسخة منذ أمد طويل والتي تنص على أن المؤسسات المصرفية أشد خطراً من الجيوش.
وقد أشار المؤيدون للمصارف الكونية ولسنوات عديدة الى أن هناك مزايا مهمة مرتقبة يمكن أن تعود على الولايات المتحدة اذا سمحت لهذه المصارف بالعمل في أراضيها، وأحدى هذه المزايا تتمثل في حيازة أسهم الملكية ذات درجة المخاطر المرتفعة يمكن ان تقلل من اجمالي المخاطر التي يواجهها المصرف، وقد يحدث ذلك بحسب وجهة نظر المؤيدين عند حدوث ارتفاع في عوائد الأسهم في الوقت الذي تنخفض فيه عوائد السندات او العوائد من القروض خلال فترات معينة، ان حيازة أسهم الملكية يمكن أن يقلل من درجة المخاطر التي تتعرض لها أصول المحفظة المالية بالكامل.
وهناك تبرير أخر للسماح بدخول المصارف الكونية، وهو أن حيازة أسهم الملكية في بعض الشركات سوف يمكن المصارف من الحصول على معلومات داخلية، ويقصد بها المعرفة التي تتعلق بالشؤون الداخلية لهذه الشركات، وهي معلومات غير متاحة بشكل عام لعموم الناس، ان الحصول على هذه المعلومات يجعل عملية تقييم ومتابعة الجدارة الائتمانية لهذه الشركات مهمة أكثر سهولة، وهو ماينعكس في شكل تقليل نفقات تشغيل المصارف، فضلاً عن أنه من غير المرجح أن تجبر المصارف مثل هذه الشركات على الافلاس عندما تواجه بعض المشاكل التي توضح المعلومات الداخلية انها عبارة عن معوقات قصيرة الاجل في السيولة، وليست معوقات عُسر طويلة الاجل.
وأخيراً، يشير مؤيدو المصارف الكونية الى التجربة الاوروبية كنموذج يمكن تطبيقه على الولايات المتحدة، وبالرغم من القلق الذي يظهره بعض الاوروبيين أحياناً بخصوص إمكانية وجود تعارض في المصالح، الا ان هناك الكثير يوضحون أنهم يشعرون بجني المكاسب من خلال تعاملهم مع كيان واحد في انجاز معاملاتهم المالية، وحتى الان لايوجد دليل قوي على ان الدول التي تسمح بنشاط المصارف الكونية تشهد مخاطر أكبر من تلك التي تسود في الولايات المتحدة، وفي الحقيقة كانت الشكوى التي يرددها عملاء هذه المصارف الكونية من الاوروبيين هي أن ستراتيجيات ادارة المحفظة المالية لدى هذه المصارف تتسم بالتحفظ والرجعية.
وفي عام 1999، اتخذت الولايات المتحدة خطوة كبيرة تجاه تبني النموذج الاوروبي للتعامل مع المصارف الكونية عندما وافق الكونغرس على قانون (كرام – ليتش- بليلي)، والذي ظهر في أواخر عقد التسعينيات من القرن العشرين، والذي سمح بموجبه لأنواع مختلفة من الشركات التي تعمل في قطاع الخدمات المالية في الولايات المتحدة بالاندماج، كما سمح هذا التشريع بتشكيل عناقيد خدمات مالية تقوم بالخدمات المصرفية وخدمات شركات التأمين، وخدمات مصارف الاستثمار، بالاضافة الى أعمال السمسرة، وعليه يمكن القول بأن هناك توجهاً نحو المصارف الكونية، على الاقل بين الدول الصناعية في العالم.
اضف تعليق